كتب / فتحي أبو النصر ..
رئيس تحرير موقع انزياحات ..
بلد ضارب بجذوره في أعماق التاريخ هي اليمن، لها حضور قوي في وجدان الأمة العربية والإسلامية. لكنها اليوم يعيش مرحلة صعبة جدا، مليئة بالتحديات السياسية والاجتماعية. في قلب هذه الأزمة يكمن التحدي الأكبر: ميليشيات الح..وثي التي تصاعدت قوتها، مدعومة بمشروع سياسي مذهبي يهدف إلى تغيير وجه اليمن من خلال فرض مبدأ ولاية الفقيه ونظام حكم يختلف جذريا عن نظام الجمهورية الذي تأسست عليها اليمن الحديثة. السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم هو: إلى أين تمضي اليمن في مواجهة هذا المد الح..وثي؟ وهل سيتسنى لليمن أن يستعيد توازنه أم أن هناك طوفانا من الدماء والمآسي في انتظاره؟
واضح أن ما تعيشه اليمن اليوم ليس مجرد حرب عسكرية بين أطراف سياسية فحسب، بل هو صراع وجودي وأيديولوجي يشمل جوانب عدة: دينية، اجتماعية، وسياسية. الحو…ثيون، الذين بدأوا كمجموعة عقائدية مسلحة في شمال اليمن، سرعان ما تحولوا إلى ميليشيا قوية مدعومة من إيران، تسعى إلى نشر مفهوم ولاية الفقيه، وهو مبدأ سياسي ديني يرفضه غالبية الشعب اليمني. ولا شك أن اليمنيين يدركون تماما أن قبول هذا المبدأ يعني العودة إلى العصور الوسطى، إذ لا مكان للمشاركة الشعبية ولا للحريات، بل حكمٌ استبدادي يتستر وراء شعارات دينية.
والحال ان ما يطرحه الحو…ثيون ليس مجرد حرب من أجل السيطرة على الأرض فحسب، بل هو مشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل هوية اليمن، وهو مشروع يسعى إلى فرض نظام يتناقض مع المبادئ التي تأسس عليها اليمن الجمهوري في 1962، عندما انتفض الشعب ضد الإمامة الملكية، وأعلن عن ميلاده الجديد في دولة حديثة تعيش تحت مظلة الجمهورية والعدالة الاجتماعية.
فالثابت أن الشعب اليمني، الذي كان منذ عقود أيقونة للثوار والمتمردين ضد الظلم والديكتاتورية، يعاني اليوم من استهداف لأساسيات هويته الوطنية. فالميليشيات الحو..ثية تسعى إلى فرض مبدأ ولاية الفقيه، الذي يشكل تهديدا ليس فقط للسيادة الوطنية، بل كذلك للقيم الديمقراطية التي قامت عليها الدولة اليمنية الحديثة. وفي ظل هذا الوضع، تجد اليمن نفسها أمام خيارين: إما الاستسلام لهذا المشروع الذي يهدد حرية شعبها ومستقبل أجيالها، وإما النضال المستمر من أجل الحفاظ على سيادتها وحريتها.
في هذا السياق، نلاحظ أن مشروع الحوثيين ليس مجرد مبدأ ديني، بل هو أداة للاستبداد السياسي والتسلط على الشعب. فعندما تتحدث القيادات الحوثية عن “الولاية”، فإنهم لا يقصدون بها فقط تصعيدا دينيا، بل رغبة في الاستحواذ الكامل على مقدرات اليمن والشعب اليمني.ثم أن هذا المشروع الشيطاني، الذي يعتمد على الإكراه والتهديد، لا يعترف بحقوق الآخرين ولا بقيم العدالة.
ولكن منذ بداية الثورة اليمنية ضد الإمامة، كان هناك رفض قاطع من الشعب اليمني للهيمنة الأجنبية، ولأي محاولة للعودة إلى أنظمة الاستبداد والظلامية. فيما هذا الرفض لا يزال مستمرا في ظل الظروف الحالية. ذلك أن اليمنيون، رغم كل المعاناة، ما زالوا يرفضون أي نوع من الرضوخ للميليشيات الحو..ثية، التي تحاول فرض أجندتها على الجميع، بغض النظر عن التنوع السياسي والاجتماعي في البلاد.
بمعنى آخر فإن العداء لهذا المبدأ الذي يدعو إليه الحوثيون، ليس فقط سياسيا، بل هو رفض لسيطرة فكرية ونفسية على الشعب. فالسلام، كما يراه اليمنيون، لا يمكن أن يتحقق تحت قبضة الميليشيات التي تريد تقويض مبدأ الجمهورية، وتحويل البلاد إلى ساحة للحروب الأبدية تحت شعار “الولاية”. بل ان السلام الحقيقي لا يكون إلا عبر احترام إرادة الشعب وتطلعاته في بناء دولة حديثة، تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة والمساواة للجميع.
على أنه في ظل هذه المعركة الوجودية، لا بد من قيادة جادة تكون قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الميدان. إذ أن الظروف اليوم مواتية لانتزاع اليمن من براثن الميليشيات الحوث..ية، لكن ذلك يتطلب استراتيجية متكاملة ترتكز على بناء تحالفات قوية، سياسية وعسكرية، ودعوة المجتمع الإقليمي و الدولي للوقوف إلى جانب اليمن في هذه المعركة الحاسمة. وبالطبع فإن هذه الاستراتيجية يجب أن تتضمن خططا مدروسة في جميع المجالات: عسكرية، سياسية، اجتماعية، واقتصادية، مع التأكيد على ضرورة تعزيز المؤسسات الوطنية وتحقيق التماسك الاجتماعي بين كافة أطياف الشعب اليمني.
والشاهد إن اليمن بحاجة إلى استعادة قوتها الداخلية من خلال إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، وإنصاف الجميع. ولا شك أن التحالفات الإقليمية والدولية يمكن أن تسهم في هذا المسار، ولكن الإرادة الداخلية هي الأهم. فالشعب اليمني، الذي أثبت مرارا وتكرارا قدرته على مواجهة التحديات، بحاجة إلى أمل جديد يتمثل في قيادة قادرة على دفع اليمن نحو آفاق أوسع من السلام والاستقرار.
في الحقيقة تبدو اليمن اليوم على مفترق طرق. بين الظلام الذي يفرضه مشروع الحوث..يين وبين النور الذي يمكن أن يأتي من مقاومة الشعب وقيادته الجادة. وفي النهاية، الحرب ليست خيارا، بل هي واقع فرضه الحوثيون على الشعب اليمني، لكن الأمل في مستقبل أفضل لا يزال قائما. وكذلك المستقبل سيكون، لا محالة، لليمنيين الذين يرفضون الاستبداد والهيمنة، وللحفاظ على مبادئ الجمهورية التي يسعى الجميع إلى استعادتها.
وعليه فإن هذه المعركة لن تموت سهلة، لكنها بالتأكيد ليست مستحيلة. فعلى الرغم من حجم التحديات، يبقى الأمل في أن اليمن، بمختلف أطيافه، سيتوحد لمواجهة هذا التهديد الوجودي. مع قيادة سياسية قادرة على توحيد الصفوف، وتحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة بناء الدولة اليمنية على أسس قوية وعادلة، يمكن لليمن أن يخرج من هذا الصراع أقوى وأكثر قدرة على استعادة سيادته وحقوق شعبه.
ولكن” متى”؟! ، نعم ” متى ” .. لعل”سؤال “متى؟” هو السؤال الأصعب والأكثر إلحاحا في كل محنة تاريخية. فعندما تتشابك المصالح وتختلط الدماء، يصبح الزمن نفسه محكوما بمعادلة معقدة من المقاومة والصبر. لكن إذا نظرنا إلى الواقع اليمني اليوم، نجد أن الإجابة عن “متى؟” لا يمكن أن تكون بسيطة أو خطية.
فاليمن لم تعد بحاجة إلى أجوبة تقليدية، لأن التاريخ في مسارها الحالي يتطلب من الشعب اليمني أن يكون هو من يحدد لحظة الانتصار. “متى”؟ هو سؤال يتعلق بالقدرة على الاستمرار، بإرادة الشعب الذي لا يزال ينبض برغبة في التحرر رغم الألم.
ومن جانب آخر، “متى؟” هي اللحظة التي تتوافر فيها قيادة جادة قادرة على مواجهة الميليشيات الحو..ثية في ميدان المعركة، مع استراتيجية سياسية واجتماعية متكاملة. متى؟ هي اللحظة التي يجتمع فيها اليمنيون على أساس مشترك، وهي اللحظة التي يجب أن يتنادى فيها الداخل والخارج للوقوف مع الأمة اليمنية التي تأبى الانكسار.
بل في الحقيقة، قد يكون “متى؟” أكثر من مجرد توقيت محدد. فهو سؤال يجيب عنه اليمنيون كل يوم بصبرهم ومقاومتهم. قد يكون الجواب اليوم أو غدا أو في المستقبل القريب ، القريب جدا. لكن ما يهم هو أن تلك اللحظة ستأتي عندما يشعر اليمنيون أنهم قادرون على وضع حد للظلام الذي جلبه الحوثي..ون، وأنهم على استعداد لتوجيه بوصلتهم نحو النور، نحو مستقبل يتسم بالحرية والكرامة.
بالتالي فإن،” متى؟ ” هو اليوم، هو الآن، هو كل لحظة يستمر فيها الشعب اليمني في مقاومته، في ثباته، في رفضه لأي مشروع يعادي هويته الوطنية وقيمه الجمهورية وعلى رأسها” الولاية الناكثة بمبدأ الجمهورية “.
فتحي أبو النصر