ضع اعلانك هنا

شلّة الملابيق لا تسكر بالدم

شلّة الملابيق لا تسكر بالدم

أحمد سيف حاشد

* الصورة لأمي التي شكلت وجداني الأول.

كانت أُمّي تَحكي لنا ـ أنا واخوتي ـ الحكايات الآسرة.. كُنّا وهي تحكي نتابع سردَها كلمة كلمة، منقادين بعد حديثها كمسحورين.. مشدودين إليها بدون وثاق.. وفي كل حبْكةٍ ومُنعطَفٍ في الحكايةِ نتطلَّع شغفَاً لمعرفة المزيد، حتى تصل في سَرْد الحكاية إلى محطتِها الأخيرة، ونهايتها المرجوة.

 

كان تعلُّقنا لا يَنْفَكُّ عن حديثها قبل أنْ تضعَ الحكايةُ نهايتَها السعيدة، والّتي ينتصر فيها الحقُّ على الباطل، والعدلُ على الظُّلم.. نتابع إيقاعها ونحبسُ أنفاسنا حتى نبلغ الذروة. نندمج معها ونعيش أحداثها، ونتابع اشتداد الصِّراع فيها بين الخير والشرّ المُحتدم..

 

نؤْثِر الخير ومعه نحشُد عواطفنا الجيَّاشة طوال سردها حتى تنتهي بانتصاره المفرح، والبهيج بعد كرّ وفرّ ومغالبة.. إنها حكايات تستحق منا تلك المتابعة والتذوق والاندماج.

 

كان وجداننا مُرهفاً، وعقولنا طريَّة، ومُستقبلاتُ وعينا حساسةً ولاقطة.. كانت تلك الحكايات تجعل الخير زاهياً وأخَّاذاً، فتنميه في وجداننا، وتدعونا للانحياز له، وتحثنا على فعله، ومن جانب آخر تنمّي كراهيتنا ضدّ الظُلم والباطل والشرور، وتحثُّنا على مقاومتهم والاستبسال في مواجهتهم دون يأس أو استسلام.

 

كانت تهذّب أخلاقنا وترعاها يوما بيوم.. تنمّي عواطفنا وسويتنا.. تؤنسُنَا وتنمِّي مشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا المُرهفَة..

 

أنا بعض منك يا أمي، ما زلتُ إلى اليوم كما كُنتِ ترجين وتتمنين.. أقارعُ الظَّلم والشُّرور، وأنتصر للخير، والناس الطيبين والمتعبين المكدودين، أو هذا ما أظنُّ أنَّني أفعله يا أُمّاه.

 

ما تحكيه لنا أمّي كان سويّاً إلى حدٍّ بعيد.. جاذباً لنا، ومؤثراً في وجداننا، ووقْعُه بالغٌ في نفوسنا.. كانت تنبشُ حكاياتِها من التُّراث المُتداوَل والوعي الشعبي المنقول والمتناقَل شفاهة.

 

من الحكايات الَّتي روتْها لنا قبلَ أكثر من خمسين عاماً في مساءاتنا وليالينا الدَّامسات والمقمرات: الحُميد بن منصور، وعبد الرحيم، وحمامة المراميد ،والعجوز الكاهنة، و“الجرجوف”، والذِّئبة، وأبو نواس، والسبعة الإخوان.

 

كنّا نُنصت ونتسمَّر أمامها وهي تحكي، وكأنها بوذا ونحن تلاميذه.. كنتُ غالباً أعيش المشهد الّذي تحكيه كما هو.. أتقمَّصُ في نفسي وأنا أستمع شخصية أحد أبطال الحكاية الخيرين.. أعيش الدور حتى يبلغ ذروته.. أنحاز إليه وأتقمصه واتماهي في شخصيته.. أتفاعل مع انفعالاته وإيقاعاته.. أتابعُها كما يُتابع الجدول مجراه.. أتُوقُ للنِّهايةِ لترتاح نفسي، وأبتهج، وأنام بعدها بهدوء وسكينة.

 

كانت تسيلُ الدُّموعُ من عيوني، وتَنساب بصمتٍ على خُدودي، ويَعلق بعضها في شفتي، أشعر بسخونتها وأطعم ملوحتها، أعرف دموعي كما أعرف نفسي، وكان لليل فضيلته؛ لأنه يسترها ويواريها عن أمي وأخوتي، كما كان لأسلوب أمّي السردي الجاذب فضله الآخر، حيث كان يشدُّ انتباه إخوتي بحيث تمنع تطفلهم على عيوني ودموعي، وانفعالاتي المكبوحة.

 

تفاجأتُ بعدها في شبابي أنّ بعض تلك الحكاياتِ مدوَّن في كتاب “حكايات وأساطير يمانيَّة” للكاتب “علي محمد عبده”، وعند المقارنة وجدت في حكاية أمي بعض الزِّيادة والإضافات، لربّما جاءت بها من خيالها، أو أضافها خيال من تلقَّت عنه قبلها.

 

***

 

أستطيع أن أتخيل أمي في السنة الأولى من عمري وهي تعلمني النطق والكلام.. الله الله.. أماه أماه.. أباه أباه ..

 

وعندما صرت طفلا كانت أمي تحدِّثنا عن الله، وعن محمد، وعلي، والملائكة، وكل ما تلقته من أبيها الزاهد والولوع بقراءة القرآن.. كان يحدّثها عن قَصص القرآن وبعض تعاليمه وتفسيراته.. كانت تستهويني قصةَ مريم وابنها عيسى، ومعجزات هذا النّبي الّذي علِقتْ بعض من سيرتِهِ المؤثِّرة في ذهني إلى اليوم.

 

وعندما كبرتُ تفهَّمتُ لماذا قال المسيحُ – وهو يعاني من سكرات الموت عند صلبه – “ربِّي لماذا تركتني؟!”.. وتأثرت بتلك العبارة الخالدة له “من ليس له خطيئة فلْيرمِها بحَجَر”.. تعاطفت مع من فقد أباه. أرأفُ باللُّقطَاء الّذين لا ذنبَ لهم.. أنحازُ للضَّحايا أيّاً كانوا.. أتفهمُ الأخطاء وما تجنيه الحياة على الإنسان.

 

فهمتُ معنى أنْ يعيشَ ويموت الإنسانُ مظلوماً، أو مقاوماً للظُّلم والسُّلطة المستبدة.. عرفتُ ما وصل إليه المسيحُ من مجدٍ وخلودٍ بعد موته أو بعد “العُرج به”.. غير أنّني حزنتُ أكثر عندما تمّ استغلال اسمه واستثمار دمه من قبل بعض الممالك، والإمبراطوريات المستبدّة، والأوغاد الّذين حكموها، وكيف تمّ قهر الشعوب واحتلالها، واستغلالها تحت مسماه، وكيف صارت المسيحيّة جحيماً ومحارِقَ يُلقى فيها أحرارُ الفكر والعلماء، والمتنورون!!

 

***

 

كانت أمي أيضاً تُحدثنا أنّ الله يرانا أينما كنّا، وأنّ لكلٍّ منَّا مَلكين، أحدُهما في يمينك يكتب الحسنات والآخر في يسارك يكتب السيئات.. كنت أكثر ما أذكر هذا بخلوتي في “الحمّام” عند قضاء الحاجة، أو ممارسة العادة السرية، والتي كانت أمي تحذرني منها، وتقول لي أن يدي ستأتي حاملة ومتورمة بحملها يوم القيامة.. وظل هذا الأمر عالقاً في ذهني، شديد الحضور حتى بعد البلوغ.

 

ورغم تحذيرات أمي لم أكثرت، حيث أوغلت فيها واعتدتها وربما أدمنتها طويلاً.. كلما قررت بعد ارتكابها أنني سأقلع عنها للأبد، وجدت نفسي أعود إليها بعد حين غير بعيد باشتياق واشتهاء أكبر وأكثر من سابقه.

 

“والشيء بالشيء يُذكر” فقد تذكّرت هذا وأنا أقرأ رواية الخلود لـ”ميلان كونديرا” وفيها أنّ الأم المؤمنة كانت تحث ابنتها على قلع بعض العادات الّتي التصقت بها حيث كانت الأم تقول لابنتها: “الرّب يراك” آملة بذلك أن تنتزع منها عادة الكذب، وعادة قضم الأظافر، وإدخال أصابعها في خياشيمها، فيما حدث العكس، وهو الذي كان يحصل.. لم تكن تتخيل الرّب تحديداً، إلّا في هذه اللحظات التي كانت تمارس فيها عادتها السيئة، أو في لحظات خزيها.

 

أنا أيضاً كنت أذكر الرب حالما أفعل ما حذرتني منه أمّي.. أمارس العادة وأعاودها رغم رقابته وأشعر عقبها بالخيبة والندم الأشد، ثم أعدُ نفسي وربي أن تكون المرة الأخيرة، ولكني أعود إليها أكثر اشتياقاً واشتهاء ولذة.

 

***

 

كانت أمّي أيضاً تحذرنا كثيراً من شرب الخمر، وتَشُنُّ عليه وعلى شاربه، وحامله، وبايعه، حملة غاضبة أكثر من غضب الرب. كراهية لا أدري من أين تسلّلت إليها، ولم تكن تعلم أنّ ابنها بعد خمسين عام سوف “يهشتج” “شلّة الملابيق لا تسكر بالدم” رداً على استهدافه هو ورفاقه، واحتجاجاً على سوء الأوضاع، وعلى الدَّم الّذي يُكرع ويُسفك بجنون غير مسبوق، بعد أن وجدنا الحياة التي يُفترض أن تكون أفضل قد باتت أكثر من بائسة، والرأس الذي حرصنا عليه من الرشح والصداع، قد بات هو بخساً أو دون قيمة، يُزهق أو يُفجر برصاصة ربما تأتيك من بائس أمّيِّ الفكرِ والثقافةِ، وربّما ممّن لا يجيد القراءة والكتابة، فيما الأوغاد يديرون المشهد من بُعدهم الآمن والمحصّن.

 

***

ـ من مذكراتي

ص. احمد سيف حاشد

ضع اعلانك هنا