باختصار شديد طريق الحرير هو طريق بري ضخم يربط قارات العالم الثلاث بريا عن طريق سكة قطار هي الاكبر في العالم، يتضمن المشروع مجموعة كبيرة من الجسور الضخمة والموانى العملاقة التي ترتبط بالطريق بشبكة من الطرق الرئيسية والفرعية وتغطي اكثر من ٧٢ دولة و٧٥% من سكان العالم، المسألة هنا لا تتعلق بسكة قطار تقليدية وانما منظومة متكاملة من المدن الصناعية والسدود العملاقة وتقنيات زراعية جديدة وخطوط انتاج ونقل الكهرباء مبتكرة بالاضافة الى خطوط نقل نفط وغاز تعيد تشكيل اسواق الطاقة بشكل حرفي بالاضافة الى ان الطريق نفسه يمر بأهم مناطق انتاج الموارد الطبيعية وينقلها للدول المصنعة ويعيد توزيع المنتجات بريا للاسواق، اعلن عن المشروع رسميا عام ٢٠١٣م من قبل الرئيس الصيني شي جينغ بينغ وخصص للمشروع مبلغ ٣ ترليون دولار (٣ الف مليار دولار ) تمولها مجموعة من الصناديق والبنوك ، يستند المشروع لهيئة سياسية دولية هي مجموعة دول البريكس وهيئة قانونية تفصل بقضايا اي نزاعات دولية هي محكمة شنغهاي الدولية وايضا بنك دولي يقدم القروض الخاصة بالمشروع هو بنك شنغهاي وصندوق الحرير وهما يختصا ايضا بانشاء نظام مالي عالمي جديد ويهدف لاستبدال هيمنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الدول التي يمر بها المشروع، ترافق المشروع ايضا مجموعة من الهيئات الدولية المنظمة التي تشمل قوانين تجارية جديدة وهيئات مساعدات اممية جديدة ومنظومة اعلامية وثقافية مختلفة.
لماذا يمثل هذا المشروع تحدي حقيقي ووجودي بالنسبة لامريكا ؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب العودة لفكرة ماكيندر وهو عالم الجغرافية السياسية البريطاني الذي صاغ في بداية القرن العشرين فكرة الجغرافيا السياسية في العالم من خلال ٣ كتب اهمها “البحور البريطانية”، حيث قال ان العالم ينقسم الى قوى بحرية عضمى وهي كانت في ذلك العصر بريطانيا وفرنسا حيث تحتل تلك الدول الجزيرية وشبه الجزيرية كل بحار الارض وطرق الملاحة الرئيسية التي تنقل كل بضائع وجيوش وتجارة البشرية جمعاء، والامر مستمر حتى اللحظة، وفي المستقبل ايضا، لكن هذا ما تحاول ان تغيره الصين الان.
حسنا، هيمنت بريطانيا على العالم وبعدها امريكا كانت الوريث الشرعي للقوى البحرية العظمى وبحارها، يستلزم السيطرة على البحار وجود قوات بحرية متقدمة واعادة توطين مراكز التجارة والمدن والعواصم في البحار ليسهل السيطرة عليها كما ترتكز العملية على اعتماد على تقسيم العالم الى بلدان منتجة (مصانع) وبلدان ادارة وتمويل (مصارف) وبلدان توفر القوى العاملة وبلدان ريعية تبيع مواردها الطبيعية باسعار عالمية عن طريق التسليم للشواطئ بينما يكون الجميع مستهلك، تلعب امريكا في هذة الحالة هي حكومة العالم التي تضبط الامن وتنظم القوانين وتفرض النظام وتتاكد من سريانة.
يحتكم النظام العالمي السائد على مجلس الامن ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدولي والقوانين الدولية المنظمة وهيئات المساعدات المصاحبة بينما ترتكز قوته على حاملات الطائرات والطائرات الحربية والحروب الخاطفة واستراتيجيات الفوضى العميقة التي تدمر النظام المستهدف قبل اطلاق اي رصاصة. تكون الدول البرية البعيدة عن طرق الملاحة هي دول عدوة ومستهدفة وخطر كبير لصعوبة الوصول اليها عسكريا واستخدمها لفلسة عسكرية مختلفة تعتمد على الجنود والدبابات والصواريخ والمروحيات والمدفعيات وترتكز قوتها على المقاتل الفرد الذي يمثل محور ارتكاز الجيش البري ، رسم ماكيندر عن طريق علم الجغرافيا السياسية فكرة السيطرة والية عملها وطريقة ادارة العالم من قوة منظمة واحدة. تحدث مكيندر ايضا عن دول مثل المانيا وروسيا والتي تمثل القوى البرية العظمى وهي محور الخطر خلال القرن العشرين من خلال كتابه الذي اصدار عام ١٨٩٦م، بينما حذر من الصين الذي اعتبرها الخطر الاكبر على العالم لانها قوة برية وبحرية بنفس الوقت وتمتلك امتيازات القوتين بالاضافة الى امتلاكها عنصر التاريخ والثقل الديموغرافي الهائل، وكما توقع كان حديثه عن الصين في المستقبل البعيد الذي جاء الان !
فكرة الجسر البري العالمي لم تكن جديدة !
اقترح الالمان هذة الفكرة بالتزامن مع بداء استراتيجية السيطرة الكاملة التي كانت بريطانيا قد بدأت في تطبيقها في العالم بعد ان احكمت السيطرة عليه فكانت لالمانيا فكرة قطار برلين بغداد الذي كان يرغب بكسر احتكار القوة وطرق الملاحة البريطانية من خلال تحالف بين جميع الدول الداخلة ضمن الطريق والذي كان يهدف للانتقال لإستراتيجية القطارات الاسيوية، كانت تلك الدول هي بروسيا والمانيا وبلغاريا والمجر والامبراطورية العثمانية والتي كانت تطمح لتأمين السيطرة وعدم السماح للتحالف البريطاني الفرنسي البحري اختراقه والذي ادى بالنهاية الى نشوب الحرب العالمية الاولى والتي خسرها ذلك الحلف نتيجة لعدم اكتمال الطرق الرابطة بين الانضول والعراق واستهداف قطارات الإمدادات من قبل حلفاء بريطانيا في الجزيرة العربية والشام.
حاولت المانيا مجددا اعادة احياء الفكرة من خلال السيطرة الكاملة على اوروبا ثم اغلاق بحارها ونجحت جزئيا لكنها عادت للتورط مع قوة برية مماثلة وهي روسيا ادت لنهاية دامية ومدمرة للفكرة التي تبناها هتلر لاحقا بعد ان فشلت التجربة الاولى وأدت الى اعادة تشكيل العالم وفقا لاتفاقية سايس بيكو ثم انتهت الامر بان سيطرة القوى البحرية العظمى على العالم واقتصاده وعملته ومؤسساته بعد الحرب العالمية الثانية لتكتمل السيطرة وتنتهي من اعداد ما سيقوضه حيث استدعى الصراع مع السوفيت دعم فكرة مصنع العالم في شرق اسيا في ظل وجود نظام صيني شيوعي قوي ليصل العالم الى عام ٩٠ وفقا لترتيب جديد وحاجة جديدة للحفاظ على القوانين وعلى سريان النظام العالمي الجديد.
التجربة الصينية!
يقول سمير امين ان التجربة الصينية والمتمثلة بخليط من الرأسمالية والاشتراكية ليست فكرة جديدة ابتكرها دينغ شياو بينغ والمتمثلة بنظام اشتراكي يتداخل مع اقتصاد السوق الحر تقوده مناطق اقتصادية محررة مثل شنغهاي بينما في الداخل تبقى الدولة والمجتمع شيوعي بنظام حزب واحد تخطط الدولة لكل شيء ، بل الفكرة قديمة جدا فالصين دائما كانت ما تصنع مدن عازلة لتحمي مجتمع ما خلف السور قديما من العالم الخارجي ، بنا احد اباطرة سلالة هان المتاخرين المدينة المحرمة خارج سور الصين لاسباب عدة منها ان تكون وسيط للتجارة العالميةبحيث تبقى الاسواق الداخلية محتكمة للانظمة الصينية الوطنية، وايضا اعتبر الصينيين ان لا حاجة لدمار الصين بالكامل تستسلم الصين لمن يحكم المدينة المحرمة وهي المدينة المحوطة بسورها الخاص ويحميها نخبة مقاتلي الصين وتقع خارج السور وتوجد في المدينة مدارس تعليم فنون القتال وهي من انتجت كل الفنون القتالية الصينية التي نعرفها اليوم.
اعتمد دينغ التجربة الصينية القديمة وحدد المدن ذات الارث الإستعماري مثل شنغاهاي ولاحقا هونغكونغ وماكو لتكون المدن المحرمة الجديدة والطريقة التي يتم عزل الصين الداخلية الشوعية عن الصين الرأسمالية ثم تعددت المدن لتشمل نماذج لمدن محرمة مصغرة في كل اقليم.
ادركت الصين مخاطر تهديد النظام الاقتصادي العالمي وتدرك ايضا ان القنبلةالنووية صنعت لمنع حروب عالمية جديدة ولكن يشمل المنع الدول التي تمتلكها فقط ثم امتلكت الصين القنبلة التي تجعل اي حرب قادمة تعتمد على السلاح التقليدي حيث يكون الخيار النووي هو الخيار الاخير الذي يقضي على الكرة الارضية، والذي يراهن الجميع على عدم استخدامه ابدا، ولكن يدرك الصينيين ان التوازن في القوة مع اي قوة في العالم يجب ان يعتمد على معادلة الرصاصة بالرصاصة والصاروخ بالصاروخ وانه يجب ان تتفوق عسكريا على جميع القواعد الامريكية المحيطة بها وفقا لمبداء ساعة الحرب الاولى ويقصد بها انه في حال نشبت حرب في هذة اللحظة فلمن ستكون القدرة التدميرية الكبيرة في اول ساعة من الحرب، وضعت الصين نصب عينها مشكلة الصواريخ البالستية وقصر المدى وعدم فاعليتها للتدمير الكامل الا بكثافة مرتفعة جدا وقامت بنمذجة عسكرية متقدمة لتحل مشكلة التفوق قبل العام ٢٠٢٠م ويعتقد الكثير من الخبراء ان الصين انجزت هذة المهمة في ٢٠١٧م.
*ستذكر جميع المصادر في الجزء الاخير
اسامة عبدالرحمن جميل