فصامُ منظومة إنتاج الضحايا
حرب غزة التي فضحت ازدواجية الغرب ومعاييره
محمد الكرامي
لا يتردد العديد من المشاهير في الغرب عن الحديث حول معاناتهم فيما مضى، لما يحمل ذلك من تعاطف مجانيّ وانحياز مطلق. منحت وسائل الإعلام الغربية أنموذج الضحية جاذبية غير عادية، خاصة إذا كان من أصول “مهمّشة”؛ والتهميش هنا لا حصر له طالما أنت من دولة عالمثالثية. وهذا الحديث طبعًا لا يقتصر على النجوم فحسب، بل أيضًا يشمل الناجين من الحروب. وضمن منظومة “إنتاج” الضحايا، عبر سرد التجارب الذاتية، الذين يقدمون محنتهم بوصفها حاضرًا معيشًا لا ماضيًا مطويًّا، يقدم الغرب “الإنساني” نفسه بوصفه مُنقِذًا للضحايا والناجين بمعزل عن التعقيدات السياسية والاجتماعية.
الأمر نفسه ينطبق على السينما، تحديدًا أفلام المهرجانات، حيث لا يمكن فصل عرض الفنان بشاعة بيئته وأزماتها، عن هذا المنظور؛ لأن الأخير، يشعر أنه ساهم في حل هذه المعاناة، الفردية والاجتماعية، بمجرد أنه شهد عليها. ولكن لا تُقدم هذه الحلول السحرية فقط لمجرد شعور “الآخر” بالذنب، بل بوصفه مُخلّصًا، لأنّ الحديث عن الظروف التي تصنع الضحايا، تعني أن رحلة الشقاء قد انتهت غالبًا، وعلى يد هذا الآخر الغربي.
هذا الانفصام في الموقف، يسير جنبًا إلى جنب مع أصوات الأكاديميين اللادينيين، من أمثال ريتشارد دوكينز، وسام هاريس، الذين ظلوا يصدعون رؤوسنا بأن الخطاب الديني هو المحرك الرئيسي لكل الحروب، وبالوقت نفسه لا يتحرج أيٌّ منهم في دعم دولة إسرائيل التي تقوم على أساس ديني، وتغطية جرائمها المستمرة منذ أيام في غزة.
منذ الستينيات على الأقل، قدّمت السينما الأمريكية أبطالًا هم ضحايا لمجتمعاتهم الغربية، إذ انتشرت بشكل ملموس الرموز السلبية للحلم الأمريكي في السينما والأدب. ومع ازدياد شعبية السينما الأمريكية المستقلة، وكذلك الثقافات الأدبية والاجتماعية المضادّة، صُوِّرت الوعود المرتبطة بالحلم الأمريكي -بإمكانية اقتصادية غير محدودة، وعدالة اجتماعية، وحرية فردية- بشكل متزايد على أنها وعود كاذبة وخادعة. غير أنّ الألفية الجديدة منحت بكوارثها السياسية موادًّا ثرية لتمديد هذه الأنواع الفنية، ولكن بضحايا من خارج هذه الجغرافية، صحيح أنّ هناك العديد من الأفلام التي تناولت تجارب الجنود الأمريكان كضحايا لسياسات حكومتهم التي انخرطت في حروب طائشة، إلا أن هناك دومًا غاية أسمى تمنع لغة الإدانة المطلقة.
جدل الأكاديميات الغربية
في واقع اليوم، يرتبط التقسيم بين الشرق والغرب بهذا الخطاب الإنسانوي، حيث يتم تصوير الغرب كمحطة أخيرة، يتوقف فيها الضحية للحديث عن معاناته، التي انتهت بوصوله إلى الضفة الأخرى من ذاك العالم الجائر والموحش؛ الذي هو الشرق. لا تقول هذه الرواية أنّ هذا الناجي ربما كان ضحية احتلال أمريكي في العراق أو أفغانستان أو استيطان إسرائيلي في فلسطين.
كان الجدل الدائر في أروقة الأكاديميات الغربية في أواخر القرن الثامن عشر عن تقسيم الشرق “الروح” والغرب “العقل” في الكثير من الأدبيات الغربية؛ ولكن هذا التقسيم أصبح اليوم أمرًا مفروغًا منه، فلم يعد الشرق كما يبدو صالحًا أو مؤهلًا للعقل (بسبب الحروب الأهلية والصراعات المستمرة)، ولا للروح (اضطهاد الأقليات وغيرها من الانتهاكات الدينية)، وتبعًا لهذا، صار الحديث عن الغرب الإنساني والشرق المتوحش، من دون اهتمام باللاعبين الإقليميين والدوليين في صناعة وتكريس الحروب. في اليمن مثلًا، مكّنتْ مزايدات الأمم المتحدة الإنسانية جماعةَ الانقلاب الحوثية (أنصار الله) من السلطة؛ حيث ظلت تتعامل مع الملف السياسي من جانب اقتصادي حتى وإن اقتضى الحال تعقيد الأزمة اليمنية عبر التعامل معها وفق منطق إنساني باعتبار أنها مجاعة إنسانية، وليست أزمة سياسية سببها كان، وما يزال، جماعة دينية متخلفة ساهمت الأمم المتحدة في تمكينها في السلطة. وبرغم ما يحقّقه الغرب من مزايدات إنسانية وتعميق للأزمات السياسية، من الواضح أنه لا يمكن المسّ بصورة الغرب “الإنسانية”، ولكن يبقى هذا جزءًا من منظومة متكاملة تعمل بشكل كارثي.
تكشف الأحداث في غزة اليوم زيفَ هذه الصورة للغرب الذي يدعم الحريات ويمكن الضحايا من الحديث عن مأساتهم، حيث تتجاهل وسائل الإعلام الغربية منذ أيام -كما هو الحال منذ عقود- جرائمَ الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يَستثنِ لا أطفالًا ولا نساءً في قصفه مدينة غزة. تفضح هذه المجازر تورط الغرب، ليس بتكميم وقمع أصوات الضحايا فحسب، بل إنه مشارك رئيسي في صنع مأساتهم، وإخراسهم عن الحديث فقط لمجرد أن المأساة ليست عربية – عربية.
التحول في الحديث عن التجارب
هذا الانفصام في الموقف، يسير جنبًا إلى جنب مع أصوات الأكاديميين اللادينيين، من أمثال ريتشارد دوكينز، وسام هاريس، الذين ظلوا يصدعون رؤوسنا بأن الخطاب الديني هو المحرك الرئيسي لكل الحروب، وبالوقت نفسه لا يتحرج أيٌّ منهم في دعم دولة إسرائيل التي تقوم على أساس ديني، وتغطية جرائمها المستمرة منذ أيام في غزة، حيث يبرر هاريس هذه الجرائم باعتبار أنّ كل الحروب البشرية لا يمكن تمييزها أخلاقيًّا، ومن ثَمّ يردد الرواية الغربية بأن حماس تستخدم المدنيين كدروع بشرية، ويغفل أن الإبادة ضدّ الفلسطينيين أنفسهم، وليس ضدّ “حماس”، فيما صرح هوبكنز في تغريدة له أن مهاجمة حركة حماس للإسرائيليين هي أفعال وحشية. الأمر نفسه مع عالم النفس الشهير جوردان بيترسون، صاحب كتاب “خرائط المعنى: هندسة الإيمان” حول المعتقدات الدينية ودورها في تحريض دوافع الإبادة الجماعية، إلا أنه عند أول قنبلة إسرائيلية في غزة، كتب: “اقذِفْ بهم في الجحيم يا نتنياهو، يكفي”. وفيما يتكشف يوميًّا زيف الصورة الغربية، سواء في دعم الضحايا أو دعم الحريات، يتصاعد خطاب التحريض على الفلسطينيين الذين يعيشون أسوأ كارثة إنسانية تحت أنظار العالم.
هذه الحرب الوحشية في غزة، تجعلنا نستطيع أن نفهم كيف وقعت المجازر الجماعية والإبادات التاريخية في الماضي دون أن يتحرك لأحد ساكن، لأنّ هنالك دومًا تبريرات لكل هذه الممارسات. وبرغم إصرار الخطاب الغربي على الحديث بصيغة حقوقية وقانونية، فإنه يلتزم بدعم وتمكين الضحايا، شريطة أن يكون الفاعل من دول العالم الثالث. فحالما تختلف هوية الجاني، يتحول الغرب من محطة للضحايا للحديث عن تجاربهم ومعاناتهم، إلى شاهد ومراقب ومشارك أساسي في معاناتهم.
•••
محمد الكرامي
المادة خاص بمنصة خيوط