ضع اعلانك هنا

عن حارس عمارة في التسعين

عن حارس عمارة في التسعين

رشيد سيف

قادة هذه البلاد يشبهون كثيرا بواب أو حارس العمارة التي سكنتها منذ العام 2016م. هذا البواب لا يود التعرف على أحد، ولا يهمه الأشخاص، وهوياتهم، واهتماماتهم، ولا يفكر ما هي أعمالهم، ولا صلاحهم أو فسادهم. همه الوحيد ندركه نهاية كل شهر، إذ يباشر الكل عند البوابة الرسمية بالتحذيرات الآتية: “جهزوا الإيجار. سأرفع عشرة آلاف ريال من الشهر القادم. الكهرباء ستنقطع من الأسبوع القادم. الماء قد لا يأتي لأيام، وهكذا”.

 

أن تأتي بشخص جديد لا يهم، في الغالب لا يدرك ذلك. أن تصرخ وتزعج الآخرين لا يعنيه. الخدمات ليست ضمن اهتمامه. لا يمتلك كمسؤول عن عدد من الشقق يسكنها الكثير أي شعور إنساني أو اجتماعي. منذ دخلت السكن أحاول بناء صداقة معه، وهذه عادتي مع كثير من الناس بالمحيط الذي أعيش فيه، ولكن الرجل لا يقدر ذلك مع الأسف، يقتل أملك، طموحك، اندفاعك، حتى أن غياب أو وفاة أحدهم لا يعني الرجل، لا يسأل إطلاقا ولا يبد أي اهتمام بمن يأتي ويذهب. العقود لا تجدد منذ فترة طويلة، الكثير من الزملاء أكملوا تعليمهم وأصبحوا مهندسين، وصحفيين، وأطباء، وغيره، ولكن هذا لا قيمة له لدى الرجل، إنه دُنبوع يشبه كل من صعدوا على أوجاع أبناء البلد وأصبحوا يحكمون ويمرحون ويأتون ويذهبون دون العناية بأحد إلا في مصالحهم وضمانات بقائهم في رأس الهرم الهش.

 

سئمت من سؤاله الدائم طيلة هذه السنوات: “في أي شقة تسكن؟ ومن المسؤول عليكم؟” إنه سكران دون نبيذ، مخمور بلا مصدر. حتى اليوم لا يعرف اسمي، ولا ماذا أعمل، وأين، ولم يسأل إطلاقا. لديه إجابة واحدة عن جميع الأسئلة، إجابة يقولها ببرود لا يطاق، بلا حيوية، ولا أي شعور بالتفاعل والأهمية، مملة، جامدة، بلا صوت ولا قلب: “بنشوف”. نعم، في كل مرة يردد: “بنشوف”. يشبه الريس عبدربه كثيرا، لا يحدق تجاهك، ولا يبذل أي جهد لمعرفة الشخص الذي أمامه، حتى السلام يرده بصعوبة.

 

منذ دخلت العمارة لا أعرف ماذا يحرس؟ لا تجده في أغلب الأوقات، أظنه يذهب للموت زمنيا في غرفته، لذا لا يجيب، لا يرد على الهاتف، لا يبادر، بل على العكس يستمتع بمعاناة من في العمارة ككل. الفرق بينه وبين قادة هذه البلاد أنهم موزعون في عواصم العالم ومدنه، وهو في غرفة ما بالعمارة الهشة والمظلمة والجميلة، حتى في أي شقة، وبعد ذلك في أي غرفة، لا نعرف منذ العام 2016م. أيضا الرجل لا يصدر بيانات، ولا أدري سبب ذلك: هل عدم خبرة، أو تكاسل؟

 

بواب العمارة في شارع التسعين، كقادة البلاد ككل، غامض ومعقد، لا ينتمي للدبلوماسية والسياسة البتة، كالذين شبهته بهم تماما. قلت “معقد” لتتعرفوا عليه بسرعة أكبر، فبلا شك لدينا نماذج كثيرة ونراها على الشاشات يوميا.

 

كم أكره الأشخاص القادرين على تجاوز من حولهم بهذه الطريقة، طريقة المسؤول اليمني مع الشعب. بكل تأكيد ثمة تجاوز خلاق، مقبول، مرن، تجاوز نمارسه حينما يفيض الكأس، وهذا نحتاجه جميعا، أما التجاوز العنيف وغير المهذب والصامت يذكرنا بمأساة مريرة نعيشها مع اللصوص والدنابيع منذ سنوات.

 

المهم أني وصلت إلى قناعة كبيرة هي أن مأساتي تبدأ من تجاهل بواب العمارة وتنتهي عند البيانات الرسمية.

 

في النهاية، أعتقد أن مأساتنا لن تستمر إلى الأبد، سوف يأتي يوم ويغادر الحارس مهامه، وكذلك سيفعل العاهات في هذه البلاد، أو سنغادر نحن، كما فعلت أنا تماما، بعد سنوات من “فقش” القلب.

 

#من الارشيف

ضع اعلانك هنا