ضع اعلانك هنا

ثيمة المكان في ” كِتاب تعز”

 

ثيمة المكان في ” كِتاب تعز”.

ثيمة المكان في ” كِتاب تعز”.

 

كمال شعلان _ ريشة

 

صدر مؤخرًا الديوان الشعري الثالث للشاعر اليمني فخر العزب، والذي حمل اسم “كتاب تعز” عن دار عناوين بوكس، القاهرة 2023، حيث سبق للشاعر أن أصدر ديوانه الأول “على قبر أمي” عن دار نشر جامعة صنعاء 2015، وديوانه الثاني “فراغات الوحشة” عن دار أروقة للدراسات والنشر، القاهرة، 2023.

 

الغلاف والإهداء

 

وجاءت لوحة الغلاف للفنان التشكيلي وليد دله، وهي لوحة تشكيلية لجامع الأشرفية الذي يعد واحدًا من أبرز المعالم التاريخية لمدينة تعز، وبجانبه منازل المدينة القديمة التي تمتد على مدى النظر، لتكون لوحة الغلاف بمثابة بوابة الدخول إلى الديوان الذي حمل اسم كتاب، بما يوحي هذا الاسم من معاني الشمول، وكأنه يخبر القارئ أن هذا الديوان الشعري هو كتاب شامل عن تعز.

 

الشاعر أهدى كتابه إلى “العاشق الذي نصف دمه بلازما ونصفه تعز : الدكتور أمين أحمد محمود” وهي شخصية سياسية ومثقفة شغل منصب محافظ المحافظة خلال العام 2018، وكان من الشخصيات المؤثرة من وجهة نظر الشاعر، بما يوحي أنه من أكثر الشخصيات التي حملت محافظة تعز على عاتقها، وترك فيها بصمة لا تمحى.

 

ثلاثة أجزاء

 

وحتى يكون الكتاب شاملا لفكرته فقد عمل الشاعر على تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء، جاء الجزء الأول تحت عنوان “عدينة” وهو الاسم التاريخي لمدينة تعز، واحتوى على قصائد عامة عن تعز، ويضم ثلاثة عشر نصاً شعرياً هي “فخر الفداء، مدينتنا، مدينة الهوى، شاعرية، شمس المدائن، عشق مدينة، تفرد، أنا من تعز، اشتياق، المدينة الأنثى، هطول، لحنٌ خالد، بحث عن تعز البهية”.

 

فيما جاء الجزء الثاني تحت عنوان “معالم” واحتوى على قصائد تتحدث عن معالم المدينة التاريخية والسياحية، ويضم أحد عشر نصًا شعريًا هي “الأشرفية، لوكندة المحبة، لوكندة وهران، قلعة القاهرة، جبل صبر، جامع الجند، باب موسى، شجرة الغريب، الشنيني، منتزه السكون، وادي الضباب”.

 

وجاء الجزء الثالث تحت عنوان “بورتريهات” تناول فيه الشاعر شخصيات في الجوانب المختلفة والتي تركت بصمتها في الجوانب الدينية والتاريخية والثقافية والفنية والسياسية والعسكرية وكذا شخصيات تمتاز بشهرتها وارتباطها بحياة الناس اليومية رغم بساطتها، ويضم ثلاثة عشر نصاً شعرياً هي “عبدالغني مطهر، بائعة القات رباب، هاشم علي، علي مدرة، الفضول، قشنون، أيوب طارش، عدنان الحمادي، أحمد بن علوان، جباح، عبدالحبيب سالم، الشبزي، دحباش”.

 

يعد فخر العزب من أبرز الأصوات الشعرية الشابة في اليمن، يكتب الشعر وينشغل بالصحافة، فقد ولد في جبل صبر بمدينة تعز 1987، ودرس في كلية الإعلام جامعة صنعاء 2011، فبالإضافة إلى نشاطه الثقافي والإعلامي، فله حضوره السياسي، حيث يشغل عضوية اللجنة المركزية للتنظيم الناصري، كما أنه من أبرز قيادات ثورة 11 فبراير الشبابية الشعبية، وعضو لجنتها التنظيمية بساحة التغيير بصنعاء.

 

منذ بدايات الشعر العربي وتحديدا العصر الجاهلي، امتلك المكان أهمية كبيرة في بناء القصيدة، فقد كان الشاعر الجاهلي يقف على الأماكن والأطلال، ويقوم بتشخيصها لتكتسب صفات الحياة والخلود، وليتبادل معها الكلام فيشكو لها لواعجه وهمومه، ومن هنا اكتسب المكان أهميته ورمزيته.

 

ثيمة المكان

 

يعتبر المكان “مدينة تعز اليمنية” بمثابة الثيمة الرئيسة التي يناقشها الديوان الشعري أو الكتاب كما يحب الشاعر تسميته، وقد اختار الشاعر هذه الثيمة نتيجة الأهمية التي يكتنزها المكان في الفكر الإنساني على مر العصور، فالمكان يرتبط بالإنسان وهويته وانتمائه، وله مكانته الأساسية في حياة كل إنسان، والشاعر ليس استثناء من ذلك.

 

كما أن المكان له دوره في تشكيل شخصية الإنسان، فهو البيئة التي تصنع الشخصية نتيجة التأثير والتأثر به، ومن هذا المنطلق كان ارتباط الشاعر الوجداني والعاطفي بمدينته تعز التي تعد بمثابة الأم التي يحن لحضنها كلما ابتعد عنها، ويشعر بالسكينة والاطمئنان وهو في حضنها.

من هنا كانت إضاءة الديوان الشعري :

 

لأنها في بلادِ اللهِ جنتنا

وفيها

للحياةِ كفاحْ

أطيرُ لها بدون جناحْ

 

والمكان بالنسبة لفخر العزب قيمة إنسانية وعاطفية قبل أن تكون مادية، فهو يعشق تعز التي في خاطره ودمه بكل ما فيها، دون أن يستثني الجانب المادي والملموس في مدينته التي تعد من أجمل مدن اليمن نتيجة لما تمتاز به من مواقع ومناظر سياحية، ونتيجة الموقع السياسي والجغرافي لهذه المدينة التي أثرت بتاريخ اليمن في مختلف مراحله.

 

وللشاعر العزب رؤيته الإبداعية للمكان المتمثل بمدينته، وهي رؤية تتجاوز الملموس إلى العاطفي، نلحظ ذلك في الجزء الأول من الكتاب، والذي احتوى قصائد معبرة عن عاطفة الشاعر ورؤيته الخاصة لمدينته، وإن كان في الجزء الثاني من الكتاب قد تجاوز العاطفي إلى الملموس الذي يراه بعينيه، وهو بذلك امتداد لشعراء كبار، فتعز بالنسبة للعزب بمثابة قرية جيكور بالنسبة للشاعر بدر شاكر السياب، وبمثابة مدينة صنعاء بالنسبة للشاعر عبدالعزيز المقالح.

 

تسيطر ثيمة المكان على نصوص الديوان، بدءاً من العنوان مرورًا بالقصائد التي تتركز على مشاهد لأماكن واقعية عبر التصوير البلاغي الذي يعتمد على لغة ثرية يمتلكها الشاعر، والذي يمتلك مقدرة فذة تساعده على تطويع اللغة، لتناسب المعنى الذي يملأ مضمون النص الشعري، فيأخذ القارئ معه في رحلة يتنقلان خلالها بين المعالم التاريخية والأسواق، مع التركيز على التفاصيل الصغيرة التي تعطي خصوصية المشهد، كما هو في نص “سوق الشنيني”:

 

أعيدُ التأملَ في حضرةِ السوقِ

يكتظُّ بالاختلافِ النبيلِ

وألقي عيوني على مدرٍ باذخٍ بالجمالِ

“فناجينَ، كيزانَ، حرضٍ مطرزةٍ بالحديدِ”

فأحتارُ من أين أختارُ

بعضاً من اللحظةِ الفاتنةْ

 

وللشاعر العزب قدرته الفريدة على الإمساك باللغة وتطويعها وتشكيلها في قوالب إبداعية، لتصوير المكان الواقعي بلغة صوفية وفلسفية مليئة بالصور البلاغية التي تدهش القارئ والمتلقي في نفس الوقت، لتأتي القصيدة أشبه بلوحة سيريالية لفنان تشكيلي، ففي نص “وادي الضباب” نقرأ:

 

وادي الضبابِ

حكايةُ السحرِ المنمقِ بالجمالِ

إلى مآقي الروحِ

سنبلةُ العطاءِ

مزارنا الأبدي

حين نريدُ غسلَ الروحِ من ضوضاءِ سيرتنا

ومن درنِ الشقاء

 

وكل مكان يرتبط بزمان، لكن الزمان هنا مهمل لأنه زمان أبدي وخالد، فحضور المكان طاغ على كل الأزمنة والمراحل، ولذا فقد جاءت نصوص الكتاب شبه مجردة من الزمان، إلا في حال ارتباطها بحدث معين، فيترك للقارئ تقدير الزمان دون التصريح به.

 

يستدعي الشاعر اسم مدينته التي توصف بالمدينة الحالمة معددًا فضائلها التي منحتها التميز، فيفتتح قصيدته “مدينتنا” بقوله:

 

تعزُّ على النفوسِ الحالماتِ

وتبزغُ من ورودِ الأمنياتِ

 

ليمضي ساردا خصالها التي جعلتها المدينة الأحب، باعتبارها مدينة الحب والجمال التي تحضر في كل القيم المتصلة بالحب :

 

تعلمنا فنونَ الحبِّ دوماً

وتنتزع الحياةَ من المماتِ

فتحضرُ في ترانيمِ القوافي

وتحضرُ في شجيِّ الأغنياتِ

وتحضرُ في أساطيرِ التجلي

وتحضرُ في شهاداتِ الثقاتِ

وتحضرُ في مقاماتِ المعالي

وتحضرُ في عظيمِ المنجزاتِ

 

وفي نص “المدينة الأنثى” وأمام عاطفته الجياشة نحو مدينة تعز لا يخفي الشاعر هذه العاطفة نحو المدينة التي يعشقها كما لو أنها أنثى باذخة الجمال، وهذا تحول من الشعور العاطفي الذي يتجاوزه إلى الشعور الملموس، عبر تشخيص تعز لتغدو أنثى يهيم الشاعر بعشقها :

 

ومدينةٌ في هيئةِ الأنثى

تلوحُ بخاطري

أم أنها الأنثى وهيئتها “مدينة”!!

 

ويفيض الديوان بالصور البلاغية التي تشبه التصوير الفوتوغرافي، فترسم صور الأماكن في مخيلة القارئ، وتجعله أمامها، يلمس جدران الأماكن، ويشتم عبق التاريخ، مستعينا في ذلك بصور إبداعية غاية في الروعة، كما هو في نص “الأشرفية”:

 

من القمرياتِ

والنوافذِ الخشبيةِ

يتسللُ الضوءُ

خلسةً

كي يستريحَ بألوانِه

في ضيافةِ النقوشِ التي تزينُ الحوائطَ والسقفَ

تعزفُ معزوفةً من خيالٍ

وتحكي حكاياتِ ما قد مضى

من قديمِ القرونْ

 

على الرغم من وجود بعض القصائد العمودية في كتاب تعز، فإن شعر التفعيلة كان الأكثر حضورًا، وفي جميع النصوص يحضر السمت الصوفي والحداثي للشاعر الذي اعتمد على حداثة الشكل والموضوع في معظم قصائده، كما أن اللغة الصوفية تكاد تكون هي السائدة في قصائد الكتاب، لتكشف عن جوهر تجربة الشاعر، ومساره الأدبي، ففي نص “أحمد بن علوان” نقرأ :

 

من كلماته الأزهى يشعُّ النورُ

يسبحُ في مدى الآفاقِ

يطرقُ مهجةَ الأرواحِ في رفقٍ

ويدخلُها

ويسكنُها

ليغرسَ في حناياها الطمأنينة

 

ويعتمد الشاعر على الأسطورة والحكايا الشعبية المتداولة على ألسن الناس عن خوارق العادات التي يمتلكها بعض البشر، ما يعني أن الشاعر يعتمد على لغة الناس وثقافتهم في مخاطبتهم، فيقوم بتوظيف الأساطير توظيفًا إبداعيًا، كما لو أنه يقول إنه ينهل شعره من وجوه الناس ومن تفاصيل حياتهم، ولذا فقد تناول عددًا من الشخصيات العامة، مثل “جباح العزعزي” الذي اشتهر أنه يصيب بالعين، و”قشنون” الذي كان يعمل مندوبا في فرزة التربة، ويعرفه جميع أبناء الحجرية تقريبًا، وكذا “دحباش” وهي شخصية فنية اشتهرت مطلع تسعينيات القرن الماضي، ففي نص “جباح” يقول:

 

في الأساطيرِ

يحضرُ

وهو يهدُّ الخصومَ

بنظرةِ عينٍ

تكبلهم بأشدِّ القيودِ

وتجعلهم يسقطون على الأرضِ

في لحظةٍ

مثل طيرٍ ذبيحْ

 

هذا “جباحُ”

الذي صالَ في ألسنِ الناسِ

دهراً

كأنه عفريتُ إنسٍ

إذا شاءَ أن يسلبَ المرءَ شيئاً

رماه ببعضِ الكلامِ

وهمهمَ

حتى ينالَ الذي شاءَ في رأيه أن يكونْ

 

لقد أراد الشاعر العزب من خلال “كتاب تعز” توظيف اللغة الشعرية والإبداعية لكتابة تاريخ وجغرافيا المدينة في قوالب شعرية، للتأكيد على أهمية حضور المدينة، وما تحمله من رمزية في وجدانه وضميره.

ضع اعلانك هنا