أريد دبابة
______________
قصة: ريان الشيباني
فقد الملياردير الخمسيني، محمود الرباصي، الأموال، التي أنفقها، في سلسلة محلات أحذية، بالعاصمة السعودية الرياض، وصار عليه أن يهرب من الدائنين، إلى قصره غير المكتمل في قرية “بدينة” النائية، شرق مدينة تعز.
وكان محمود الرباصي قد شرع في بناء قصر قبل عشرين عاما، قبل أن يترك جوفه الفاغر قيثارة لرياح “الزيبة”، إلا من بدروم، يضم غرفة نوم، وصالة معيشة معتمة، وغرفة مقيل مؤثثة بسجاد إيراني، ومفروشة بمجلس عربي من الأحمر الكاردينالي المزهر.
وعاد محمود الرباصي، بعد كل هذا العمر، ليدرك حياة، أنفق الجزء الأكبر من سعيه، لتخيل روعتها. فهو كما يتهامس أهل قريته الجبناء، إستحوذ بمقدرته الصراخ على أرض بمساحة دولة البحرين الشقيقة. ويشهد الكثيرون على إن أول سور أحاط بامبراطورية رجل الأعمال، كان من الحجارة الهشة التي استخرجها لتسوية الأرض، وأقنع الملاك المحليين، بمقاصده الشريفة، حين فاتحهم:
– نحتاج جدار يقي نسائنا نظرات الغرباء.
وبطريقة دراماتيكية، موروثة من أساليب جلب المال، أستبدل محمود الحجارة بجدران الخرسانة، وبعد سنة كانت نوبات قمعية الشكل تحرس ثلاثة أركان، من تلك التي يستخدمها الملاحون، لمراقبة الطيران.
وفي ثلاثة أسابيع، ضربت أربع بوابات مكسوة بالحجارة الجيرية الصلبة أطنابها بعد أن أفقدت سطوحها القاسية، ثلاثة نجارين، أبصارهم. ثم وقد حصن محمود الرباصي، دولته النامية، سأله رضوان القاضي، مهندسه المعماري:
– أي منزل تريد مني بناؤه؟
رد، وهو يحك بسبابته اليمنى، أرنبة أنفه:
– دبابة.
جهدت خمسة طواقم متعاقبة، من المقاولين، والبنائين، والمهندسين، وقد تورطوا في لعبة بناء وهدم، لتنفيذ تصور معقد لبناء دبابة أحجار وخرسانة وحديد صلب.
وبعد عشر سنوات، أكتشف الجميع، أن المبنى الضخم، بزواياه العشرين، لا يشبه شيئا، له أسم على هذا الكوكب. فمن المحبط، حقا، إهدار، خمسة مقالع من الحجارة، وخمسين طنا من الاسمنت والحديد الصلب، على طابق واحد بغرف لا تتسع إلا لسرير مفرد، وبدروم ملحق، لا يمكن العيش فيه، لموقعه السافر، المواجه لرياح أيلول الخريفية، التي تقتلع الروح من الجسد. قال محمود الرباصي، وهو يحك بعناية، خصلات ضعيفة، في مقدمة رأسه:
– لنترك كل شيء على حاله، ونعيد التفكير في الحماقة التي قادتنا إلى هذه الكارثة المجنزرة.
وكان لسبع سنوات من إعادة التفكير لتعريف سلحة الاسمنت تلك، أن تقنعه التخلي عن المشروع، هذه المرة لأسباب مالية. فلم يكن لمحمود أن يدرك، فداحة ما أقدم عليه، حتى أبلغه آخر مقاول أن نوافذ القصر، للمبنى الذي يضم خمسة عشرة نافذة، قد تكلف مبلغ مليون ومائتين ألف دولار.
غادر البناء الأخير، وأعمدة الخرسانة الملبسة بالأحجار، بجدران عارية، والأرضيات ترابية، ومنكوبة بفوضى مخلفات البناء، لتصبح القلعة الحصينة، ملاذا لاستمناء الصبية القافزين على أسوار المدارس، وتبرز باعة الحلاوة المخاوي والوزف العدني، الذين يجدونها مناسبة سانحة، لمضاجعة دوابهم المتخففة من المتاع.
وتطلب الأمر، ست سنوات أخرى، ليشير القرويون للحصن بتجويفه الموحش، على إنه اللعنة التي حبست عنهم المطر، وأراقت سمعة مجتمع عفيف، وجلبت السيلان للأولاد ذو الوجوه المكسوة بالزغب، ثم هجر المكان بشكل كامل لتسكنه الخفافيش وصراصير الليل وأخيرا، على مرأى من السكان، سكنته أم الصبيان.
وفي الربيع، عاد رجل الأعمال المطارد، يمتطي حمارا أعرجا، ويتدثر دشداشة بائع خمور، ويعتمر رأسه قلنسوة صوفية، تظهره مثل متسول، لكن مظهره الخداع ذاك لم يجرده من شغف الترف الذي رافقه طويلا.
تجمع الأهالي، فترجل محمود بقدم متنملة.. أرخى العنان لحماره، وأنزل صرة ملابس متسخة ألقي بها في سلالم الخرسانة، وأقتعد للإجابة على السؤال المكرور لأهل قريته:
– هل تعرف من أنا؟
لقد كان يعرفهم واحد واحدا، ويمقتهم واحد واحد، لكنه سيكون بينهم لفترة غير معروفة، ومن العقل أن يصمت، لاستدرار شفقة أهدرتها مشاجرات بناء قلعته.
في اليوم التالي صحى محمود الرباصي عند الرابعة، هربا من البراغيث، وصراصير الليل، التي أقضت بأزيزها مضجعه. كان واهنا، ومثلوم بالزقزقات الأولى، لطيور الغبش فوق شجرة المريمرة الملاصقة لسور القصر، جلس على السلالم، وسأل نفسه:
– من يملك هذه الطيور؟
وطالما كانت شجرة المريمرة نابتة في حماه، فالطيور له دون شك، أو هكذا أبهج فؤاده المتطلب. هبط الدرج بهدوء، وتحت الشجرة، سمع صفق الأجنحة لدزينة طيور الدوري التي راعها حضوره، فلعن الحياة لأنه لا يمكن للمرء القبض عليها. في أول أسبوعين له، تملى بهوائم الأرض، وتسلق الأشجار لمحاكاة الطيور، عندما اكتشف زوجي لقلاق، في جوف شجرة إثاب، قائمة في نهاية المنحدر الصخري، الذي هو امتداد لجبل “العشيم”.
كان محمود الرباصي قد لمحهما، على مدى بصره، وهو يتأكد، بمنظار عسكري، من ماهية اللطخة البيضاء، قبل أن يتعرف على عشا من القش، لزوجي رخمة، وأنتظر حتى يوم الجمعة، حين كان طائرا اللقلاق وفرخيهما، قد سيطروا كليا على حياته، وصار بمراقبتهما، لثلاث أوقات يوميا، أن يقول أنه صار يمتلك شيئا.
ولحظة خروج المصلون من المسجد الكبير، شاهد محمود الرباصي صبيان يلبسان أثوابا بيضاء، ويحاولان تسلق المنحدر، وفي أيديهما مقلاعي حجارة، قبل أن يواصلا زحفهما إلى شجرة الإثاب.
أخفض محمود الرباصي المنظار، وخلع دشداشته راكضا على أجمة الصبار، وهو يلهث: طيوري، طيوري. كان المنحدر أبعد مما توقع، مع إنه أصبح بظرف دقائق في أعلى المنحدر.
صرخ بالصبيان وهو يحثو الحصى ويرميه باتجاههم، إلتفتا ثم تجاهلاه. كانوا يتشبثون بالصخر الزلق مغادرين، ويمسكان مقالعهما بإرتخاء. وعند سهل الحصى، حيث يتجمع قش مكسو بالزبد، هرب الصبيان بعد أن تبادلا معه السباب.
صعد الرجل المنحدر بأطرافه الأربعة، وتسلق شجرة الإثاب، مدخلا يده في جوف الشجرة ليخرج الفرخين ملوثين بدمائهما، وبدون رؤوسين، بينما يحلق فوق رأسه الزوجين المفجوعين، وينعبا نعيبا مثكولا.
هبط محمود الرباصي واحتضن الجذع، بسيقان مرتشعة، ثم أحس بتشوش في الرؤية، لتتوه خطاه، ويجد نفسه، ملقيا، بين سيل الحصى، يئن، متحسسا جسده المرضوض، وباكيا كطفل.
وفي المساء، وقد تراجع، عن خططه حبس الصبيان، أو معاقبة أهاليهم، أنزل المنظار عن عينيه، وفكر: من يملك هذه الجبال؟
عند الظهيرة الحارقة، كان محمود الرباصي يكابد صعود جبل “العشيم”، وها هو يقوم بإجتثاث شجرة سقامه الثامنة، بفأس صدئة، ليتحقق من ملكيته الحصرية للأرض المشاع، عندما دوت رصاصة، أعقبها تطاير الحصى أعلى رأسه.
أسقط الفأس، قبل أن يعيد إلتقاطه، ويواصل العمل. لقد كانت الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا، وهو لا يدري، ما الذي يفعله، بالغابة المقتلعة، في التجويف الصخري للجبل. وبعد دقيقة رأى، على الممشى الترابي، الأخوين المسنين “صيفاني”، بوجهيهما البرونزيين، وسيقانهما المقوسة، ويحملان بندقيتهما البارودية، ويصرخا به، ليأسف، أن الجبال، هي الأخرى، مملوكة لأحدهم.
قال للعجوزين وقد أقتربا منه:
– أبرزا ما بأيدكما لإثبات ملكيتكما للجبل.
تلفت العجوزان، وهما يبحثان عن أثر للحصى، لذره على وجهه، لكن المكان، كان نظيفا لوقوعه في مجرى السيول التي تدفقت الصيف الماضي. أشهر العجوزان، بندقيتيهما، وأشعلا الفتيل، كي تخرج رصاصتان، وتستقران في الصخر، بجانب سيقان رجل الأعمال، فقال مذهولا:
– إنه لكما، أنا مدين لكما بالغابة المجندلة تلك.
وبعد ثلاثة أشهر، عثر على الملياردير السابق، ملقيا في الأرض المشاع، بوجه أستكت كل ثغوره بالتراب، ويموء مواء القطط المنكوحة.
وبالرغم من أن هذا الفعل قربه من حتفه، إلا أن الإعلان عنه، بهذا الاقتضاب، يشوبه شيء من الجحود. فخلال الشهرين الماضيين، بعد فشله تملك الطيور، والجبال، حاول محمود الرباصي، تملك الحيوانات البرية، بشبكة فخاخ، كان أن وقع، هو نفسه، في شراكها، أكثر من خمس مرات.
وفي إحداها، كسر محمود الرباصي، ساقه اليمنى، وبتر أرنبة أنفه، ثم وقد أخفق، روض عشرات الكلاب والقطط السائبة، قبل أن يأتي موسم الإخصاب، لتعضه كلبة، حاول منعها الاتصال برجلها، لأسباب تتعلق بغيرته، وهو حر في ذلك، غير إنه من الحماقة، إبادة كل كلاب القرية، بجريرة إرتكبها واحد منهم.
وفي اليوم، الذي طرق فيه رأسه، سؤال عويص: لمن هذه السماء؟ إنتهى محمود الرباصي، لحفر شبكة قنوات مائية للاستحواذ على أمطار القرية، ومدها إلى التجويف الصخري، الذي كان من المفترض، لو أن خططه نجحت، أن يكون مسبح العائلة.
هطل المطر، فتوجهت دلتا السواقي، وعبرت الممر المائي العميق، أسفل البوابات الضخمة، وسحبت كل شيء في طريقها، من الأحجار المقولبة، إلى أنابيب الصلب، والنباتات التي حاول تمضية الوقت بغرسها. لقد شهد محمود الرباصي خلال ساعة ونصف، ثمار الرمان والمانجو، وعنب الباباي، تنجرف، طافية، في التيار الهادر.
وعند السابعة، كان التجويف الصخري قد أمتلأ، فصعدت مياه بلون الشاي الملبن، لتفجر نوافذ البدروم، وتتسرب إلى الفراشات والملاءات والقطائف، وتقضي على فرص الرجل، بنوم هاديء، لينتهي به يوم الطوفان هذا، متدثرا، ببطانية عسكرية، داخل غرفة الحراسة، في النوبة الشرقية.
“لكن، من يملك النجوم؟”، قال بعد عشرة أيام، وقد رأى الماء ينحسر، والبلل يجف، ولم يترتب على سؤاله الأخير أي نازلة، باستثناء، إنزلاقا غضروفيا، ولده هبوطا خاطئا، في سلمه الخرساني، وقد غامت الدنيا في عينيه، بفعل التحديق النهم للنجوم.
ثم وقد دخلت الأوضاع في القصر، حالة الطواريء، هيأها لاستقبال دفعات الخردة، وقد وجد أن الشيء الذي يمكن أن تتملكه، دون أن يقذفك الناس بالحجارة، هو قمامة القرية.
مع ذلك، لا شيء يستحق المجازفة، حيث لقى محمود نفسه، غارقا بزلال البيض، وضفع البهائم، وقد صادف إلقاء النساء لمخلفاتهن، لحظة تملكه للمكب الدبق. منحته هذه المظلومية، إحساسا غير متوقع، بذاته، ليعتقد، وهو يصعد بضفع القرية إلى مهجعه، أنه مستهدف، وإلا لكان على حمقاوات القرية، أن يقدرن ماضيه، ليصرخن به، قبل أن يلقين مخلفات بيوتهن.
تبقى لمحمود الرباصي المظاريف النحاسية لرصاص الولائم، الشيء الوحيد المشاع، الذي جلب له نقودا، قبل العثور عليه مسموما. وكان قد سعى إليها، منسحقا تحت أقدام المتدافعين في الأعراس، وبنادقهم الملعلعة.
يتذكر محمود في أحد الأعراس، كيف أن عريسا ركله، متلافيا التعثر به، وهو يسابق الصبيان على إلتقاط المظاريف. وعندما تعرف عليه العريس، أقعى محمود فسقطت قلنسوته، حينها خاطبه العريس، قائلا:
– أيري بك.
في صباح من صباحاته الشتوية، وقد هطل مطرا متقطعا، خرج محمود الرباصي، بدشداشته، يتحدث لنفسه بصوت مسموع، ثم يقاطع يده خلف ظهره. لفت نظره رحيقا ملتمعا فوق صبارة غضة. قرفص بجانبها، واستأذنها الجلوس، فسمحت له، ليقطف زهورها الصغيرة البيضاء، ويمضغها، وقرر، أن هذا ما كان يبحث عنه، في منفاه القروي.
في نهاية اليوم، كان قد قرر امتلاك أعشاب الأرض. لقد صادفه الأهالي يهيم وحيدا في البراري، ويخاطب النباتات، قبل أن يقبل عليها بقلب مثقل بالحياة.
ثم في اليوم الثالث، من تحوله لماعز، قطف نبتة بأوراق خضراء صغيرة، وتنز منها عصارة بيضاء، ومضغها، وتحول إلى المنحدر، والسهل، يركض ليواري لهيب النار الذي أشعلتها النبتة في أحشائه. وفي منتصف النهار، أستف التراب، من الحقل الواسع، وملء به معدته، وجيوب معطفه، ثم قعد بملامحه الرملية، على الناصية، يستجدي باعة الروتي والكراث، ليمنحوه ترياق، ينيخ عنه، حالة الاشتعال تلك.
كان ينظر للمارة، بعيني كلب إحتر دمه، ويلوح بقلنسوته، ليمد له أحدهم، قرص روتي، ورزمة كراث، وعندما يحاول الشكوى يتوه صوته في جوفه، فيبدو كما لو أنه يموء.
وفي المساء تناوب ثلاثة قرويين حمل جسده ليلقونه في الجوف المقفر للقصر، بينما يهذر مذياع من منزل مجاور، محذرا الصيادين في السواحل الجنوبية بصوت جهوري من هبوب العاصفة المدارية لبان.
• لوحة (بورتريه) لغلين لجان ميشيل باسكيات، 1985. تصوير: جان ميشيل باسكيات