ضع اعلانك هنا

حتى لا يكون النقد بهدف النقد

حتى لا يكون النقد بهدف النقد

(افكار للنقاش بشأن نشاط مكتب الثقافة في تعز)

وسام محمد

قبل ايام، لاحظت ان قناة بي ان سبورت، خصصت (باكورد) في شاشتها من أجل استقبال ملاحظات ومقترحات الجمهور بهدف تطوير ادائها. باتت المؤسسات الحديثة بما في ذلك تلك التي تمتلك ادارات خاصة بالتفكير والتخطيط والتي تستقطب أفضل المستشارين والعقول، باتت تدرك أهمية اشراك الجمهور وفتح نقاشات جادة معه وحث المهتمين على المشاركة وآخذ أرائهم على محمل الجد.

 

منذ عامين على الاقل وانا أراقب اداء مكتب الثقافة، كونه المكتب الاكثر فاعلية في تعز المحاصرة، وعلى حد علمي بميزانية تقترب من الصفر، بينما التمويل لكل الانشطة التي ينظمها المكتب يعتمد تنفيذها على مهارات وعلاقات مديره عبدالخالق سيف. ولا أحد يمكنه ان ينكر الجهد الذي يقوم به والذي يكاد ان يتجاوز اداء الوزارة نفسها.

 

غير ان الصدامات والمشاكل التي تحدث على خلفية أنشطة مكتب الثقافة، تجبرنا على طرح أسئلة من قبيل: يا ترى اين يكمن الخلل؟

 

اذا كان المتشددين الذين يتصدرون في العادة حملات النيل من مكتب الثقافة من منطلقات دينية واجتماعية محافظة وغالبا بدافع سياسي، لماذا يا ترى اولئك المثقفين الذين يقفون على الضفة الأخرى من الخطاب المتطرف يبدو وكأن الأمر لا يعنيهم؟

 

هذه هي الجزئية التي تعنيني والتي سأحاول الاجابة عليها في هذا المنشور. طالما كنت في مرة سابقة قد كتبت منشورا شاطحا ثم عدت لغلقه وقبل يومين عدت وكتبت منشورا هادئا لكنه لا يقول الكثير.

 

من حيث المبدأ، فإن نوع الفاعلية التي يبدو عليها مكتب الثقافة في تعز والتي تشهر التحدي في وجه غياب الامكانيات وتبدع في ايجاد الحلول، هذا النوع من الفاعلية، هو الشكل الانسب لادارة النشاط العام في زمن الحرب. قد تنقصه بعض الشفافية وايضا ان يصبح مؤسسيا، لكن هذا ليس بالامر الصعب لعل مراكمة الخبرة جديرة بان تصنع حلا.

 

أما في موضوع الجزئية التي أشرت اليها، فإن السر في حياد المثقفين، هو ان نشاط مكتب الثقافة لا يمت بصلة للفعل الثقافي. هذه هي النقطة الأولى. معظم هذه الانشطة على الاقل تندرج ضمن ما يمكن اعتباره بأنشطة الترفيه، ولعل مهرجانات التكريم المتوالية تذكر بأنشطة هيئة الترفيه السعودية بما تمثله ذهنية تركي آل الشيخ في هذا السياق من اعتباط وتفاهة لا تجعله في موقع الملهم.

 

وهذا يقودنا للنقطة الثانية، هل واقعنا الراهن يجعل من فعل الترفيه أولوية؟ هل هذا هو دور المثقف والنشاط الثقافي في الاوقات العصيبة وفي مدينة محاصرة؟

 

بالطبع لا، من الممكن ان يكون الترفيه وحتى التكريم جزء من نشاط مكتب الثقافة، لكن ٦٠ بالمائة على الاقل من هذا النشاط يجب ان يأخذ في الحسبان طبيعة اللحظة الراهنة، ونوع الفعل الثقافي الذي يستجيب لها ثم فرد مساحة للعمل الثقافي الذي يصب في صالح ما هو استراتيجي ولا يتوقف عند ما هو آني. معركتنا طويلة ولا يزال الوعي بأبعاده المختلفة هو أبرز الغائبين أما الانتاج الفكري فيساوي صفر.

 

النقطة الثالثة تتعلق باحترام الموقع الذي نختار ان نطل من خلاله. موقع الفعل الثقافي لا يسمح بملاحقة الترندات والشعبوية ويتطلب قدر معقول من التواضع والانفتاح على كل من ينشط في المجال الثقافي، ليس بهدف رشوته واستمالته ولكن من خلال توفير الاساس الكافي لتخلق مناخ ابداعي يمكن المبدعين من اداء رسالتهم ويثيري المشهد الثقافي ككل.

 

حسنا تبدو هذه اجابات لأسئلة تأخر طرحها، لأن النقد لاداء مكتب الثقافة لم يعد محصورا بالمتطرفين ومن لديهم أجندة سياسية، بل بات يجذب كتاب وشعراء ومثقفين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي وبذات الطريقة التي كرسها مكتب الثقافة. اي من منطلق شعبوي وغير مسئول. لعل هذا نتيجة الصمت الطويل الذي لم يفهم المعنين معناه أو لم يحاولوا ان يفهموا.

 

وحتى لا يطول هذا المنشور أكثر من اللازم، سأترك بعض المقترحات التي من الممكن ان تكون اساسا لنقاش مسألة كيفية تطوير أداء مكتب الثقافة في تعز ومن أجل البناء على فعاليته الحالية لا هدمها.

 

المقترح الأول: الاستفادة من القدرات الحالية في التواصل وتوفير الامكانيات من خارج مؤسسة الدولة، بأن تخصص مساحة من هذا التوجه للعمل مع المؤسسات الحكومية. بامكان مكتب الثقافة ان ينسق مع مكتب الاعلام ويشكل فريق مهمته التخاطب مع وزارة الثقافة والاعلام بهدف اعادة تنشيط اذاعة تعز الحكومية لتصبح بمثابة اذاعة ثقافية. لا اعرف كم يوجد في تعز اذاعات خاصة تتبع السلفين واطراف أخرى تتبنى خطابات معادية لهوية تعز التي تعلي من شأن التعليم والثقافة والابداع. واذا كان يحق لمن يقفون وراء تلك الاذاعات انشائها فمن واجب من يعنيه أمر الثقافة ألا يترك المجال امامها مفتوحا لاعادة صياغة ثقافة المجتمع بثقافة دخيلة باتت تنمو بوتيرة متسارعة.

 

ذات الامر يمكن تطبيقه في العلاقة مع المؤسسات الحكومية الاخرى، بهدف استعادة نشاط مركز التراث وبيت الفن.. وأيضا كأن توقع اتفاقية مع وزير النقل يتم بموجبه منح الكتب التي تشحن عبر طيران اليمنية اعفاء من دفع الرسوم خاصة وان البلد مغلقة في وجه الكتب ومعارض الكتب منذ تسع سنوات وهناك باحثين واشخاص كثر يرغبون في الحصول على العناوين غير المتوفرة عبر الانترنت او من يتمنى الحصول على الاصدارات الحديثة لكن اشكالية الشحن تقف عائقا أمام حاجاتهم ورغباتهم.

 

في النهاية لا يبقى للناس غير ما هو عام ولا يتذكرون سوى اولئك الذين يعيدون تشيد العام وجعله في خدمة قطاعات الشعب الواسعة.

 

المقترح الثاني: يمكن ايضا الاستفادة من قدرات مكتب الثقافة الحالية، بالعمل مع المؤسسات الثقافية غير الحكومية. مثلا لماذا لا يجري فتح نقاش حول ضرورة عودة نشاط مؤسسة السعيد واعادة اصدار جوائزها السنوية بعد تحديثها؟

 

يمكن لمؤسسة السعيد مثلا او أية مؤسسة ثقافية أخرى ان تشترك مع مكتب الثقافة في العمل على تنظيم معرض سنوي لجميع الدوريات العربية التي صدرت خلال سنوات الحرب. الكثير منا كان بينه وبين تلك الدوريات رابط عاطفي، فمن خلالها ولجوا الى عالم القراءة ثم أصبح اقتنائها بمثابة ادمان. اتحدث عن عالم المعرفة وابداعات عالمية ومجلة العربي وحتى مجلة الدوحة او نزوى او غيرها من المجلات والاصدارات الدورية. اما الحصول على تلك الدوريات فيمكن شراءها او التخاطب مع الجهات القائمة عليها والتي بالتأكيد تعرف وضع اليمن ولن تمنع في ارسال الاعداد المتكدسة في مخازنها.

 

يمكن ايضا لمكتب الثقافة ان يصبح بمثابة راسم سياسات لباقي المؤسسات غير الثقافية التي تنشط في المجال الثقافي. عندما كنت في الجامعة تفاجأت من العدد المهول للفنانين التشكيلين الذين كانوا يتخذون من بدروم كلية التربية مرسما ومعرضا مفتوحا بشكل يومي. الان أصبح لدينا كلية فنون جميلة وهناك مئات التشكليين الذين لا يجدون من يشتري اعمالهم وبالنتيجة يصابون بالاحباط. (وجدت احدهم يبيع سحاوق في الشارع ويتهم عبدالخالق سيف بأنه كان السبب في احباطه) لقد أصبح العالم قرية صغيرة وبإمكان أي مؤسسة ان تقوم بانشاء جاليري إلكتروني لاعمال الفنانين التشكليين ومنحهم الفرصة لعرض اعمالهم والاستفادة من بعضهم وايضا بيع لوحاتهم لأي شخص يرغب في اقتنائها. على حد علمي هناك منصات الكترونية توفر لأي شخص امكانية ان يصور نفسه ويومياته ويبيع هذه الصور بمبالغ باهضة.

 

المقترح الثالث: لا يمكن فصل العمل الثقافي عن ظروف من ينشطون فيه، وظروف معظم هؤلاء في غاية السوء. لهذا يجدر بمكتب الثقافة ان يتنبه لمثل هذا الامر، بحيث يتبنى استراتيجية هدفها تحسين أوضاع المبدعين سواء من خلال تنمية الموارد الذاتية واطلاق مشاريع نوعية بالاعتماد على هذه الموارد كتوفير منح تفرغ للمبدعين، (في هذه النقطة يمكن الاستعانة بالاستاذ مصطفى الجبزي لطالما قرأت له في اكثر من مرة مقترحات في هذا السياق الذي قد راكم العالم فيه خبرات منذ قرنين).

 

ذات الامر فيما يتعلق ببناء قاعدة بيانات بالفرص التي يمكن للمبدعين اليمنين الاستفادة منها والتي توفرها مؤسسات عربية ودولية، يحتاج الامر فقط الى تشكيل فريق يبني قاعدة بيانات بهذه الفرص وبالمبدعين الذين يمكنهم التقديم عليها ثم يتولى حل العقبات التي قد تواجههم. البعض ليس لديه مهارة اعداد سيرة ذاتية، او كتابة خطاب دافع، ايضا البعض لا يمتلك انترنت او كهرباء وهناك من لا يسعفه وضعه النفسي وروتينه الابداعي على البحث والتقديم على الفرص وبالمقابل هناك من نسي ابداعه ولم يعد له من هم او شغل سوى مطاردة هذا النوع من الفرص.

 

المقترح الرابع: يتعلق بطبيعة الظروف الراهنة. جل من قادوا ثورتي سبتمبر واكتوبر التي اخرجت اليمنيين من عصور الظلام والعزلة واعادت ربطهم بالعصر الحديث ومن اسسوا النظام الجمهوري وسعوا لتحقيق الوحدة اليمنية، جلهم كانوا من الادباء والمثقفين الملتحمين بهموم شعبهم. اليوم ليس فقط لا يوجد لدينا نسخ من هؤلاء، ولكن فوق ذلك لا يوجد اي اهتمام بتاريخهم وأدوارهم النضالية الفريدة. يتم تجاهلهم عن سبق اصرار وكأننا لا نزال في اكثر سنوات نظام صالح ظلامية عندما كان المثقف في قاموس السلطة يعني عدو او عدو محتمل.

 

لهذا لا وجود لفعاليات عن الزبيري والنعمان البردوني والمقالح وابو بكر السقاف وعمر الجاوي وأحمد قاسم دماج ومحمد عبدالولي…الخ

 

فعاليات يمكنها ان تعيد تعريف الاجيال الجديدة بهؤلاء، بأدوارهم التي لولالها لما كنا تعلمنا وقرأنا وحلمنا. اعادة هؤلاء الى واجهة المشهد يقع في صلب المهام التاريخي لمعرفة اي نوع من المثقفين العظام كانوا والتعلم منهم واستلهام ما يمكن استلهامه من تجاربهم والبناء عليها.

 

في جزء اخر من هذا المقترح، لدينا ايامنا الوطنية الجليلة التي يجري التعامل معها بخفة من قبل المؤسسة الرسمية ولولا الاحياء الشعبي العفوي لها من قبل الناس لكانت هذه المناسبات هي الاخرى قد اصبحت في طي النسيان.

 

يمكن لمكتب الثقافة ان يعمل مع الاحزاب السياسية والسلطة المحلية على خطة مشتركة لاحياء المناسبات الوطنية بالشكل الذي يليق بها، مثلا ان يكون هناك مهرجان فريد لكل مناسبة هدفها الاساسي ليس مجرد الاحياء الفلوكلوري ولكن التعبئة العامة واعادة ربط الناش بالمضامين التي قامت عليها تلك المناسبات، وان يقام مهرجان كل مناسبة في مكان مختلف: مايو في هجدة، سبتمبر في التربة، واكتوبر في النشمة، ونوفمبر في المخاء. بينما اغسطس في ذكرى تحرير مشرعة وحدنان يقام في جبال صبر وفي كل حواري واحياء تعز. يجب ان تروى قصة مبارك هزاع وعدنان الحمادي والعوني وسيرة كل الابطال سواء في الجبل او المدينة.

 

كان لابد من كتابة هذا المنشور الطويل، حتى لا نسمح لعملية النقد بأن تصبح مجرد هدم، وللتأكيد ان كل ناقد حتى وان كان يسعى للهدم لحظة النقد، يمكنه أن يصبح ناقد بناء وفاعل في حال اتيحت له الفرصة.

 

(ملاحظة: المنشور بدون مراجعة، لهذا يرجو كاتبه بعض التسامح من القارئ).

ضع اعلانك هنا