ضع اعلانك هنا

حال الديمقراطيين العرب جار الله عمر مثالا*

حال الديمقراطيين العرب جار الله عمر مثالا*

 

فوّاز طرابلسي

 

 

 

كان يريد ان يصير قاضيا فدرس الفقه الزيدي. غير ان الحماس الوطني دفعه الى احدى التظاهرات الطلابية أعتقِل جراءها عدد من رفاقه، ففرّ الى عدن كما كانت عادة اليمنيين آنذاك. الجمهوري الملاحَق من نظام الإمامة في الشمال ينزل الى عدن والوطني الملاحق من قبل سلطة الاستعمار البريطاني في الجنوب يطلع شمالا الى تعزّ او صنعاء. ولما عاد جارالله عمر القهالي من عدن، انخرط في النضال الوطني في وهج قيام الجمهورية اليمنية في سبتمبر 1962. لخدمة الجمهورية، المهددة بقوى الرِدّة الملكية، إنضم الشاب القادم من محافظة إب الى كلية الشرطة، منفّذا امرا صدر من قيادة فرع حركة القوميين العرب التي انضم اليها حديثا. إن هي الا سنوات قليلة يبرز جارالله بين المدافعين عن صنعاء خلال تلك الايام الخالدة التي انتصر فيها الجمهوريون على آخر محاولة للملكيين إحتلال عاصمة الجمهورية بعد انسحاب القوات المصرية.

 

إعتقل جارالله مع الوف الوطنيين وقضى الاعوام 1968 – 1971 في السجن. كانت سنوات حاسمة اعلن خلالها فرع حركة القوميين العرب اليمني، بقيادة جناحة اليساري، استقلاله عن المركز وتشكّل بما هو تنظيم ماركسي يساري باسم »الحزب الديمقراطي الثوري«. فيجد جارالله مكانه الطبيعي في ذلك الحزب. خلال سنوات السجن، قرأ ماركس وغرامشي وتشي غيفارا وجياب. فخرج من السجن ليمارس الكفاح المسلّح ضد سلطة الردّة العاملة على تصفية المكاسب الجمهورية.

 

لم يحقق جارالله عمر هدفه في ممارسة القضاء، لكن بقيت له من تلك التربية حصيلتان: معرفة عميقة بعلوم الدين تحيّر المناقشين والمساجلين من الاسلاميين وتربكهم، وتوقٌ لا يلين الي العدالة.

 

 

تعرفت الى جار الله عمر في عدن، مطلع السبعينات، اثر مجيئه من شمال الوطن. ومنذ ذلك الحين صار جارالله مرجعي في اليمن جنبا الي جنب مع صالح مصلح وقد نمت بيننا سريعاً علاقة رفقة نضالية وصداقة شخصية مميزة. وكان جارالله وصالح فريقا على حدة في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني يرفض الانضواء في الكتل المتصارعة داخل الحزب ويعمل بصمت من اجل تحقيق الوحدة اليمنية. رافقتُ مسيرة جارالله قائدا للعمليات العسكرية للجبهة الوطنية الديمقراطية، قوة المعارضة الرئيسية في شمال اليمن، ثم امينا عاما لحزب الوحدة الشعبية، الاسم الجديد للحزب الديقراطي الشعبي بعد ان انضمّت اليه فصائل شيوعية وقومية اخرى، وعضوا في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ثم نائبا لأمينه العام. رافقته وهو يفاوض رئيسيَن من رؤساء اليمن الشمالي، بإسم معارضة مسلّحة تسيطر على اجزاء واسعة من البلاد، كما رافقته وزيرا، ولاجئا ومنفيا، وعائدا الى الوطن، وقائدا لمعارضة، سياسية هذه المرة، تسعى للبقاء على قيد الحياة وتحافظ على استقلالها في اصعب الظروف. وبعد آخر زيارة لي الى اليمن العام 1993 ، صار جارالله صلتي شبه الوحيدة باليمن. أنتظرُ اللقاءات في بيروت لأستمع الي ما يسمّيه »التقارير« يقدّمها عن حال اليمن والحزب الاشتراكي اليمني الى ان غادرني في حزيران الماضي في بيروت على امل اللقاء قريبا بعد نقاش طويل حول التحالفات الانتخابية القادمة في اليمن.

 

في كافة احواله وتحولاته تلك كان الصديق والرفيق جارالله يجسّد في نظري الابرز والاجمل من خصائص شعبه: النبل والتواضع، الجرأة والتسامح، التشدد في المباديء والمرونة في مسارات تحقيقها، فضلا عن ذلك المزيج المميّز من الدهاء والصدق الذي يكتشفه لديه جميع الذين عرفوه. الى هذه اضاف جارالله دروس تجربته النضالية والثقافية اليسارية، المتحررة من شوائبها واخطائها، الجريئة في تحوّلاتها. فكان مؤمنا وعلمانيا، متمسكا بالوحدة اليمنية كإنجاز تاريخي وناقدا في الآن ذاته لكافة أشكال التمييز والاستبداد التي مورست بإسمها، جمع الدعوة التعددية الديمقراطية الى افق النضال مع اجل الديمقراطية الاجتماعية، محاورا ابداً، ناجحا في ان يكون وطنيا يمنياً وعميق الانتماء القومي العربي وواسع الانفتاح عالميا.

 

لهذه الاسباب كلها، كان جارالله عمر نسيج وحده في السياسة اليمنية يتفرّد بقدر ما يجمع ويضم. يكاد يختزله هاجس الجمع بين الوطني والقومي من جهة والديمقراطي من جهة اخرى، في زمن يُعْمَل المستحيل للتفرقة بين هذه المستويات المتداخلة من قضايانا العربية.

 

 

على اثر حوادث كانون الاول/يناير الدامية في اليمن الديمقراطي، بادر جارالله الى مطالبة الحزب الاشتراكي اليمني انهاء انفراده في الحكم واعتماد التعددية السياسية والآعلامية. وفي مذكرته الشهيرة الى رفعها الى المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني عام 1988 طالب ايضا بانتهاج طريق تحقيق الوحدة اليمنية مع الاعتراف بوجود نظامين مختلفين في شطري البلاد، اي بالتخلي عن فكرة تغيير النظام في الشمال. وراء تلك المبادرة كانت تكمن نظرة ثاقبة وصادقة تعترف بان اقتتال فريقي الحزب الاشتراكي اليمني الذي ذهب ضحيته الالوف من اليمنيين قد افقد الحزب إدعاء الانفراد في التمثيل الشعبي. تأخر الحزب عن استيعاب مبادرته وتبنّيها وعندما بادر الى تنفيذها، نفذّها مجزأة.

 

اما بالنسبة للوحدة اليمنية فقد كان جارالله لفترة المفاوض الاول بل الاوحد مع القيادة في الشطر الشمالي حول مباديء وأسس وشكليات عملية التوحيد خلال تلك الاشهر الحاسمة من العامين 1989 و 1990 . ولكن فيما كان هو يساجل ويناضل، خصوصا لفرض الحد الادنى من العناصر العلمانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بنيان الدولة الجديدة، إنعقدتْ مفاوضات موازية بين كتل مختلفة من القيادة الجنوبية والرئيس علي عبدالله صالح، وخصوصا بين هذا الأخير والأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، علي سالم البيض، مفاوضات تحققت جرّاءها »الوحدة الاندماجية« بالطريقة العجولة المليئة بالغموض والمحمّلة بالمضمرات المتناقضة التي مهّدت للنزاعات اللاحقة وللحرب بين الشطرين.

 

بمثل حماسه للوحدة كانت معارضة جارالله لسياسات الاستئثار ومحاولات تهميش الحزب الاشتراكي في ظل نظام الوحدة. ارتضى تقلّد منصب وزير الثقافة في اول حكومة ائتلافية عقب الانتخابات النيابية ولكنه مع تزايد مصاعب الشراكة في الحكم مع حزب المؤتمر، دعا الى انتقال الحزب الاشتراكي الى المعارضة. لم ينجح في اقناع قيادة الحزب التي كانت متمسكة بالمحاصصة في السلطة. وعندما تدهورت الخلافات بين الطرفين واندلعت المواجهات العسكرية، عام 1994 ، تميّز جارالله بموقف يدين الحرب والانفصال عن دولة الوحدة في آن معا. وفي مناخات التشنّج والعصبيات التي ولّدتها النزاعات الدموية، اضطّر الى ان يغادر عدن سالكا طريق المنفى بعد ان تفاقم الخطر على حياته – من قبل الرفاق ولا احد سواهم!

 

 

ويعود جارالله الى البلاد والحزب الإشتراكي مهزوم عسكريا، مشتّت القوى، وقد صودرت امواله وممتلكاته ومقرّاته، فيشمّر عن ساعديه من اجل اعادة البناء وتنشيط المشاركة في الحياة السياسية. دعا الى المشاركة في الانتخابات النيابية لعام 1997 ، فواجهته اكثرية في الحزب تدعو الى مقاطعة العملية الانتخابية. فإلتزم جارالله قرار الاكثرية حرصا منه على الحفاظ على وحدة الحزب. غير ان هذا لم يمنع الحزب، بسبب موقفه هذا، من ان يخسر معركة سياسية مفصلية لن يستطيع التعويض عنها لاحقا.

 

 

في نظام تعددي ريعي مُدار فردياً- حيث رأسُ السلطة يموّل احزاب المعارضة كما احزاب الموالاة، والصحافةَ الناقدة مثل تمويله الصحافة الحكومية- كيف يتدبّر المعارضون الديمقراطيون امورهم؟ في مثل تلك الحالات يتجلىّ كل دهاء جارالله عمر ونزاهته. كيف تحصل على تمويل سلطوي لعقد مؤتمر للحزب الاشتراكي يحضره نحو من اربعة الاف عضو – والمال هو جزء يسير من مالَك المصادر!- دون ان تقدّم اي تنازل لضغوط سلطوية تطالبك بتغيير الامين العام او بتنفيذ هذا الشرط او ذلك في نهج الحزب وسياساته؟ وكيف، في داخل المؤتمر، تمثّل مختلف التيارات والمناطق وتفسح في المجال واسعا امام ان يكون للشباب والنساء حضورهم الوازن في كافة الاطر والمستويات القيادية، في حزب يربو عدده، رغم الهزائم والمصاعب والانشقاقات، على المئة الف عضو؟ كيف تقبل التمويل السلطوي لرحلة الى انكلترا من اجل اجراء فحوص لتشخيص ما اذا كنت مصابا بالمرض الخبيث – وهو حقّك كمواطن!- ثم تستخدم تلك الاموال للقيام بجولة على فروع الحزب في الخارج وعلى الاحزاب الشيوعية والاشتراكية الصديقة؟

 

هكذا كان جارالله يبتكر، يتحايل، يلتفّ، يردّ على تكتيكات السلطة. لكنه في انتقاله من التكتيك الى الانتهاك، دخل منطقة الخطر: فقد كانت السلطة تتعيّش على وجود معارضتين لن تلتقيا: المعارضة القبلية- الاسلامية المتمثلة بالتجمع اليمني للاصلاح والمعارضة التقدمية العلمانية التي يحملها الحزب الاشتراكي اليمني وحلفاءه القوميون والديمقراطيون.

 

 

يوم 28 كانون الاول/ديسمبر 2002، القى جارالله عمر امام مؤتمر التجمع اليمني للاصلاح، خطابا دعا فيه قوى المعارضة، الدينية والعلمانية، الى العمل معاً من اجل مكافحة الفقر والفساد والأميّة وتهميش النساء وتشويه الديمقراطية. بعد دقائق، تقدّم منه القاتل واطلق النار على صدره وفي ظنه انه يطلق النار على تلك الاهداف. وهو السبب اياه الذي يجعلنا اليوم اكثر تمسكا بتلك الاهداف التي هي وصية جارالله، هذا الديمقراطي حتى العظم، لا، بل حتى الدم، حتى آخر قطرة من دمه.

 

 

ومع ان منفّذ الاغتيال مسجون وقد حكم عليه بالإعدام، فليست السلطة في اليمن بريئة من دم جارالله عمر. تحوم شبهات قوية حول دور اجهزة الامن السلطوية في التحريض على الاغتيال، خاصة ان لقاءات تمت بين القاتل وبين مدير جهاز الامن السياسي، غالب القمش، عندما كان القاتل قيد الاعتقال في سجون السلطة خلال العامي 2000 و 2001 . ترتفع في اليمن الآن اصوات تطالب بإجراء تحقيق مستقلّ وحيادي لجلاء الظروف والملابسات المحيطة باغتيال جارالله عمر وبمنح أسرته ومحاميه الحق في الاطلاع على نتائج تحقيق الدولة في الاغتيال وقد حرموا هذا الحق الذي يكرسه القانون اليمني نفسه. أغتنم هذه المناسبة لأضم صوتي الى اولئك المطالبين واعتقد ان العديد منكم في هذه القاعة يضمّون اصواتهم الى صوتي.

 

 

اطلق الرئيس اليمني (السابق علي عبدالله صالح) مؤخرا دعوة الى الحكام العرب ان يحلقوا ذقونهم قبل ان يأتي من يحلقها لهم. تعني الاستعارة الشعبية طبعاً الدعوة الى المبادرة بالإصلاح وبناء دولة القانون واحترام حقوق الانسان، إستباقا لانتفاضات وثورات قابلة لأن تطيح بهؤلاء الحكام وبأنظمتهم. حريٌّ بصاحب النصيحة ان يبادر هو نفسه الى تنفيذ ما ينصح به زملاءه الملوك والرؤساء والامراء والشيوخ والسلاطين والقادة الجماهيريين. وإن كشفَ النقاب عن ملابسات اغتيال جارالله عمر والمحاسبةَ العلنية للمسؤولين في اجهزة السلطة، إنْ اسفر التحقيق عن مسؤولية لهم، خطوة في المسار الطويل في عملية حلق الذقون ذاتيا.

 

من يسار الصورة: جار الله عمر، فواز طرابلسي وجوزيف سماحة في عدن.

ضع اعلانك هنا