بلقيس كامل
قيل لي حين وُجدت أنني هنا كي أساعد الآخرين على بلوغ حلمٍ مستحيل التحقيق، وأن لي دوراً في نشر ثقافة الحب والمحافظة على سيادة الدولة.
ذات مساءٍ، سمعت اسمي يتردد في خفقات قلب مكلوم لأم ٍ تكتم حزنها وتلعنني ولا أدري ما سبب معاناتها. رأيتني أسافر منذ زمن بعيد عبر طرقات ومطارات وموانئ كثيرة مسلوبة الإرادة أتنقل محمولة على الأكتاف أو مسجونة في الصناديق. تركت مكان نشأتي وأُرغمت على المغادرة إلى وجهاتٍ متعددةٍ في بقاع هذا العالم الكبير ;والمخيف دون رفقة، ولكم تطلعتُ إلى بناء وتكوين صداقات لأستقر في مكانٍ واحدٍ لوقتٍ طويل، إلا أنّ حياتي أقصر مما يجب، ووجودي مرهونٌ بخروجي المفاجئ والسريع دون تخطيط.
ذات ربيعٍ، وصلت إلى أرضٍ لا أعرفها وبين أُناسٍ لا عِلمَ لي بلغتهم، وقد كانوا مرغمين على اخذي وكان يبدو عليهم أثار التعب ; يحملون أطنانٍ من الهموم تظهر في نظراتهم الجامدة الخالية من الحياة وأيضاً في أصواتهم الخافتة ومشيتهم المترددة. لم يسمع أحدهم ما كنت أرغب بالبوح لهم، كنت أريد أن أعود لبلدي، فهذه البلاد لم تُعجبني ولا أشعر بفائدة تواجدي فيها. شعرت بالبرد لدرجة التجمد رغم تواجد الكثير من الأشخاص بالقرب مني يتحدثون ويتهامسون عن أشياءٍ أُحاول جاهدةً أنّ افهمها، لكن دون جدوى، ما جعلني أغوص أكثر في بحرٍ متجمدٍ لا قرار له. و حين كنت اشعر أني أدنو من الموت، رأيتُ النور أخيراً وكأنه كصيف صباحٍ مشرقٍ لم أستطع تبين كم كانت الساعة، كنت سعيدةً، إنه النهار بعد ليالٍ حالكٍ في انتظار الفجر، فقد كانت لحظة خاطفة من السعادة غمرتني بالدفء، و لمست نسمات الهواء الساخنة و لمحت الشمس … كنت في صحراءٍ قاحلةٍ رمالها كثيبة، وهناك في البعيد رمقتني زهرة الصبار بتوجس لم أُدرك ماهية تلك النظرة، ولم يسعفني الوقت أن اذهب إليها لأسالها، فقد أصدمت فجأةً بكتلةٍ دافئةٍ و تلونت بلون أحمر زاهٍ، و عصرتني تلك الكتلة وامتزجت بمكوناتها الغريبة التي لا تشبهني، حينها لم اشعر بالراحة و تضايقت من كمية اللون الأحمر الذي حاول إغراقي، و كافحت جاهدة للخروج و خلفت ورائي ثقباً أسوداً كبيراً لا يناسب حجمي الضئيل، و تهاوت تلك الكتلة و صبغت مساحة من الرمل باللون الأحمر الذي رفضت الأرض أن تمتصه رغم عطشها. رأيت وقتها صديقاتي في الصندوق، وأخبرتهنّ ألا يذهبن مع أولئك الأشخاص في تلك التجربةِ التي مررت بها، إلا أنهنّ كنّ مسلوبات الإرادة مثلي، لا يستطعن عمل شيءٍ.
ومرة أخرى، سمعت اسمي ولكن على لسانٍ أخر في مكالمةٍ قصيرة يخبر شخص ما بصوتٍ مبحوحٍ لا يكاد يستطيع التلفظ بشيء بسبب تلك الغصةِ العالقةِ في حلقه والتي تمنعه من التحدث … كلمات متقطعة يفصلها فترات صمت خانقة وتنهيدات. المستمع لا يجيب… يغيب ويختفي إلا من نحيبٍ يخترق الصمتَ … ذكرياته مع ابن عمه تجثم على صدره كالكابوس، تمنعه من النوم وتغرس في قلبه الألاف من الأسئلةِ التي لا يجد لها إجابةً … يحاول الاتصال بأهله، إلا أنه لا أحدَ يتذكرُ ابنهم المسافر في مكان بعيد من كان يلعب كثيرا مع ابن عمه الذي غادر الحياة دون إنذار. يتمنى أنهم لم يخبروه أو على الأقل استقطعوا وقتاً من يومهم و تحدثوا معه، فهو هناك في البعيد لم يدرِ ماذا ينبغي عليه أن يفعل أو كيف يبكي، كان يريد أن يسمع صوتاً قريباً لهُ ليشاركه الحزن، لكن الأخرين مشغولون بدفن الجثة ليضاف رقمٌ جديدٌ إلى قائمة مطولة لا يبدو أنها ستنهي…. شعرتُ بالأسى كيف يُعقل أن أكون من سبب كل هذا الحزن، أليس من المفترض أن أكون أداة حفظٍ للسلام !