تزايدت حدة الاستقطاب السياسي والفكري في الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة. ويرى بعض الباحثين أن الولايات المتحدة تشهد في الوقت الراهن تجاذبات وصراعات فكرية غير مسبوقة.
ويقول بيرنارد غروفمان، خبير العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في إيرفين: “إن المشهد السياسي في الوقت الراهن يخيم عليه استقطاب حاد لم نشهد له مثيلا إلا في حقبة ما بعد الحرب الأهلية في التسعينيات من القرن التاسع عشر. إذ لم نر الكونغرس الأمريكي منقسما إلى هذا الحد منذ ما يربو على 100 عام”.
ولم تكن كاليفورنيا استثناءً إذ تعمقت الانقسامات في الأعوام القليلة الماضية، سواء داخل ولاية كاليفورنيا أو بينها وبين سائر الولايات الأمريكية، وأشعلت شرارة ست محاولات على الأقل لتقسيم الولاية إلى ولايات أصغر أو فصلها كليا عن الولايات المتحدة الأمريكية.
وتقول مونيكا توفت، أستاذة السياسات الدولية بكلية فليتشر بجامعة تافتس في مدينة بوسطن، إن هذه المحاولات لاقت تأييدا من فئات عديدة، برر بعضهم ذلك التأييد بأن الحكومة الفيدرالية لم تعد تمثل مصالح كاليفورنيا اقتصاديا، بينما ذكر البعض الآخر أن ولاية بحجم كاليفورنيا لا يمكن تنظيمها بشكل ملائم إلا إذا قُسمت إلى ولايات أصغر.
ويرى أخرون أنه لم يعد هناك سبيل إلى تقريب شقة الخلاف بين ولاية كاليفورنيا وسائر الولايات الأمريكية حول القيم والمبادئ الأساسية التي يؤيدها الطرفان.
ولكي نضع النقاط على الحروف من البداية، فإن كاليفورنيا لا تعتزم الانفصال عن الولايات المتحدة في المستقبل القريب، ما لم يطرأ تغير جسيم. ولا يعترف الدستور الأمريكي بحق الولايات في الانفصال، ولا يوجد ما يكفي من الأدلة لإثبات أن غالبية سكان كاليفورنيا يؤيدون الانفصال. إذ كشف استطلاع للرأي أجرى عام 2017 وشمل ألف شخص من سكان كاليفورنيا، عن معارضة 68 في المئة منهم لهذه النزعات الانفصالية.
إلا أن مناقشة تداعيات انفصال كاليفورنيا تفتح الباب لتساؤلات عديدة حول توازن القوى والتفاعلات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية.
هل يتطور الأمر إلى حرب أهلية؟
إذا افترضنا أن ولاية كاليفورنيا حاولت الانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية، فإن السؤال المطروح هو مدى احتمالية تفجر أعمال عنف، حتى لو في صورة حرب أهلية.
صحيح أن اندلاع حرب أهلية ثانية في الولايات المتحدة يبدو مستبعدا، لكن سكان الولايات الجنوبية لم يدر بخلدهم أن يسفر قرار الانفصال عن الولايات الشمالية الأمريكية عام 1861 عن نشوب صراع امتد لسنوات.
إذ حصدت الحرب الأهلية آنذاك أرواح 620 ألف أمريكي واهتزت لها أركان الدولة. يقول توفت: “إن الولايات المتحدة ليست بمنأى عن الحروب”.
وطالما أسفرت الحركات الانفصالية على مر التاريخ عن أعمال عنف، إذ ردت باكستان على قرار بنغلاديش بالانفصال عام 1971 بالإبادة الجماعية والاغتصاب الجماعي. ودامت حرب استقلال إريتريا عن إثيوبيا 30 عاما.
وعلى النقيض، انفصلت بعض الدول دون إراقة قطرة واحدة من الدماء، مثل جمهورية التشيك التي انفصلت سلميا عن سلوفاكيا. وحتى الآن تسير اجراءات انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي سلميا، رغم المحادثات الصاخبة.
ويقول ستيفان سيديدمان، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كارلتون في العاصمة الكندية أوتاوا، إن مسألة نشوب أعمال عنف من عدمه ستتوقف على ميول من يتولى مقاليد الحكم في البلاد وموقفه من الانفصال. فقد يتنفس الجمهوريون الصعداء لانفصال كاليفورنيا، في حين أن الديمقراطيين قد يبذلوا محاولات مستميتة للحفاظ على كاليفورنيا خشية التهميش.
وخلافا للحرب الأهلية الأولى التي اشتعلت بسبب العبودية، لا توجد قضايا محورية تؤجج الانقسام بين كاليفورنيا وسائر الولايات الأمريكية، وهذا ما يجعل أغلب الباحثين يستبعدون نشوب حرب بين الولايات الأمريكية.
يقول بريندان أوليري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا: “لا وجه للمقارنة بين سكان كاليفورنيا وبين أكراد العراق، أو بينهم وبين الكتالونيين في إسبانيا أو الأسكتلنديين والأيرلنديين في المملكة المتحدة. ولا أتخيل أن يطيع جنرالات من البنتاغون أوامر عليا باحتلال كاليفورنيا بقوة السلاح”.
موازين القوى
وقد يغير انفصال كاليفورنيا سلميا المشهد السياسي في الولايات المتحدة تماما. إذ سيميل ميزان القوى إثر خروج كاليفورنيا- أكبر الولايات الأمريكية من حيث عدد السكان- نحو كفة الجمهوريين. وربما يفقد الأمريكيون الأمل في صعود ديمقراطي آخر إلى سدة الرئاسة في المستقبل القريب.
ويقول سيديمان: “يراهن الديمقراطيون على أصوات الناخبين في ولاية كاليفورنيا منذ مطلع التسعينيات لتحقيق الفوز في الانتخابات الرئاسية، وقد يواجهون بعد انفصالها مصيرا مجهولا”.
وإذا اكتسح الجمهوريون الانتخابات، سترجح الأقلية من الديمقراطيين في البرلمان مصالح التيار اليميني. ويقول غروفمان: “إذا فقد الحزب الديمقراطي أصوات سكان كاليفورنيا التي تعد معقل الديمقراطيين، سيتغير مركز الثقل السياسي”. وقد يعلق الديمقراطيون آمالهم على التوافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وقد يتلقى الاقتصاد الأمريكي ضربة قوية بانفصال كاليفورنيا، التي تعد خامس أكبر اقتصاد في العالم، إذ بلغ الناتج الإجمالي المحلي لولاية كاليفورنيا 2.7 تريليون دولار في عام 2017. وتسهم كاليفورنيا بالنصيب الأكبر من الإيرادات الضريبية للولايات المتحدة الأمريكية.
وستتوقف شدة التداعيات على الاقتصاد الأمريكي على الاتفاقيات التجارية التي سيبرمها الزعماء لرفع الحواجز الجمركية أو فرضها، لكن في النهاية ستتكبد الولايات المتحدة لا محالة خسائر جسيمة.
ويقول أوليري: “سيتهاوى سعر الدولار مقابل العملات الأجنبية، وقد يحل محله اليورو أو اليوان الصيني في صدارة العملات العالمية”.
وربما تفقد الولايات المتحدة بعد الانقسام مكانتها الدولية، وقد توضع علاقاتها الوثيقة مع الحلفاء على المحك.
وفي ظل صعود التيار اليميني في الولايات المتحدة، ستتوثق العلاقات بينها وبين الدول التي تهيمن عليها الأحزاب اليمينية، مثل المجر وروسيا، وقد تسوء العلاقات بينها وبين كندا، وكذلك بينها وبين المكسيك، ولا سيما بعد اتخاذ الإدارة الأمريكية إجراءات تصعيدية لمنع دخول المهاجرين.
في حين أن كاليفورنيا، الدولة الوليدة، ستصبح حليفا جذابا للدول التي تنتهج سياسات ليبرالية. ويقول سيديدمان: “سيتبلور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بمشاركة عدة قوى دولية، كالولايات المتحدة والصين وكاليفورنيا والهند وغيرها، ليسدل الستار على احتكار الصين والولايات المتحدة للقوة والسلطة، وستزداد أهمية التحالفات الدولية”.
وقد تقود كاليفورنيا التي تتطلع لتعزيز مكانتها في المجتمع الدولي، الجهود الرامية لمكافحة الاحترار العالمي. وفي الوقت نفسه، قد تزداد الولايات المتحدة تراخيا في التعامل مع قضية التغير المناخي.
ويقول سيديدمان: “إن الخطوات الجادة التي تتخذها كاليفورنيا للتصدي للتغير المناخي قد تفسدها سائر الولايات الأمريكية”.
ملاذ المهاجرين
وقد تستقطب الدولة الوليدة المهاجرين، وستظل أبوابها مفتوحة على مصراعيها أمام المبتكرين من مختلف بلدان العالم للعمل في وادي السيليكون ووكالتها الفضائية المرتقبة، ولعلها ستخفف أيضا القيود المفروضة على هجرة العمال الأقل مهارة.
ويقول أوليري: “قد تضع كاليفورنيا سياسة جديدة لاستقبال المهاجرين من أمريكا الوسطى وغيرها للعمل في مجال الزراعة التي تسهم بنصيب كبير في الناتج الإجمالي المحلي”.
وبينما سيرحب جنوب كاليفورنيا، الأكثر تنوعا، بتوافد المهاجرين، فإن شمالها الذي يغلب عليه الاتجاه المحافظ- سيعارضه بشدة. ويقول توفت: “بعض الدوائر في كاليفورنيا صوتت للديمقراطيين وبعضها صوت للجمهوريين، وبعضها تساوت فيه الأصوات للحزبين، وهو ما يعني أن كاليفورنيا ليست ليبرالية كليا”.
ويقول غروفمان: “يميل البشر فطريا للنظر إلى العالم على أنه معادلة صفرية، فكلما زاد عدد الأشخاص في المعادلة، سيزداد عدد المستفيدين وستقل أنصبة كل منهم. أي أن كل ما تربحه أنت، سأخسره أنا، وستكون المحصلة في النهاية صفر”.
وقد يحجب التعصب والتحيز ضد الغرباء عن سكان كاليفورنيا، المزايا التي ستعود على البلاد بفضل النمو السكاني. ويقول غروفمان: “جرت العادة على أن يضع سكان البلاد حواجز وعراقيل للحيلولة دون دخول أي أجنبي”. وقد لا تشذ كاليفورنيا المستقلة عن هذه القاعدة.
وخلافا لما يظن البعض، لن يتقاطر الليبراليون الأمريكيون، فرادى وجماعات، إلى كاليفورنيا أو ينزح منها الجمهوريون، إذ يقول سيديدمان: “إذا انفصلت كاليفورنيا سيتنتقل بعض الأمريكيين إليها، لكن ليس في صورة هجرة جماعية كما يظن البعض، وسيكون الدافع وراء الهجرة البحث عن فرص عمل”.
وقد تزداد الحركات الانفصالية في الولايات المتحدة إثر خروج كاليفورنيا. فربما يشعر سكان الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة بالتهميش بعد سيطرة الجمهوريين على مقاليد الأمور في البلاد. وقد يدفع اليأس من تحقيق أغلبية برلمانية المنطقة الممتدة من ولاية ميريلاند إلى ولاية مين شمالا وحتى ولاية بنسلفانيا غربا إلى الانفصال عن الولايات المتحدة.
وبعد انفصال الشمال الشرقي، قد يتوالى ظهور الحركات الانفصالية في الولايات التي تمتلك مقومات اقتصادية وتعداد سكاني يكفلان لها البقاء والاستمرار كدويلات مستقلة. وبعبارة أخرى، فإن انفصال كاليفورنيا قد ينذر بنهاية الولايات المتحدة كما عهدناها.
ويقول غرفمان: “إذا انفصلت كاليفورنيا، قد تتفكك أوصال الولايات المتحدة الأمريكية”.
نقلاً عن بي بي سي