مشروع حياة مؤقت
تتحسس ذاك الكائن المتكون في أحشائها و تتنهد و تسيل أدمعها شلال لا تقدر كتمان ما تشعر به بعد الان … بعد سبعة أشهر ستجرب مشاعر الامومة للمرة السابعة … تزوجت منذ أربعة عشر عام مازالت تتذكر تلك الليلة و ما صاحبها من توتر و قلق .. أمها تذرف دموع الفرح و تتأكد من استكمال كافة التجهيزات منذ الصباح الباكر و لعلها لم تذق طعم النوم من أسبوع تبدو منهكة متهالكة لكن عيناها تشع بهجة و تبوح بالآلاف المشاعر التي لا تقدر 28 أبجدية ً احتواها و سطرها او التعبير عنها … والدها يشعر بالفقد و يتجلد و يخفي حزن الفراق في جلباب الغضب و ملامح الضيق التي لم يستطع دفنها و صوته العالي يهز البيت و كأنه ينوح أبنته تزف لبيت أخر … من الغد لن يراها صباحا ً كالفراشة تنشر السرور و تتناول معه الافطار وباقي افراد العائلة فهي زهرتهم … من تغني له حين ايصالها للمدرسة ولا تسمح له بفتح الاذاعة … من تغسل له اغصان القات وترتبها بعناية … تخنقه العبرات و يبتلع الالم فما هي الا ساعات و ينطفئ الدار … أخواتها يستعدون للموكب الكبير فقبل اسبوع قد تبادلوا النوادر عن كيفية قيادة الموكب وان الجميع سيتحدث عنه اعوام لعدد السيارات و الالعاب النارية المرافقة فهي أختهم الوحيدة … قطع حبل افكارها طرق على الباب … ابنتها ذات الحادي عشر ربيعا ً تخبرها انها ذاهبة الى المدرسة و تقبلها على جبينها و تمشي معها للصالة و ترى بقية ابناءها ذاهبون للمدرسة يغادرون ببسمة تترسم على شفاها … يا لقدرة الطفولة العجيبة بلمسة سحر تغير مزاجها .. تلتفت الى اعمالها المنزلية فعليها ترتيب المنزل واعداد طعام الغداء فلديها الكثير من المهام العصر لتلك الجماعة التي اوكلت لها قيادة مجموعة من النساء و تدرسيهن اصول تلك الكتب التي علي الجميع دون استثناء معرفة كل حرف فيها … تنهي ترتيب المنزل و يرن الهاتف صديقتها تذكرها بدرس العصر وموعدهن المهم … تغلق السماعة و تلعن تلك الساعة التي جعلتها تنضم لهذه الجماعة ولكنها لا تملك أي خيار فزوجها و افراد عائلتها كلهم في نفس القارب ولا مجال للتراجع … تتجه للمطبخ توقد النار تحت القدر و تغرق في ذكريات مولدها الاول ومشاعر الامومة الاولى تجثو على ركبتيها و تنتحب تتكور على نفسها و يغوص رأسها و تبكي بحرقة و يسمع انينها فتهب اخت زوجها و تحتضنها و تسألها عن سبب بكاؤها تخبرها انها افتقدت أبنها الذي قضى نحبه في الحدود رغم صغر سنه فقد كان في الصف التاسع و رمى به ابيه مع ما يسمون بالمجاهدين للذود عن البلاد لقد كان يختال بتلك البندقية التي تشعره بالرجولة و صفقت بطفولته عرض الحائط فور ارتدائه لها و ما هو الا اسبوع حتى سرى الخبر الحزين عبر القنوات التلفازية والاذاعية عن اسمه ضمن لائحة الشهداء كما يزعمون … لم يُسمح لها بإظهار عاطفتها ولا حزنها ووأدت كل ذلك من أجل مظاهر التجلد فهي أم شهيد لا يجدر بها الا التفاخر و الفرح و اطلاق الزغاريد … قامت بكل ما اخبروها به تجمعت نسوة الحي لتعزيتها في مصابها وجدنها تتوسط المجلس في كامل زينتها و تمضغ اوراق القات بنهم … تفاجئ الجميع لموقفها و حسبنا ان خبر موت طفلها البكر شاعة تروج او مجرد خدعة استقبلت الجميع بهدوء و ابتسامة صفراء و بدأت درسها المعتاد وانهته بالصرخة المشؤومة و تمنت الموت لكل الشرور لكل الخداع لكل المنافقين سرا ً … غادر الجميع مشدوهين و استمرت في تجلدها … لكنها اليوم لم تستطع التحمل فهذا الوليد في داخلها و ابناءها الذين ودعتهم صباحا ً ما هم الا مشاريع حياة مؤقتة … نهضت و قررت ان تمسك زمام الامور … عاد ابناءها و تناولوا جميعا الطعام وناموا نومة أبدية في حضنها … صعق الحي بالمأساة ولم يستطيع احد لومها على الاقل كانوا في حضنها الدافئ ورحمتهم من تلك الحياة المؤقتة …
بلقيس كامل