ضع اعلانك هنا

هنا لندن
مقال للروائي والصحفي اليمني ريان الشيباني



في ريف يمنيٍ ناءٍ لا تصله من ذبذبات الحضارة، سوى صوت الأثير الإذاعي: هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانية! نَشأتْ.
كان جدي لأمي، لا يذهب إلى فراشه، كل ليلة، إلا وقد سمع القرع المهيب لساعة (بج بن) اللندنية، يتماوج في أماسي القرى القاحلة والعاصفة.
جدي رجل أصم، ويرتعش رأسه عند الغضب. أَحبّهُ والده، لاعتقاده به رجلًا مقدامًا وشجاعًا، ثم بنى لنفسه إلى جانب هذه الخصال سمعة، باعتباره رجلًا مسلحًا خطيرًا، لم يَسكتْ ولم يهادن السلطة، أي كان شكلها.
اقتبستُ منه، على ما اعتقد صوان أذنيَّ، إلى جانب ما احتجته من سمات، لإثراء شخصية تاج الدين بن سراج الفاتح في روايتي الحقل المحترق.
ُيرجع جدي السبب في صممه وارتعاشة رأسه، إلى وابل غزيز فتّاك، هطل عليه في صباه.
قد يكون هذا التبرير مقبول عندما يتعلق الأمر بارتعاشة الرأس، أما بالنسبة للصمم، فنرجعه جميعًا، إلى خلل وراثي، ممتد لدى أجيال متعددة في العائلات التي تناسلنا منها.
درجت جدتي، كل ليلة على تجهيز الراديو (سوني على ما اعتقد) ووضعه على حصيرة في السقف العلوي لدارنا، حيث يجلس جدي بعد ذلك، ويبدأ بتشغيل الجهاز ورفع صوته إلى أقصى ما يستطيع، ومن ثم نزع سماعة أذنه، ووضعه ملاصقًا لصوانه، ثم يحرك كعكة شريط الترددات، ليعثر على الصوت الرنات المتماوجة، التي نعرفها نحن أسرته، إن لم تكن القرية بأكملها، ويشرع في سماع نشرة أخبار السابعة أو الثامنة، ويعلق عليها.
لكنه يتعامل مع مذيعي إذاعة هنا لندن، وكأنهم أكثر من مجرد قُراء/ قارئات نشرة أخبار العالم، إذ يذهب لتحميلهم جزءًا من المسؤولية عن كوارث العالم.
لذا، فإن أخبار حرب الخليج الأولى، عادت إلى مذيعي ومذيعات بي بي سي بشتائم مقذعة وسباب لاذع، وأحيانًا لا يتوقف الأمر هنا، بل يتصاعد إلى المرحلة التي نجده فيها، يرمي بالراديو بعيدًا على الحصيرة، ليتركه- هناك- يوشوش، ثم يذهب للنوم.
أُعلن اليوم في لندن، عن توقف هذه الإذاعة. وأيًا كانت سياساتها التحريرية الإخبارية، إلا أنها، شكّلت الجزء الأكبر من وعينا تجاه العالم، باعتباره نشرة أخبار لندن.
في ليال أخرى كثيرة، صاحبتنا أصواتها الإذاعية العذبة، والتي لا تقل روعة عن برامج الترفيه أو الموسيقى الكلاسيكية التي تقدمها.
Ryan Alshibany

ضع اعلانك هنا