العربي الجديد
عائشة بلحاج
كنت أقرأ مقدّمة ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لرواية وليام فوكنر “الصّخب والعنف”، وفاجأني قوله عن فوكنر: “لم يترك رذيلة أو جريمة لم يجد لها مكاناً في كتبه: كصور الاغتصاب والسّلب وقتل الإخوة وزواج البيض والسود …”. كيف عادل زواج البيض والسّود بالجرائم التي ذكرها؟ صحيحٌ أنّه لم يكتب ذلك في الألفية الجديدة، حيث انتعش الوعي بخطورة العنصرية التي قد تَرِد في سياقات “بريئة”، لكنّها لا تقل أثراً عن تلك الصّادرة عمداً. ربما تحدّث جبرا بمنطق عصر الرواية الذي كان يعتبر هذا الزّواج جريمة في حق العرق الأبيض. لكن عدم انتباه جبرا جعله يُعيد ترديد الخطاب العنصري لتلك الفترة، في مقدّمةٍ كُتبت في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد عقود من نشر الرواية.
جعلني هذا الموقف أفكر في الكُتّاب الذين كانوا عنصريين في تاريخ الأدب العربي عمداً أو سهواً. لعل أبرز مثال على تناول الأدب العربي العنصرية ومظاهرها عنترة بن شداد الذي حمّل شعره همّ لونه مع همومه الكبرى، فيردُّ على العنصرية التي طاولته بشكل مزمن بأبيات كثيرة تترك انطباعاً لدى القارئ أنه كان في حالة مواجهة دائمة معها. بل إنّه حتى وهو يدافع عن نفسه، يقرّ بأن السّواد خطيئة، في بيته: “تعيّرني العدا بسواد جلدي/ وبيض خصائلي تمحو السوادا”. وبيته الجميل “شبيه اللّيل لوني غير أنّي/ بفعل من بياض الصّبح أسنى”. فهو نفسه يتبنّى الخطاب العنصري ضده، فيشفع لنفسه ببياض خصائله للتغطية على سواد البشرة الذي يُقرّ، ضمناً، بأنه خارج الطبيعة.
بلغت عنصرية المحيط حول عنترة بأن وَصَف الشعراء السّود بالأغرِبَة، وهو جمع غراب، ومنهم عنترة وخفاف بن ندبة والسليك بن السلكة، الذين وُصموا بسبب لونهم، واعتُبروا بمثابة شؤم. بينما اشتهر الغراب في الشّعر العالمي في وصف الكئيب والمتشائم بِغض النّظر عن لونه، وغراب الشّاعر الأميركي إدغار آلان بو أبرز دليل. أما استغلال لون الخصم لهجائه، فذلك كان تخصّص المتنبي بالقدح في عدوّه كافور، الذي عايره بأنه يتحدر من “أنجاس مَناكيد” بسبب لون بشرته السوداء. بينما كان الشاعر السوداني المعروف محمد الفيتوري، حسّاسا تجاه العالم وقسوته، لكنه لم يتجاهل حقيقة العنصرية حوله، فيُشفق على نفسه منها، أكثر مما يواجهها: “يسيرُ فتسخر منه الوجوه/ وتسخرُ حتى وجوهُ الهموم”.
أقدم أنواع العنصرية في التاريخ هي التي ضد النساء. لو ذكرنا عدد كتب التراث التي تُهين المرأة، وتضعها في مرتبة العبودية، حتى لو لم تكن عبدة في زمن العبودية المباشرة، وامتدّت إلى الأدب الحديث، لفُجعنا. فحين يقدّم الكاتب العربي شخصيات نسائية، يمعن في التنكيل بها، ليس بغرض وصفها للتقليل من شأنها بشكل متعمّد، أو فقط لتعميق البعد الدرامي للأحداث. فالمرأة في روايات نجيب محفوظ، أهم الحكّائين العرب المعاصرين، غالباً هي بين منزلتين: الفاسقة الخائنة أو الضعيفة مسلوبة الإرادة. أما إذا عُدنا إلى “ألف ليلة وليلة”، فتلك قصة أخرى، ملأى بالعنصرية ضد النّساء وضد السود.
من أبرز أنواع العنصرية، ضد المرأة، في الأدب العربي الحديث، لفظ “العانس” الذي لا يتردّد روائيون كثيرون في إطلاقه مرارا وتكرارا على شخصية، حتى يتطبّع معها القارئ. مع أن وصف الحالة الاجتماعية لها في بداية الرواية يكفي ليعطي القارئ فكرة عن حياة الشخصية. هل يمكن إعادة النظر في الكتب التي سبق ونشرت وتحمل عباراتٍ عنصرية أو قدحية؟ ما أعرفه أن دور نشر عالمية أعادت نشر كثير من الأعمال الكلاسيكية، لمحو الإساءات التي لم تكن ذات معنى، في عالم قاسٍ أكثر من الذي عليه حاليا، ولكن الانتباه انصبّ بقوة على الكلمات القدحية تجاه فئة من الناس. كما في عنوان رواية أغاثا كريستي، الذي تحول من “عشرة عبيد صغار” إلى “كانوا عشرة”. فيما لا تزال دور نشر كثيرة عندنا تعيد تكرار العبارات المسيئة والعنصريّة، والمحرّضة على العنف الجنسي أو المذهبي، ولا فرق بين الكبار والأطفال. والدليل، سلسلةُ “قصص جحا” التي أعدّها كاتب مغربي اسمُه محمد الملياري، لفتت انتباه كثيرين إلى لغتها العنيفة ضد المرأة.