ضع اعلانك هنا

العودةُ إلى القرية

العودةُ إلى القرية

أحمد سيف حاشد

في طريق عودتنا إلى القرية ومغادرتنا عدن، كنت أشاهد عسكر الإنجليز في النقاط الأمنية يلبسون القمصان الكاكي، والسراويل القصيرة، وقبعات الرأس العسكرية، غير أن أكثر ما لفت نظري واهتمامي أن في كل نقطة عسكرية في اتجاه المغادرة نجد أحد الجنود يودعنا بتعظيم سلام، حيث يضع يده بثبات على محيّاه، ليحيِّينا بتحية مهابة ترفع من قدرنا ومقامنا، وكأننا قادة لا أناس عاديون وبسطاء.. يحيِّينا ونحن نمر أمامه وهو في وضع استعداد وانتباه وثبات، ويستمر بتأدية تلك التحية التي خصّنا بها، فيما رأسي الصغير كان يتساءل مع نفسه بتحفز وشغف وحيرة.

 

كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحرّكون؟! هل يستمرون على وضع التحية وقتاً طويلاً؟! هل يأكلون ويشربون مثلنا؟! لماذا يفعلون هذا؟! تمنيت أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تُقلّنا وقتا طويلا أمام كل واحد منهم، لأراهم بإمعان، وأرى كم يستمرون على ذلك النحو (تعظيم سلام)، أريد أن أُملأ عينيَّ من كل واحد منهم ساعات طوال. ربما بدت لي تلك الغرائبية، أو قياس مفارقتها اليوم أشبه بكائنات فضائية جاءت من السماء، فتثير فينا كثيراً من العجب والأسئلة.

 

عُدنا من عدن إلى قريتنا (شَرار) في (القبّيْطة) مثقلين بالحزن والفراق الطويل. نمضغ بؤسنَا كماضغِ الملحِ والصّديد، جراحنا مفتوحةٌ وغائرة في النفوس. عُدنا وقد نقصنا من عدد مجيئنا اثنين، وكُدت أكون الثالث في عدد كاد يُوأدُ ثلثاه؛ غير أن الحياة ولّادة، وقد أضافت في عددنا أخت حديثة العهد والولادة، غالبت الموت والمرض، وانتصرت بمستحيل على كليهما.

 

مؤسفٌ أنْ نعودَ وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنتان “نور وسامية” هما زهرتا وجودنا.. يالخسارة تركت في نفوسنا مغاوراً ومخارزا !.. عُدنا ونحن نحمل حزناً ثقيلاً وقليلاً من المتاع، وتركْنا خلفنا ذكرياتٍ يتيمة، وقبرين صغيرين، حصيلة “غربة” بدت لنا فادحة.

 

***

 

ولمّا كبرتُ عرفتُ ما لا أعرفه.. اكتشفتُ بعض مما كنت أجهله، وظلّت المعرفة تزداد وتتسع.. لقد كشف لنا التاريخ وجهاً آخر للاحتلال، غير ما ورد في تلك المشاهدة العابرة، التي أخذتني بدهشتها، وأسرتني بلطفها، وألقت على وعيي البريء من وهلة أولى، عجب وسرور وأسئلة، ظلّت سنوات طوال حيّة في الذاكرة، حتى عرفت أن الاحتلال ناهب وبشع، وفادح على وطن يرزح تحت نيره، محاولاً التحرر من ربقته.

 

أحتل الإنجليز عدن بمبرر أقبح من ذنب، وحيلة أكبر من مكر ثعلب، وأستمر بأعذار عدة، وحيل متكاثرة، ومكر مُشبع بالخبث والدهاء، وعندما يجد من يرفضه ويقاوم اطماعه ووجوده، أو يتصادم مع مآربه وأطماعه، يتجهم ويكلح وجهه الغضوب، وتقفز الشرور كالضباع من عيونه ومحيّاه.. يتوحش في وجوهنا حتى تصير كل الوحوش دونه، ويكشف عن كثير مما كان مختبئاً أو مخفياً تحت ما هو ناعم، وكنّا نجهله، أو كانت برأتنا لا تدركه.

 

الاحتلال لم يأتِ من أجلنا أو لإنقاذنا مما نحن فيه، ولكن جاء من أجل مصالح وأطماع ساسة دولته. الوجه الحقيقي للاحتلال يمكن أن نلاحظه في جوهر هذا الاحتلال، وأطماعه التوسعية، وسياسة الإخضاع التي يتبعها، واللجوء إلى استخدام القوة، والقسوة والتوحش حيال من يناهضه أو يقاومه، لاسيما عندما تفشل سياساته الناعمة.

 

ومن سياساته، سياسة “العصا والجزرة”، وهي سياسة لطالما عشتها في وضع مقارب ممن باتوا يشبهونه، وما زلتُ أعيشها إلى اليوم، ولم استطع التكيُّف والتأقلم مع محيط لا أشبهه.. سياسة خبيثة في نصفها ابتزاز وإرغام، ونصفها الآخر ناعم وليِّن وغاوي، ولكنه في الحقيقة، يشبه “الغرغرينا” زحفاً وفتكا.

 

تلك التحية العسكرية لطالما ظلت تثير فيني العجب، ومن إعجابي بها ظلت عالقة في الذاكرة، واستمريتُ في استذكارها وتقليدها ببراءة طفل، سنوات عديدة.. تحية بدت في جلالها هيبة وعظمة، فيما ظل السؤال الغائر في النفس يكبر ويتسع: لماذا تزجى مثل تلك التحية لنا، ونحن أناس بسطاء وعاديون..؟! ربما تسألتُ بعد حين بافتراض: لعله يريد بهذا الوداع الجاذب للوجدان، واللافت للبراءة، أن يترك انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال، الذي كان يقتطع بعض أجزائه كلما وجد الأمر سانحاً أو مؤاتيا لتحقيق رغبته..!

 

ومثل ما كان هناك احتلال غاشم في الجنوب، كان هناك في الشمال محتل آخر ثقيلاً بتخلفه وغربته عن العصر.. احتلال قادم من الزمن المزدحم بالظُلم والظلام، والهمجية والفجاجة.. احتلال قادم من زمن تقادم عهده، وتضاعفت غربته، وما زال يزحف نحو مستقبل نحن نبحث عنه، وهو يريد اغتصابه وتملّكه.. وما أشبه اليوم بالبارحة.

 

لقد كانت تلك التحية، أشبه بفخ خادع، أو بطُعم كاذب وزائف، بقصد تعميم انطباعا آسراً، تكتشف حالما تكبر، كم كنتَ واهماً ومخدوعاً، وكم كانت الحقيقة عنك غائبة..!! إنه انطباع يخلق قدراً من الترحيب والقبول بالاحتلال في قادم الأيام، غير أن الشعب قال فيه قراره وكلمته وثورته.

 

***

أما المستعمر اليوم فيختلف عن ذلك الذي كان في الأمس.. بات الاستعمار اليوم بعيداً ومتخفياً، ويحقق مآربه الشريرة، وأطماعه الكبيرة، وسياساته التوسعية من خلال حوامل وقوى محلية.. يدعم السلطات الفاسدة في بلدانها، ليتسنى له نهب شعوبها، وإبقاءها متخلّفة ما أستطاع.. يدير حروب الجيل الرابع والخامس لتقسيمها وتمزيقها ليستولي على مقدراتها، بكلفة ضئيلة أو بدون كلفة، فيما كلفة الشعوب تكون أوطانها.. إنها كلفة باهظة وفادحة لا يجبرها جابر أو عوض.

 

***

ضع اعلانك هنا