#ثرثرة_شبقة
احمد نويهي
عن لقاء ووداع مثير
الرفيق الفذ د.محمود
التقيته العام 84 بينما كان يؤدي الخدمة العسكرية ليغادر إلى “موسكو” بعد عام واحد عبر “باب القاع” يوم كان بوابة السماء، يوم كانت صنعاء عاصمة لكل الشعب بلا فرز عنصري او مذهبي او طائفي..
يوم كانت صنعاء الموت والميلاد مشتل يورف بالحياة والوجود،
كان الرفيق الدكتور محمود صديقاً حميمياً للاستاذ سيف محمود “الأخ الأكبر” كما يؤكد صاحب رواية 1984
الاخ الاكبر الذي سيعيش في طياته كما لو كان
“لن أعيش في جلباب أبي” وهذه رواية آخرى لم تسعفني الذاكرة ليدون اسم كاتبها.
عن اللقاء والوداع، الغياب والحضور، الحزن والمآتم، الفرح الشحيح والضجر الشاسع، عن الود المتفاقم والبعد المترامي، عن اضداد شكلت الوعي والوعي المتقدم، عن اليمن والعالم، اليسار واليمين،عن الدولة العميقة والدولة البوليسية، والوطنية والمدنية والدينية الرجعية والتقدمية، عن زمن الشوفينيات والقوميات والسوفيتات، عن رفاق تل الزعتر والمخيمات، عن الشمال والجنوب، عن القرية والمدينة، عن القروية التي طاحت بالمدنية، عن الجندرما لا الجندر تحدثنا خلال اقل من ساعة كنا نستمطر بذاكرة الوقت والدخان يتكاثف فيما تبقى من مساحة بيننا، عن رفاق العمر والمحطة الأولى شرقاً.
عن محمود والمدرسة..
يقول:” يَب انا درستوا وقا العطيف بيدي ”
عندما رأى ارغدون في حوش منزله ايام عيد الاضحى المنصرف حين طاش يقبله ويرفع شآنه..
قال له: ماشاء الله صف عاشر وباقي لك صف واثنين وانك بالكلية تدرس طب..
وإلا تشتي توقع زي بابا؟
يا ارغد.. اسمك حلو وبلا شك بابا انتقاه من كتاب ثمين..
ارغد والا ارغدون؟
كان د. عبدالرب صديق العمر ايضاً يجلس جوارنا حيث جلسنا هذا النهار والمشيعين يحتشدون للوداع الآخير.
يعود الليل ينبش كتل الأحزان المجانية وقد تعالى صوت الغبار،
لم يعد د. محمود بين المعجبين والمعلقين ع منشوراتك وقد كان الأول بلا انقطاع.
يحدث أن يتكاثف الإرهاق من كل الجهات،مساء الامس من التاسعة مساءً ذهبت في نوم عميق كما لو نمت دهراً، نوم يشبه الموت السريري.
لينهض ارغدون قبل السابعة يفتش رسائلي ووو.. كعادته وهذا صميم عمله سكرتير خاص يشيك ع آخر التحديثات.. كان يرعش ع كتفي بابا بابا في اتصال من هاني بابا في رسالة من هاني تقول:
“يا حبيب الدكتور محمود سيف مدهش ألتحق بالرفيق الاعلى”
كان الشاي يتدفق بمرارة الغياب.. مروة ابنتي تقدم لي التعازي وتقبل رأسي، تضاعف السكر بدمي عبر العناقات والدموع تجهش في مسامعي (بابا مات-بابا-مات)
تناولت تلفوني ليرد ع رسالة الانيق هاني
” الحزن يجهش والفقد مدهش..”
يعيد قراءة الرسالة..
بعد لم يصحو،لم يستوعب.!
يعيد ارغدون القراءة..
ايش ايش ايش؟
ارغدون..
قبل الثامنة صباحاً كنا نصل “النشمة” مبنى مستشفى الريان.
حيث يتجمع الناس والدهشة في عيونهم والدموع تتدفق والتعازي لسان حالنا اجمعين..
ساعة واقل وربما اكثر تصل سيارة إسعاف وعليها جثمان الطبيب الحبيب..
ينطلق موكب المشيعين وقد احتشد الناس في صراط مستقيم للوداع والعناقات بصدور الناس تفيض.
كان ارغدون قد تَعرف ع الدكتور قبل سنوات بمعيتي وقبل شهرين تقريباً تعرف اكثر حين دار بينه والدكتور حواراً كان بمثابة الصفحة الاولى حين اثنى عليه واطراه وشجعه وامتدحه وابدى اعجابه الشديد بمهاراته اللغوية وقدرته ع الارشفة والتدوين والبحث والاستطلاع.
مَنح الدكتور الإنسان لنا غرفة خاصة جداً انيقه في الدور الثالث وقال مدى الحياة اسكنوا هنا والمستشفى مفتوح امامكم وفي متناولكم..
ارغدون يسير ع درج المشفى بهدوء كي لا يزعج الرقود والمرضى ويجلس نافذة الغرفة يشاهد المدينة من علو شاهق يتأمل حركة الناس والسيارات والشاحنات، يبدي ملاحظاته ويقول الدكتور مُخزن في الصيدلية”يا الله بابا ننزل نجلس ساعة عنده وندردش معه شوية”
كان ارغد قد بدأ يَلحن صوت الطبيب ويتأمل كيف يمارس هوايته في التدخين وكتابة الوصفة الطبية..
كيف يخفض صوته ويرقق الحروف ويرقيها في اختزال الجُمل والسطور لتصبح قيمة يتم البناء عليها كمداميك وسواند وسواتر تقي سلسلة الانهيار الرقمي المتسارع لنغدو ذلك العدم لا النغم.!
أي نجم قد انطفأ؟
وأي مدينة تتسع لنا بعد هذا الفقد والغياب.؟
نعاود السير بمحاذاة الغيم ننسى مواجع ومواطن الآلم، “غني قليلاً ياعصافير قلبي”
اغنية روسية كان الرفيق يهديني عنوانها والمود الفاره والفارط بالدهشة والغد الوارف المتخم بالامل،
يبعث برسائل وردية تحمل معنى أن تكون ذلك الأب الذي يتفقد ويفتقد الابناء يكتب ع شباك التشات سؤال ناجز يحمل طياته الإهداء من غالي لعزيز..
“أي كتاب من القاهرة تُريد شجزعلك معي لمن ارجع؟ ”
سيعود آبانا الذي في السماء يوماً ليعشب في مشاتل الخصب والحياة حبات قمح لا تموت،،،
#االصورة_اغسطس_25_2023
اثناء احتفاء الدكتور بالصاعد ارغد..
من صفحة الكاتب على فيسبوك