ضع اعلانك هنا

جار الله عمر: قائد المظاهرات الطلابية وهتّاف المعارضة والديمقراطية

جار الله عمر: قائد المظاهرات الطلابية وهتّاف المعارضة والديمقراطية

وميـض شاكـر

—————————————–

 

اتكأت سنينه الستين على منصة الخطابة لقاعة المؤتمرات الكبرى في الحفل الافتتاحي للمؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للاصلاح لعدة دقائق، ألقى خلالها خطابه الأخير إلى اليمن قبل أن تعلن رصاصتان صوبهما قاتل تكفيري إلى صدره مباشرة خطابه وحياته أيضا. انطلقت الرصاصتان من بين مئات الحضور، وأمامها كاميرات الفيديو صباح الـ28 من ديسمبر 2002. نقلت شاشات التلفزة المحلية والعالمية خبر اغتياله الحزين على المنصة التي بدت مثل مقصلة بفكين لطخت الدماء أسنانها بينما ظهر المؤتمرون كجمهور من عامة الناس الجوعى يشهدون تنفيذ قرار الملك في ساحة مدينة من مدن أوربا القرون الوسطى.

 

مرت الذكرى العاشرة لاغتيال الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني، جار الله عمر أمس بهدوء أقرب إلى الصمت في ظل اكتفاء الحزب باعدام المنفذ المباشر والتغاضي عن المدبرين الحقيقين لعملية الاغتيال، لكن ماذا بعد؟

 

في خطابه الأخير الذي لم يتجاوز ثلاث صفحات، ذكر جارالله عمر كلمة الديمقراطية 15 مرة. بالنسبة لرجل ستيني معجون بالاشتراكية المتهمة بقمع الحريات السياسية والمدنية بدت كلماته عن الديمقراطية مثل ثورة أو صيحة شقت ليل البلد الدامس صبيحة ذلك اليوم. لكنها تبدو أكثر كشغفه وهو شاب يهتف في قلب المظاهرات الطلابية التي اندلعت في صنعاء قبل ثور سبتمبر 1962.

 

الشاب الهتيف، جار الله عمر كبر في العمر وأصبح قائدا سياسيا وطنيا يعتلي المناصب والرتب ويحصد الانجازات الهامة، لكن هتافه ظل يافعا في داخله حتى هوى مضرجا بدمائه على منصة قاعة تعج بالجماهير. جار الله عمر هو طفل ولد في محافظة “إب”. وطالب درس في ذمار. وسياسي عاش في عدن. وفي صنعاء، هتف وقاتل واعتُـقِـل وقُتِـل.

 

عقب أحداث يناير 1986، وقف جار الله عمر في عدن ونادى بالتعددية الحزبية والسياسية في ظل نظام حكم الحزب الواحد وهو الحزب الذي خاض حربا ضروس ليفوز بالحكم بنهاية المطاف ويتربع على رأسه قادة تأثروا بالنموذج الاستاليني للاشتراكية. نداء كهذا في ظل تلك الظروف غير الموضوعية لا يمكننا تفسيره سوى بأنه كان هتاف. هتاف الطالب جار الله عمر الذي لم يترك لحظة المنتصرين الجدد بحكم الحزب الواحد أن تزهو كثيرا فعلا صوته بقوة وبكل صدق من أجل التعددية الحزبية والسياسية.

 

اجزم بأن صوته كان صادقا ليس لأنه جار الله السياسي الوطني المحبوب عند اليمنيين، ولكن لانه مثل أي رجل يمني يحمل في داخله الملامح والطقوس المتنوعة للمدن اليمنية التي سكنها وسكنت اليه والى جوار هتافه الذي ظل ثابتا على الدوام. بعد 16 عاما من دعوته للتعددية، قال جار الله عمر في كلمته الأخيرة التي ابتدأها بـ “الأخوات والأخوة”: “أحلم بمجلس نواب يشبه اليمن بتنوعه وعظمته ووحدته وتعدد تياراته الفكرية والسياسية”. الآن أعي كيف لهتاف طالب في مظاهرة أن يظل شابا على الدوام، ببساطة لإنه مثل الأرض، مثل بلده اليمن.

 

الديمقراطية عند جار الله هي بفهم بسيط تعني “تقوية المعارضة”، هذا ما تختصره فكرة اللقاء المشترك التي تفتقت في رأسه وانكفأ على العمل على تحقيقها بعد حرب صيف 1994. وقبل انتخابات انتخابات 1997، تأسس “مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة”، الذي ضم أحزاب المعارضة اليمنية من الاشتراكيين والناصريين والبعثيين واتباع المذهب الزيدي في تكتل تكتيكي لخوض الانتخابات. ولا أدري كيف تغير اسمه إلى اللقاء المشترك! ربما بسبب انضمام حزب التجمع اليمني للاصلاح في وقت لاحق بعد أن انتقل من السلطة إلى دكة المعارضة.

 

كيفما كانت الوسيلة فالغاية هي تقوية المعارضة وهذه الأخيرة هي جوهر الديمقراطية عند جار الله عمر والذي دعا لحمايتها داخل الأحزاب بداية. حماية المعارضة داخل الأحزاب هي بداية الديمقراطية وتقوية المعارضة في الحياة السياسية عامة هو تأصيل لها.

 

اللقاء المشترك اليوم هو شريك في السلطة بنسبة 50% من حكومة الوفاق الوطني للفترة الانتقالية أو حكومة الـ”فيفتي فيفتي” كما يحب الشباب تسميتها. وعمليا لم يعد اللقاء المشترك تكتلا معارضا ليس لأنه شريك في السلطة بل لانه نقل المعارضة من الشارع إلى السلطة، لأنه جعل الساحة الوطنية السياسية خالية من المعارضة. وظرف كهذا يستوجب هتافا شابا مثل الهتاف الشاب الذي ظل جار الله عمر يحمله داخله ويردده منذ المظاهرات الطلابية التي شهدتها صنعاء قبل ثورة 26 سبتمبر 1962. أليس هذا الهتاف الشاب هو مانسمعه اليوم في تظاهرات ومسيرات طلابية وشعبية كحملة “أنا نازل” و”مسيرة الحياة 2″؟

 

ليست الاتفاقيات أو المنح من ستحمي اليمن وتحقق الديمقراطية، لم أعرف أن في التاريخ شيء قيل كهذا! وحده هتاف الطالب الشاب من يفعل ذلك.

 

دفن جثمان جار الله عمر في مقبرة الشهداء في صنعاء بعد أن شيعه مئات الآلاف من اليمنيين في مشهد جنائزي نادر وعفوي لم تشهده اليمن والبلدان العربية لوقت طويل من الزمن. لكن هناك أمرا آخر دفن معه هو ملف جريمة اغتياله، التي توجه أصابع الاتهام الشعبية إلى الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحلفائه في حرب 94: آل الأحمر.

 

اليوم، تبدو مسألة نبش وإخراج ملف جريمة اغتيال جار الله عمر من القبر عصية ومستبعدة في ظل إدارة وحكم الاتفاقية الخليجية لليمن في مرحلتها الانتقالية وما قدمته من حصانة لرؤوس النظام واتباعه وما تشترطه من قانون عدالة يدعو للتصالح والتسامح لا للمحاسبة.

 

لكن هناك ما لم يدفن في قبر جار الله عمر: إنه جار الله عمر نفسه، هتافه وحلمه الكبير بدولة تشبه “اليمن بتنوعه وعظمته ووحدته وتعدد تياراته الفكرية والسياسية”. وهو لن يدفن سوى في اللحظة التي نتخلى فيها نحن أبناء الشعب اليمني عن الهتاف بتقوية المعارضة وتعزيز التعددية السياسية والفكرية والسلم الاجتماعي والحلم ببناء دولة تشبه اليمن.

——————————–

 

نشر هذا المقال السنة الماضية في “الأخبار” اللبنانية

ضع اعلانك هنا