الدين السياسي ليس ديناً وليس دولة
جعفر المظفر
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الدين السياسي ليس ديناً وليس دولة*
هناك كثير من الشواهد التي تؤكد عدم وجود دولة دينية اسلامية حقيقية سابقة يمكن أن يُستدل بها على طريق الدعوة لإقامة نظام الخلافة وإعادة بناء الدولة الإسلامية ، وأن الخلافة التي يؤمن بها الإخوان المسلمون ويدعون لها حالياً إنما كانت منصباً دنيوياً وليس سمائياً, وكانت غائبة كمؤسسة بأعراف ونهج وسياقات, بدليل أن كل واحد من الخلفاء الراشدين جاء بطريقة تختلف تماماً عن سلفه : ابو بكر جاء بعد تسوية الخلاف الذي نشأ بين مجموعة الأنصار ومجموعة المهاجرين المجتمعين في سقيفة بني ساعدة مباشرة بعد وفاة الرسول, ولم تتم بيعة أبي بكر بسهولة, أما عمر فقد ظل يؤكد بعدها أن تلك البيعة كانت (فتنة وقى الله المؤمنين شرّها), وهو نفسه كان قد جاء بالوصية التي أعلنها أبو بكر على فراش موته, وقد رفض عمر أن يكنى بخليفة خليفة رسول الله ظناً منه أن ذلك سيفتح الباب أمام عدد يصعب تقديره من خلفاء خلفاء خلفاء رسول الله, الذين هم في حقيقتهم خلفاء لسلفهم وليس للرسول نفسه الذي صار رئيساً لدولة مدنية وليس لدولة دينية, وذلك يعني أن أبا بكر كان خليفة لمحمد الرئيس وليس لمحمد النبي, لأن خلافة النبي تستمد شرعيتها من الله وليس من البشر الذين بايعوه. وقد دعا ذلك عمرَ إلى التلقُّبِ بأمير المؤمنين, وهكذا فعل علي, والإثنان لم يَدّعيا أن استخلافهما جاء بأمرٍ إلهي, وربما ادّعى الأخير أو شيعته أن خلافته قد جاءت بتوصية من الرسول لكنه لم يدّعِي بوجود آية قرآنية تعلن أو تشير إلى هذا التعيين, أما عثمان فقد تم اختياره بانتخابٍ كان أقرب إلى التعيين, وحين طالبه الثوار بعد ذلك بالتنحي عن الخلافة أعلن رفضه مدعياً أن الخلافة هي ثوب ألبسه الله له (لا أخلع قميصاً سربلنيه الله) وذلك خلافاً لأبي بكر الذي قال (لقد وليِتُ عليكم ولست بخيركم) ولم يدّعِي أن الله هو الذي ألبسه قميص الخلافة.
أما علي بن أبي طالب فقد جاء هو أيضاً بعملية مختلفة عن تلك التي جاء بها أسلافه وذلك لأجل ملء الفراغ الذي نشأ بعد مقتل عثمان.
وسيقنعنا ذلك أن الخلافة التي صار يطالب بها الإخوان المسلمون في عصرنا الراهن لم يكن لها وجودٌ مؤسساتيّ ولو بحد أدنى من الضوابط والسياقات والأعراف, وحتى أن الطرق المختلفة التي أقرت بها قد أكدت على وجود تخبط لم يُحسم حينها إلا من خلال قرار اللحظة, أي أنه كان قراراً سياسياً دنيوياً ولا علاقة له بالله لا من قريب ولا من بعيد.
وإن هذا يخالف بكل تأكيد الشعار الرئيس الذي رفعه الإخوان المسلمون بعد التأسيس والذي يقول (أنِ الحُكْمُ إلا لِلّهِ) وأن العودة إلى أمة الأمجاد تبدأ من عودة نظام الخلافة ودولة المؤسسة الدينية بعقيدتها وشرائعها.
لعل المشهد الرئيس الذي أكد فشل مشروع الدولة الدينية هو قيام الدولة الأموية ذاتها. لكن حالة قيام هذه الدولة التي تأسست أولاً على حسم الصراع ضد الخليفة الراشدي الرابع ومن ثم على مجموعة من المذابح وفي المقدمة منها جريمة كربلاء, بكل ما في هذه المشاهد من مآسِ مؤلمة, قد أدت إلى تغييب أحد أهم التساؤلات. فبعيداً عن رهبة تلك المذابح وهوية القاتل والمقتول لم تبحث حالة تأسيس الدولة الأموية على مستوى ما إذا كان تأسيسها قد جاء ليؤكد فشل إمكانات قيام دولة دينية, أم أنها جاءت حسماً لطريقة دينية مختلفة يتمثلها عليٌ وبنوه وأخرى نقيضة يتمثلها معاوية وابنه يزيد على الجهة الأخرى.
والحال أن الجدالات التي دخلنا فيها بعد ذلك وخاصة بعد مذبحة كربلاء قد ألغت الحاجة إلى تساؤلات كهذه لتبقيها في ميدان الصراع على الأحقية بالخلافة أو حول السلوك الجرائمي لمؤسسي تلك الدولة وليس حول ما إذا كانت تلك الدولة قد ختمت بالشمع الأحمر على إمكانيات قيام دولة دينية لأسباب ليس منها ما ينتقص من قيم الدين الأخلاقية أو يتعارض مع نشاطاته وطقوسه, وإنما لأن الدول في الأساس لا تقوم على الدين. وإن أفضل ما يؤكد ذلك أيضاً هو التباين الكبير بين شخصية يزيد بن معاوية من جهة وعمر بن عبدالعزيز على الجهة الأخرى, وهما خليفتان متشابهان بالمنصب متناقضان بالسلوك على رأس دولة كان يتغير ديدنها بتغير رأسها.
في الحقيقة إن الإجابة المقنعة على تساؤل من هذا النوع تحتاج إلى البحث عنها بحِرَفية عالية, وهي مسألة ليست بالسهلة, فثمة تراكمات ثقافية وانحيازات عاطفية ومذهبية تجعل مسألة التمسك بهذه الحرفية قضية صعبة, إن لم تكن مستحيلة. فالموقف من الدولة الأموية غالباً ما كان يتأثر سلبياً أو إيجابياً بطرق لا تبتعد عن التراكمات المغرقة في السلبية, أما البحث السياسي الحرفي الذي يقوم لهدف الإجابة الفكرية المحايدة فقد ظل بعيد المنال ومؤجلاً حتى إشعار آخر.
وسأدعي أن الوقت قد حان, وخاصة بعد صعود الإسلام السياسي وتصاعد دعوات بناء الدولة الإسلامية, لأن نتساءل عما إذا كان نجاح معاوية بن أبي سفيان في عملية تأسيس دولته قد جاء لمجرد أنه غَدَرَ ومَكَرَ كما قال عنه بن أبي طالب, أم أن ذلك النجاح كان قد تطلب نمطاً من العمل الذي كان ابن أبي طالب قد عدّهُ غدراً ومكراً.
ومع أن مقارنات على المستوى الأخلاقي والديني هي غير مطلوبة بين ابن أبي طالب من جهة وبين ابن أبي سفيان من جهة أخرى, لكن هل سيمنعنا ذلك من القول أن تأسيس الدولة الأموية قد جاء لكي يؤكد انتصار عقيدة الفصل ما بين السياسي والديني وكأحد الحلول التي يبحث عنها التاريخ لغرض خروجه من اختناقاته, وأن الأخلاق لا تأتي بدولتها وإنما الدولة هي التي تأتي بأخلاقها.
يقول ابنُ أبي طالب حينما ذكروا أمامه دهاء معاوية: والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يمكر ويغدر, ولو كنت أمكر وأغدر لكنت أدهى العرب. لكن معاوية لم يكن مجبراً على اعتبار سياسته في إدارة الصراع مع ابن أبي طالب قد جاءت من باب الغدر والمكر, وهو سوف يكون أكثر ميلاً للتعامل معها على أساس أنها جاءت من باب الدهاء, كما أن بعضاً من المتخصصين في علم السياسة وفي الدين والمناهج المثالية والأخلاق سوف يؤكدون على أن تأسيس الدول لا يقوم على الأخلاق, وإنما يقوم في معظم الأحيان على دهاء غالباً ما يَعُدّهُ الأخلاقيون المثاليون غدراً ومكراً.
وربما يجعلنا ذلك في مواجهة أن نقارن بين علي بن أبي طالب كرجل أخلاقيات مثالية ودين, ومعاوية كرجل سياسة ودولة وضعية, مما يضعنا على طريق البحث في كلا الشخصيتين بمعزل عن الخوف من أولئك الذين يُجِلّون شخصية بن أبي طالب إلى حدود التعظيم وحتى التقديس.
وكما أعتقد فإن عبوراً إلى هكذا نوع من المقارنات المتأسسة على توصيف حرفي وبحثي محايد هو الذي سيجعلنا قادرين على تحصيل إجابات معقولة، وهي إجاباتٍ لا تأتي هنا لغرض تحديد من كان الأقرب إلى الله والأكثر إيماناً, علي أم معاوية؟! وإنما همها أن تجيب عن التساؤل: هل قيام الدولة الأموية قد جاء كسياق في صراع أوجبته الحاجة إلى قيام دولة على أسس غير دينية, وهل الحسم الذي قد تم لصالح (السياسي) على حساب (الأخلاقي) قد جاء ليؤكد بالنهاية أن الدين لا يمكن له أن يؤسس دولاً, وإنْ هو أفلح في تأسيس نفوس, ثم سيقودنا هذا في عصرنا الراهن إلى مشهد كثير التناقض والتخبط لِنر فيه الإخوان المسلمين مثلاً وهم يعلنون (إنِ الحُكمُ إلا لِلّهِ), حتى كأن الله كان عاجزاً عن بناء دولته ونظام حكمه لو أنه شاء أو أراد, منتظراً كل هذه السنين الطويلة حتى يطل الإخوان فيذكرونه بذلك !!
فإذا لم تكن الدولة الأموية إسلامية, وكذلك الدولتان العباسية والعثمانية, فمعنى ذلك أن الصراع السياسي – الأخلاقي كان وضع لنفسه نهاية تاريخية بانتصار الدولة المدنية على مفهوم الدولة الدينية مما يؤكد على أن فرضية تأسيس دول على أساسٍ ديني قد ثبت بطلانها.
وإن ذلك لن يدخل مطلقاً في خانة انتصار السياسة على الدين وإنما في خانة فصل التداخل بينهما بالمستوى الذي يميز بين نوع ومجال كلا النشاطين.
ولذلك فإن التبشير بإمكانية تأسيس دولة إسلامية وإعادة تفعيل نظام الخلافة اعتماداً على إمكانات نجاحه حالياً لكونه كان قد نجح سابقاً سيصطدم بحقيقة أن العرب مع الإسلام قد نزحوا من الدين إلى الدولة الذي جاء الصراع من أجلها دليلاً على عدم قدرة الدين على احتراف السياسة والتي هي الحاجة الأساسية المطلوبة لبناء دولة أرضية.
وإذا كان الدين لم يقدر على بناء دولة, لا لعجزٍ ذاتي, وإنما لأنه ليس مصمماً لهذا الغرض, وإذا كان ذلك حدث حينما كانت فاعلية الدعوة الإسلامية على أشدها, فكيف بنا الآن والعالم قد تغير وتطور بسياقاتٍ غير محكومة بقوانين مقدسة من ذوات الطابع الأخلاقي البحت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من كتابي الرابع (ثلاثة إسلامات)
facebook sharing buttontwitter sharing buttonpinterest sharing buttonemail sharing buttonsharethis sharing button