مصطفى الجبزي
٢٠ نوفمبر ٢٠١٨
منشور برس – كتابات
منذ أن انتشرت المنظمات غير الحكومية وهي مثار جدل على الصعيد القانوني من حيث وضعها القانوني ودورها ووظيفتها أو السياسي وحساسية الأنظمة منها.
ولم يكن وجودها بالأمر اليسير في أي دولة. وقبل التسعينيات كان الحضور لافتاً للنقابات العمالية والمهنية في دول عربية كثيرة لكنه استبدل كثيراً في العديد من بلداننا العربية ومنها اليمن بمنظمات حقوقية ومنظمات مجتمع مدني مما جعل البنى السابقة الجماهيرية تهرع إلى الذوبان وتحوّل الدور إلى منظمات مجتمع مدني وغيرت بذلك وظيفتها في المجتمع. بل إن الأحزاب هي الأخرى سارعت في تشكيل منظمات لأن المنظمات كانت وما تزال تحظى برعاية وتمويل دولي ولديها فرصة في تكوين حوار إقليمي أو دولي خصوصاً مع أمريكا أو الاتحاد الأوروبي. بالإضافة الى دور المنظمات في تشكيل معارضة مبطنة للحاكم على أسس حقوقية تحديداً أو السعي الحثيث للأنظمة في تفريغ واستنساخ منظمات رديفة ممالئة.
وأمام تراجع الدولة عن أداء دورها وسقوطها في سياسة ليبرالية غير منظمة تخلت الدولة عن وظيفتها الاجتماعية والاقتصادية ونمى دور المنظمات لتغطي حاجة اجتماعية ماسة وهذا لم يكن لولا ترافق ذلك بافتكاك لمفهوم سيادة الدولة ونسبيته وبروز المنظمات كفواعل رئيسة في النظام العالمي.
لكن، هناك ظروف أخرى منها الشراهة على السلطة وسيادة باراديجم مكافحة الإرهاب وبطش الأمن كنقيض للتحول الديمقراطي أو صون الحقوق العامة اتاحت مساحة أكبر للمنظمات الحقوقية المحلية أن تنشط وتبدو عضواً فاعلا في كشف الانتهاكات والدفاع عن الحقوق أو في مناصرة المظلومين وكبح جماع العنف السلطوي بالشراكة مع منظمات ووكالات دولية.
ومع العام 2011 كان الجميع أمام امتحان حقيقي في لحظة تحول مجتمعي في كثير من بلدان الوطن العربي. ولم تكن المنظمات الحقوقية في منأى من هذا الامتحان. دخل الجميع في مناخ مختلف عن السياق الذي نشأت فيه هذه المنظمات لأن وتيرة العنف ارتفعت وانقسم المجتمع بين خياراته السياسية في عملية استقطاب حادة لم تفلت منها هذه المنظمات باعتبارها تعمل وتدار عبر اشخاص لهم ميولهم وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية.
وليس من دليل أفضل على الفشل في الموقف أكثر من الشأن السوري. فهو فشل مخزي للجميع ومنها المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية.
في اليمن يمكن التأكيد على انعكاس تلك الظروف بقدر كبير. تعرض المجتمع اليمني لما تعرضت له بلدان أخرى عربية مع الربيع العربي. وكانت الحرب التي دشنها الحوثيون بشكل مكثف في النصف الثاني من العام 2014 قاسية في فرض خياراتها على الناس لأنها حرب بخلفيات اجتماعية وعقائدية ومناطقية كبيرة من الصعب النجاة منها. وجاء التدخل العسكري للتحالف العربي بآلية عسكرية ذات قدرة نارية كبيرة وآثار تدميرية قابلة للرصد بيسر ليفتح شهية المنظمات للعمل بوتيرة أكبر مسنودة بتواصل منظماتي دولي كبير. إذ رافق التدخل العسكري العربي تدهور كبير في الجانب الإنساني والحقوقي في اليمن بالتالي تضاعفت التقارير والبيانات والرسائل والمشاركات والمطالبات.
وأصبحت المنظمات وسيلة من وسائل إدارة هذا الصراع محلياً ودولياً. وعليه ارتفع صوت النقد تجاه المنظمات. ويمكن بكل سهولة التأكيد على تبعية هذه المنظمة دون استثناء إلى جهات التمويل وسياستها ومنهجيتها. ومهما حاولت هذه المنظمات التأكيد على موضوعيتها ونزاهتها فإنها لا تستطيع انكار تبعيتها المالية.
والحقيقة أن الكثير من منظمات المجتمع المدني ومنها المنظمات الحقوقية ليست محلية إلا في سياستها للأجور تجاه العاملين معها محلياً فيما عدا ذلك فهي تستجيب لبرامج التمويل من حيث اختيار المواضيع وتنفيذها جغرافياً وزمنياً.
وهي في الأصل منظمات نشأت في دولة يعتريها قصور قانوني كبير في كل مجالات التشريع وانحدرت في سياسة السوق المفتوح وليبرالية مشوهة دون القدرة على التنظيم والرعاية والرقابة.
وهذا الإختلال لا يمكِّن المنظمات من أن تكون شريكاً فاعلاً في معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية. يمكن للمتابع النظر إلى البرامج التي تعد في النصف الثاني من السنة المالية ومواضيعها ليكتشف الفجوة الكبيرة بين المشاكل وبين البرامج المنفذة وأحيانا سطحية تهزأ من واقع الناس ومعاناتهم. لكم مثال في برنامج “جو نتجابر”.
وبالعودة إلى المنظمات الحقوقية التي هي فاعل كبير في الشأن اليمني وبحكم اجواء الحرب، فإن هذه المنظمات تواجه نقداً كبيراً يصل أحياناً إلى تجاوز حدود النقد بل اتهام بالتحيِّر والإنحياز والتحول إلى أداة لتبرير القتل والإنقلاب يمكن تقديم أسباب هذا النقد كما يلي:
النقد له سببان.
أولاً، ضمن مناخ المشاحنة والمناكفات كما أسلفنا واعتبار المنظمات اوعية حرب ليس إلا الغرض منها تعظيم إدانة طرف بعينه من أطراف الحرب أو غسل جرائمه. والسبب الثاني يعود الى تغطية المنظمات وخطابها وتقاريرها للأحداث.
كتبت قبل سنتين ان منظومة حقوق الانسان في العالم وفقاً لمجلس حقوق الانسان هي منظومة مسيَّسة.
وقد قلت أعلاه الكثير حول منظمات المجتمع المدني وتبعيتها وارتهانها منهجيا وماليا وسياسيا لمنظمات دولية كبيرة. هذه المنظمات الكبيرة تعتبر شريكة في حوكمة العالم.
بالعودة إلى التقارير نرد ما يمكن اعتباره أحد المآخذ على هذه التقارير. تركزت تقرير المنظمات المحلية على رصد ضحايا الطيران خاصةً ولفترة طويلة مقابل التملص من رصد ضحايا الحوثيين بحجة عدم التمكن من الرصد أو الذهاب إلى مواقع الحدث. هذا ساعد في تقديم خطاب حقوقي متين يَصْب في سردية أحادية الجانب. بمعنى أن كل البلاء في اليمن سببه السعودية. حتى أصبح لدينا تصور أن الحرب في اليمن هي حرب بين السعودية الدولة الثرية على اليمن الشعب الفقير.
بخصوص الارقام التي تظهر حول الضحايا في التقارير فهذه الأرقام ليست نهائية. لكنها تلك الأرقام التي تمكنت المنظمات من رصدها. بمعنى انها ليست شاملة exhaustive ولكن Indicatives بمعنى تمثيلي و على سبيل المثال. وتبنى عليها مواقف. والغريب أن منظمات يمنية حقوقية حاضرة ميدانياً وتعمل من قبل وقوع الحرب ومع هذا لم تقدّم إحصائية حديثة كلية عن الضحايا سواءً منذ 2011 أو منذ مواجهات دماج في صعدة. علماً أن الرصد اليومي يساعد في تسيير العدالة الانتقالية وهذا كهدف هو من صميم أهداف المنظمات الحقوقية.
ولا يمكن ان ننسى بعض المنظمات التي كانت تملك رصيدا كبيرا في التأهيل والرصد والتقييم وإعداد التقارير اختفت من المشهد اليمني بينما اليمن في أمس الحاجة إليها وبعضها ذاب في كيان الدولة المنفية ولم يعد هو الآخر أيضاً. وقد يعزى غياب هذه المنظمات إلى أنها كانت تعمل في صنعاء بينما المناخ الآن في صنعاء لا يتيح له العودة دون التعرض للإنتهاكات والتعسف. وهذه نقطة تضع أسئلة على المنظمات التي ما تزال قادرة على العمل من صنعاء.
والملحوظ أن شغل المنظمات منهجياً يقوم في أغلبه على تقديم قصة إنسانية تعكس الواقع. وهذه القصة يمكن التلاعب في اختيار الضحية ونوعية القصة لتوجيه أصابع الاتهام. وأظن هذه أحد أكبر المآخذ. لأنها وإن كانت تقوم على التعبير الإنساني الموضوعي المتضامن والمناصر للضحية إلا أنها في المحصلة العامة تتيح الكثير من الانتقائية وتترك هامشاً بلاغياً للتعبير الكلي عن حقيقة لا يمكن الإحاطة بها إلا بعملية إحصائية.
المآخذ الثاني هو شكلي لكنه خطير.
في كل تقارير المنظمات يبدأ الحديث عن انتهاكات التحالف ثم ينتقل إلى انتهاك تحالف الحوثيين وصالح في السابق والآن الحوثيون منفردين بالجرائم. ومن الناحية الكمية يأخذ التحالف نصيباً أكبر في الحديث بينما يأخذ الحوثيون أسطراً معدودة ضمن لغة مائعة. وهذه ربما ملحوظة شائعة جداً في معظم التقارير المحلية والدولية. كما ان هناك نشاط دؤوب يتركز في تفعيل حملات إنسانية قوية إثر حادثة ما، ما تزال في طور الادعاء allégations وتبنى وفق شهادات محلية وهذا يكون فيه قصور في الرصد خصوصاً وأن بعض الأحداث لم تتمكن المنظمات من الدخول إلى مسرح الجريمة وبنت شهادات غير رصينة ويحاط في عملية الرصد والتوثيق الكثير من الملابسات وتنطلق المنظمات للنقل عن عن وتشكل رأي عام موجه.
هناك مشكلة جوهرية وهي تهرب المنظمات من توصيف ما حدث في اليمن والانتقال إلى لغة مائعة والقفز على حقيقة الإنقلاب. إدانة أو الحديث عن الانقلاب موقف سياسي هذا صحيح لكنه موقف قانوني في المقام الأول. القانون يعكس فلسفة الحقوق. والتهرب من التمسك بالأداة القانونية يعني إضاعة القيمة القانونية للعمل الحقوقي وفلسفة العدالة. ولهذا تضيع القضية اليمنية من خلال إصباغ الشرعية على المنقلب ومساواته في المركز القانوني مع الحكومة.
في جانب آخر من الحقيقة، ليست المواجهات أو الأعمال العدائية hostilities إلا أحد أوجه الحرب والتدهور في اليمن. لكن هناك أوجه أخرى بالغة الأهمية تمس الحريات العامة والحقوق الطبيعية وفكرة المساواة أمام القانون أو في صون الملكية الخاصة أو حق التنقل. وهناك الحرب الاقتصادية بالطبع.
لا يوجد تقرير حقيقي يغطي هذه النقاط إلى حد اللحظة بخصوص اليمن. كثيرة هي الإشارات إلى الحصار المطبق على الواردات إلى اليمن وهذه نقطة قانونية مثيرة للجدل وواقع غير مطلق – ولن أخوض فيها هنا – لكني لم أجد تقريراً يتناول السياسيات الاقتصادية التي اتبعتها جماعة الحوثيين في المناطق المسيطرة عليها وتضييق الخناق على التجار وفرض رسوم وإتاوات إضافية وإعادة جمركة وخلق سوق سوداء ضاعف من معاناة الناس وعدم الوفاء بحكم الأمر الواقع بالالتزامات القانونية والإقتصادية تجاه الموظفين. كما فرضت قيوداً على التنقل إلى محافظة صعدة. بالإضافة إلى الممارسات الإجتماعية والثقافية التي طيّفت المشهد العام في اليمن وفرضت دينيا ًسلوكاً متزمتاً متطرفاً تجاه الأنشطة الثقافية والمظاهر الحياتية اليومية بلغ الأمر حد التدخل في تنميط الاعراس والتقييد على الأغاني.
الحقيقة أن أجواء الحرب تلقي بظلالها كثيراً على الناس أياً كانت مشاربهم أو قطاعات عملهم والموضوعية تمرين غير يسير.
عن المصدر أونلاين