رحل ومعه عصا يهش بها على غنمه !!
عارف المقطري
” الناس الذين يبحثون عن قضية دائما يموتون غرباء، ولكن يتذكرهم التاريخ بعد حين ” .. حقيقة جاءت على لسان الراحل الصحفي والكاتب المتميز محمد المساح، قبل وفاته بأشهر قليلة في احدى المقابلات التلفزيونية، التي اسعفتها لحظة من الزمن لتلتقي بصاحب عمود ” لحظة يازمن ” قبل ان يغادر دنيانا مطلع هذا الأسبوع في مسقط رأسه في منطقة العزاعز بحجرية تعز .
رحل الصحفي محمد المساح بصمت ودون ضجيج، تاركا عموده الاسبوعي ” لحظة يا زمن ” في ذاكرة الزمن ولحظاته حين كان يطل به على قرائه من على صحيفة الثورة الرسمية على مدى اكثر من اربعة عقود تاركا إرثا ثقافيا ومعرفيا ملهما للأجيال الصحفية والأدبية التي جاءت من بعده .
رحل المساح الانسان والصحفي الوطني والكاتب الثري بجمال لغته العربية وباسلوبه النثري الجميل في كل تناولاته لقضايا سياسية واجتماعية وثقافية تختزل في سطور قليلة قضايا امة وتلامس حياة الناس وتعانق أمال وطموحات شعب .
اكثر من أربعة عقود لم يغادر فيها عموده اليومي صحيفة الثورة الى ان عاد الكهنوت الإمامي بثوب اكثر قتامة وأكثر اجراما وجهلا، حين سيطر جماعة تنظيم الحوثي الارهابية على البلاد ومؤسساتها ومقدراتها وسجنوا وعذبوا الاحرار من الصحفيين والمثقفين ومنهم الصحفي محمد المساح ، ليترك مرغما صنعاء وصحيفة الثورة وعموده في العام 2016 بعد رفضه الكتابة بلون واحد وقاتم ليتوقف عموده وتحزن صنعاء لفراقه دون ان يمنحوه المتمردون الحوثيون لحظة من زمن يلملم فيه شيء من ماضيه المبعثر على جدران المدينة التي احتضنت مكاتبها ومقاهيها واكشاكها عموده الاسبوعي ” لحظة يازمن ” وشرب آلاف القراء كل حرف وكلمة من ذلك العمود مع قهوة صباحات صنعاء والمحافظات اليمنية.
عاد المساح الى قريته “العزاعز” في مديرية الشمايتين محافظة تعز عزيزا كما قال لي صديقه محمد عبدالرحمن العزعزي ، الذي التقاه قبل رمضان وهو يتنقل بين لهيب الشمس وظلال الاشجار وقد استبدل قلمه بعصا يهش بها على غنمه، يلملم اشتاتها كما كان يلملم شتات الحياة باحرف وكلمات صانعا منها انساقا من النقد البناء والهادف لقضايا وطنه .
مات الصحفي والأديب المساح كما قال غريبا ومغتربا فقيرا في وطنه لم تلتفت اليه الدولة ولم يتذكره إلا القليل من أصدقائه الصحفيين الأكثر معاناة وفقر منه، وبعد رحيله الحزين حزنت الدنيا وأمتلأت المواقع الالكترونية والتواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية بتعازي مسؤولي الدولة والسفارات والهيئات والشخصيات الاجتماعية معبرة عن حزنها واسفها لذلك الرحيل ووصفت المساح بالرجل العظيم وغير ذلك من العبارات الفضفاضة التي لم تعد تجدي نفعا بعد الرحيل، فأين كان كل هؤلاء حين يكون المبدع والوطني يصارع الحياة وقسوة الظروف؟ ..انه سؤال مستمر لم نجد له اجابة طيلة عقود طويلة.
رحل الصحفي والكاتب والمثقف والقارئ النهم محمد المساح الذي درس الصحافة في القاهرة وعمل سكرتيرا في وزارة الخارجية قبل توليه رئاسة تحرير صحيفة الثورة عام 72 ولمرتين ومجلة اليمن الجديد .
لقد عاش الراحل المساح بقية حياته منألما بصمت ومكتفيا بعصاه وغنمه ومنكفيا على نفسه فالزمن لم يعد زمانه ولا الناس بأولئك الذين يستطيع ان يأنس اليهم ، ولا الواقع الصحفي أو الأدبي يستطيع ان يركن اليهما، كان محقا حين انزوى بعيدا عن حياتنا المليئة بصناع الكوارث والأزمات والعاملين لأنفسهم وباولئك الذبن يملؤون الدنيا ضجيجا كأوان فارغة لا يصدر منها غير الازعاج والفوضى والضوضاء فلا قضية لهم ولا وطن يسكنهم ولا بوصلة تحدد اتجاهاتم او مسؤولا يردعهم .
لقد اختارك الله الى جواره بعد ان رحل زمانك الجميل ايها الراحل محمد المساح ،زمن اليوم مليء بالتناقضات، يستحيل فيه على الناس الذين يحملون قضية وطن العيش دون وجع وحسرة وسلام .
تغمدك الله بواسع المغفرة والرحمة وانا لله وانا اليه راجعون .