يحدث أحياناً أن يكتب المرء روايةً لا تُعجب هذا أو ذاك من المُمسكين بزمام الأمور، وعندئذٍ سوف يرى هذا الكاتب الوجه الحقيقي للسلطة، ذاك الوجه القبيح المخفي عن أنظار عامة الناس والمجتمع الدولي بطبقاتٍ سميكة من الماكياج والشعر المستعار.
في أوائل عام 2002 صدرت روايتي الأولى “قوارب جبلية”. وربما توقّعت وقتها عدداً من المقالات النقدية، لكن ما لم أتوقّعه، هو أن يتحوّل أئمة الجوامع إلى نقّاد ضليعين في الأدب، وأن تصبح روايتي مادةً دسمة لخطب الجمعة.
شاركت وزارة الثقافة اليمنية في الحفلة، ورفعت قضية ضدّي مُطالبة بمحاكمتي، واستدعتني النيابة للتحقيق. وجرى إغلاق دار النشر التي صدرت عنها الرواية (مركز عبادي للدراسات والنشر)، وتمّ استدعاء الناشر للنيابة، وعدد آخر من الأصدقاء الذين وجهت لهم التهم بالتواطؤ لتسهيل نشر الرواية!
تعرّضت لتهديدات بالقتل، وقامت مجاميع من رجال القبائل المسلّحين بمحاصرة مقرّ عملي. وتزامن ذلك مع حملة صحافية مكثّفة للتشهير والتحريض.
في ظروف بالغة الخطورة كهذه، اضطررتُ إلى مغادرة البلاد صوب المنفى. وكان لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ورجل التنوير، أحمد جابر عفيف رحمه الله، الفضل الذي لا يُنسى في إفلاتي من تلك المصيدة الجهنمية.
استمرّت محاكمتي غيابياً، وتعرّض أصدقائي والناشر نبيل عبد اللطيف عبادي، للاحتجاز في قفص الاتهام أثناء جلسات المحاكمة. بدا من سير المحاكمة أن الحكم سيصدر بالسجن خمس سنوات لمؤلّف الرواية، بتهمة “إهانة الجيش”.
أمضيتُ فترة المنفى في دمشق، ونفسي تنازعني للعودة إلى بلدي، رغم أن السلطات اليمنية آنذاك قدمت بلاغاً للأنتروبول الدولي، وطالبت بإلقاء القبض عليّ، بوصفي مجرماً فاراً من العدالة!
يشعر المنفي قسرياً بعذابات نفسية شديدة، لا يُدركها إلا من مرّ بهذه التجربة ولسعته نيرانها. فوضعه مختلفٌ عن الذي يسعى لمغادرة وطنه طوعياً. وأحد الأمور التي لا أخجل اليوم من قولها، إنني فكرتُ عدّة مرات في الانتحار. وذقت لأوّل مرّة في حياتي ذاك الشيء المرعب المسمى “الاكتئاب”. امتلأ فمي بطعمه المرّ الرديء، ووصلتُ إلى الدرجة “صفر” وفقدت الرغبة في الحياة.
في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، تلقيتُ مكالمة هاتفية غير عادية، كانت تحمل احتمالاً نسبة حدوثه لكاتب في المنفى حوالي واحد في المليون: أحد أفضل أصدقائي، صالح البيضاني، اتصل يُخبرني بأن الروائي الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل، قام بعمل بطولي لضمان عودتي إلى وطني من دون التعرّض لأية ملاحقات قضائية وحمايتي من المتطرفين. قال كلاماً لا يُصدقه العقل، ولم أتمكّن في تلك اللحظات من استيعابه. الصدمة كانت تامة، وشلّت قدرتي على التفكير. في نهاية المكالمة طلب مني صديقي العودة على وجه السرعة إلى الوطن.
عندما وضعتُ السماعة، شعرتُ بدوار وكأنني بداخل عاصفة شديدة سرعتها تساوي سرعة الضوء! كنتُ أصعد الدرج عائداً إلى غرفتي وأنا مضطرب أوازن خطواتي بصعوبة بالغة. كنتُ كمن يُرفع من قعر بئرٍ عميقٍ إلى سطح الأرض، ويتخلّص من شبح الموت والأسر. ليس سهلاً أن يتحول الإنسان في غضون دقائق قليلة من حالة سلبية مدمّرة إلى حالة من الفرح القصوى. كنت أريد أن أرقص، أن أخرج إلى الشارع وأطلق صيحات تشبه صيحات الإنسان البدائي في الغابة.
وخطرت في بالي مئات الأفكار في تدافعٍ مذهل، وفهمت في تلك الساعة فقط ما هو الجنون؛ إنه نشاط عقلي زائد عن الحدّ الطبيعي، وفقدان للسيطرة على تدفّق الأفكار. احتجتُ إلى ساعات طويلة للسيطرة على نفسي وكبح جماح انفعالاتي، وترتيب أفكاري للتعامل مع الموقف الجديد. لم أنم إلا بعد بزوغ الضوء، ونمتُ ساعة واحدة، ثمّ خرجت لشراء الجرائد، وتأكّدت أن الخبر صحيح.
زار غونتر غراس اليمن لحضور مؤتمر أدبي، وبصحبته ثلاثون أديباً من ألمانيا والنمسا وسويسرا، ووجّهت لهم الدعوة للقاء رئيس الجمهورية السابق (علي عبدالله صالح). تمّ اللقاء، الذي حضره أيضاً عدد كبير من الأدباء العرب، وأراد الرئيس اليمني، منح غونتر غراس وساماً رفيعاً. كان اللقاء يسير بصورة طبيعية، والجميع يبدو مذعناً في بلاط حاكم شرقي يتمتّع بصلاحيات مطلقة، ولا شيء يلوح في الأفق سوى روائح العطور الثمينة والبذل الفاخرة والأثاث الفخم والابتسامات الأكثر روعة في العالم.
لكن فجأة قام غونتر غراس بكسر البروتوكول، وحطّم تلك الفقاعة المزيفة من الرفاهية والسعادة والسلطان الذي لا حدود له، ورفع يده معترضاً وقال إنه يعتذر عن قبول الوسام حتى تلبّى مطالبه! قال إنه يُطالب بعودة الكاتب المنفي، كاتب هذه السطور، إلى وطنه، وأن يصدر الرئيس قراراً بالكفّ عن ملاحقته قضائياً وتوفير الحماية له. حدث اضطراب كبير بين رجال السلطة، بعضهم ينفي أن هناك قضية مرفوعة من الدولة ضدّ الكاتب، وبعضهم يزعم أن الكاتب دجّال منحرف لم يُغادر بلده ويعيش حرّاً في قرية نائية، وبعضهم راح يُصحح لغونتر غراس بأن الكاتب الذي يتوسّط له ليس أديباً جديراً، وأن ما كتبه ليس رواية أصلاً!
استمع غونتر غراس لهذا الهراء قرابة نصف ساعة، ولم يتزحزح مطلقاً عن موقفه. جرّبوا جميع الحيل ونطقوا بكل الحجج لثنيه عن مطلبه دونما فائدة. عندما قيل له إن الكاتب قد أساء للعادات والتقاليد والقيم اليمنية الأصيلة، انتابه الغضب من هذه الحجّة، وقال إنه في شبابه واجه اتهامات مماثلة، وهو يعرف زيفها.
طبعاً كان غونتر غراس يعرف أن النقمة على الكاتب مصدرها أسباب سياسية، وهو الأمر الذي حاولت السلطة دائماً التمويه عليه بمزاعم أخرى لذرّ الرماد في العيون. وهذا يُشابه ما تعرّض له هو شخصياً في بداياته الأدبية، حين اتُهم باتهامات من قبيل الإساءة للعادات والتقاليد ونحوها، بينما السبب الحقيقي هو انتماؤه السياسي لليسار.
أخيراً طلب الرئيس صالح مهلة عشر دقائق للتشاور. لا أحد يعرف ما الذي جرى بالضبط. لأنه لم يصحب معه أحداً من رجالات الدولة حين خرج. لكنه بعد عودته أعلن موافقته على مطالب غونتر غراس، فقبل الأخير الوسام.
نشرت الصحف اليمنية والعربية وقتها تفاصيل عن هذا اللقاء العاصف، ومن الأقوال التي نسبتها الصحف لغراس: “لو كنت محامياً وأتقن العربية لدافعت عن هذا الروائي من دون شك”. هذه المقولة تكشف أن حجم الاتهامات والجدل الذي أثير بشأنها كانا كافيين لجعل قشعريرة الخوف تدبّ في عروق العديد ممن حضروا اللقاء. أحد أصدقائي ممن حضروا الموقف، وهو يمني، قال لي إنه شعر بتوتر شديد وخوف من ألا يرى الطريق إلى بيته مرة أخرى.
قبلها بأيام، التقى غونتر غراس بقيادات في الحزب الاشتراكي اليمني، وكان من بينهم الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي جار الله عمر الذي طرح عليه قضيتي ككاتب منفي ومعرّض لملاحقة الأجهزة البوليسية. طرح غراس فكرة التوسّط عند الرئيس اليمني على وفد الأدباء الناطقين باللغة الألمانية، ووجد منهم ترحيباً بالفكرة، ومن ثم اتخذّ ذلك الموقف الإنساني الذي يُعدّ انتصاراً للأدب والأدباء، ليس في اليمن وحدها، ولكن في كلّ مكان من العالم يتعرّض فيه الكُتّاب للاضطهاد.
عدت إلى وطني وسعادتي لا توصف، ومساحة الأمل في نفسي بحجم آلاف الشموس. لقد تحقّق لنا نحن الأدباء اليمنيين انتصارٌ لا يقدّر بثمن على السلطة الشمولية الجبّارة. وعادت دار النشر للعمل، وتنفّس أصدقائي الذين كانوا يُحاكمون الصعداء، واحتفلنا في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي تحمّل منذ البداية أعباء مواجهة الحملة الشرسة للسلطة، بنجاحنا في تعزيز حرية الكلمة.
لكن هذا الفرح انطفأ بغتةً، حينما أقدم متطرف ينتمي للتيار الإسلامي باغتيال جار الله عمر، بعد أسبوعين تقريباً، أي في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر 2002.
لست وحدي من شعر بالخسارة الفادحة، هناك آلاف من الناس شعروا بالحزن لمقتله، ولكنني أكثر من أي شخص آخر شعرتُ بأنه قد دفع حياته ثمناً لإنقاذ حياتي.
وجدي الأهدل
28 ابريل 2015