رامز مصطفى
(الصورة المتداولة عن اليمن منذ عدة سنواتٍ في وسائل الإعلام، نقلت جزءاً من واقع الحال المأساوي المُخيّم على هذا البلد، فيما هَمَّشَت وتجاهلت رأس المأساة الإنسانية وأوضح ملامحها.
تقارير إخبارية، صورٌ، وتسجيلاتٌ مرئية، عن القصف والمعارك والأشلاء؛ أوبئةٌ ومجاعة، تصريحاتٌ وتحليلات.
سيلٌ من التناولاتِ الإعلاميّة فَشِلَ في الدفع قُدُماً باتجاه وضع حدٍّ لتداعيات الحرب ونتائجها؛ وليس بهذا المعنى فحسب، إنما فشل حتى في تسليط الضوء على قضايا كبيرة ومصيرية لشريحة واسعة من الناس الذين طحنتهم الحرب وأحرقت حياتهم.
معاناةٌ غير مسبوقة، تداولتها وسائل إعلام كخبرٍ عابر، بينما يكتوي المتضررون بنارها على الدوام، يُعاقَبُ المتضررون دون تهمة، عقاب مثل محكومين بالإعدام، يُقتادون كل يوم إلى ساحة الحكم، وقبل ضغط الزناد بقليل، تتم اعادتهم إلى زنازينهم.
في عددٍ من المدن اليمنيّة، هناك دمار خَلَّفَه الاستهداف المباشر لجزءٍ من البنية التحتيّة والعُمران المدني؛ وهناك دمار لا تلحظه الأعين، ولم تستطع الكاميرات أن تصل إليه، هناك أنفسٌ ممزقة، أرواح أثقلتها الخيبات، وهَدَّها التعب، وأتلفها الضياع، وأطبق عليها السؤال الذي لم تعد له إجابة.
هناك حربٌ أفرزتها الحرب، حربٌ أشدّ ضراوةً وشراسة، هناك شريحة من المواطنين تتجرّع الموت المُقطّر، بشرٌ لم يسمع بهم أحد، ولم ترهم سيارات المبعوث الأممي وهي تَمُرّ في شوارع المدينة، مضطهدون فقدوا من يوصل أصواتهم للعالم، بعد أن فقدوا أصواتهم وعجزت اللغة عن وصف حالهم، وأغلقَ العالم أبوابه في وجوههم.
في الثامن عشر من سبتمبر من العام 2016، صدر قرار قضى بنقل “البنك المركزي اليمني” من “صنعاء” إلى “عدن”، مع التعهد باستمرار “البنك المركزي” بتقديم خدماته والالتزام بمسؤولياته، وتأتي في مقدمتها المرتبات الشهرية لموظفي الدولة مدنيين وعسكريين.
ومنذ ذلك الحين، توقّفَ صرف المرتبات الشهرية لموظفي الدولة في المناطق الواقعة ضمن سيطرة السلطة القائمة في “صنعاء”، وهي المناطق التي تتركز فيها كثافة سكانية عالية، ويتواجد فيها العدد الأكبر من موظفي الدولة.
منذ ما يقرب الأربعة أعوام، والموظفون المتضررون يكابدون ما يعجز التعبير عن وصفه من مأساةٍ إنسانيةٍ بالغة القسوة والوجع؛ وخلال الأشهر الأولى من انقطاع مرتباتهم، حاولوا التشبُّث ببصيص أمل وضعوه لأنفسهم في أن هذا الحال سينتهي في أسرع وقت؛ مَرَّت الأشهر والسنوات، وما زالوا محاصرين في أيامهم التي تَحَوَّلَت إلى وحوشٍ مُفترسةٍ تتناهشهم في كُلّ وقتٍ وحين.
وتحت ضغط الحاجة والأعباء اليومية، حاولوا أن يتعاملوا مع وضعهم الطارئ، منهم من اقترض من الآخرين حتى كَفّوا عن اقراضه، ومنهم من لجأ إلى بيع ممتلكاته وأثاث منزله، وهناك من طُرِدوا من مساكنهم بعد أن عَجِزوا عن توفير قيمة الإيجار لمُلّاك المنازل.
وفي هذا الظلام الجاثم، لجأ بعض المتضررين لمزاولة أي عمل متاح، مهما كانت طبيعته أو مشقّاته، وبأجورٍ زهيدة وجهد كبير، ويصارع هؤلاء لتوفير وجبات يومية لهم ولأسرهم للبقاء على قيد الحياة.
هناك من يعيش على وجبةٍ واحدةٍ في اليوم، وآخرون ينال منهم المرض ولا يجدون ثمن الدواء، هناك من أصبح في العراء، وآخرون ربما ماتوا جوعاً عفيفين وراء الجدران.
بشرٌ طموحون، خريجو جامعات، وحملة شهاداتٍ عليا، ركضوا بعد احلامهم وتأهيل ذواتهم، سنوات طوال، للحصول على حقهم كمواطنين في الوظيفة العامة؛ يقفون حائرين موجوعين مُثقلين بجبالٍ من العذاباتِ والشعور بالغربة، وهم في بلادهم، بلادهم التي باتت تجربة للموت كل يوم، ومحاولة للنجاة من الجنون كل يوم.
ويبدو أن السؤال سيظل عالقاً بدون إجابة: متى ستنتهي هذه الجريمة؟ التي تقتل ببطءٍ وتُميتُ بالتقسيط.) ________________
*النص الوارد أعلاه، نص خاص بفيلمٍ قصير، شاركتُ به في “مسابقة الجزيرة الوثائقية للفيلم القصير”، مطلع العام 2020، وكان الأمل في الفوز بإحدى جوائز المسابقة، لهدفٍ واحد فقط: تسليط الضوء على المأساة الإنسانية الفظيعة المُتمثلة بتوقّف مُرتّبات موظفي الدولة، وايصال صورة بسيطة عن التداعيات الكارثية والمعاناة المهولة والعذابات التي تسببت بها هذه المأساة.
أملتُ أن يحصد الفيلم أحد مراكز المسابقة بهدف ايصال هذه المأساة للرأي العام العربي، لعلَّ في ذلك ما يجعلها تتصدر العناوين ويدفع باتجاه إيجاد حل لها؛ ولكن الفيلم لم يفز، لأن مشاهده المرئية كانت ضعيفة، إذ أننا لم نتمكّن من التصوير في كثير من الأماكن العامة في “صنعاء” – وهي الأماكن التي يُفترض أن التصوير فيها عادي ومسموح مثل شارع المطاعم وسوق الحراج – مما أدى لإنتاج الفيلم بما هو دون المستوى المطلوب من الناحية الفنية.
لم يفز الفيلم، ولم أشعر بالاحباط ولو للحظةٍ واحدة، لأنني ازددتُ تقديراً لذاتي، بعد أن فزتُ بالشرف العظيم للمحاولة: محاولة ايصال هذه القضية المفصلية الأكثر تأثيراً على حياة قطاع واسع من الناس في اليمن، محاولة الحديث عنهم واسماع أنينهم وحشرجات أرواحهم.
من صفحة الكاتب على فيسبوك