لم تتوقف يوماً نافورة الدم في اليمن. لكنها عرفت منحنيات الصعود والهبوط. خلافاً للأحداث الجنائية التي تقتصر على دائرة جغرافية ضيقة وعلى عدد محدود من الناس لا يتجاوز في العادة العائلة أو العشيرة، كانت إراقة الدم وإعمال القتل من فعل السياسة بامتياز.
لذا كانت هناك مسافة بين المجتمع والسياسة كفضاءات متضادة في الموقف تجاه العنف تعمل هذه المسافة على تضميد الجراح وعلى تفعيل إدانة مبطنة أو صريحة للقتل. وتجلت هذه المسافة أكثر في العام 2011 مع الثورة الشبابية التي انطلقت من منطلق سلمي واجه فيه شباب عُزّل بصدور عارية قمع السلطة.
لكني أشعر أن المجتمع انزلق في أزمة أخلاقية بسبب انهيار المنظومة المؤسساتية الهشة وفقدان الثقة فيها وتساهل المجتمع مع الانتقام والثأر اللذين كانا شأنا عشائرياً أو قبلياً في إطار ضيق يفترض أن الدولة تناهضه. إلا أن الرئيس السابق صالح جعل منه ميكانيزم أساسي لتنفيذ رغباته في استعادة السلطة أو إفساد المجتمع وإعاقة أية مصالحة أو نهوض واستعمل منذ اليوم اليوم الأول للثورة أدوات غير الدولة أي “البلاطجة” ثم الحوثيين منذ 2014 كأداة طافحة بالعنف. هذه الأزمة ربما عززت وسائل التواصل الاجتماعي من تفاقمها أو عكستها فقط لا غير.
تقول الباحثة وأستاذة التاريخ باربارا لوفيفر في صحيفة لوفيغارو الفرنسية “ليست المشكلة في وسائل التواصل الاجتماعي بل في استسهال العنف”. في تعليق لها على انتشار فيديو لتلميذ يعتدي على مدرسته في الثانوية في ضاحية باريسية. إنها صدمة اجتماعية باعتبار الحادثة انطلقت من أهم مؤسسة للتنشئة الاجتماعية وهي المدرسة. ومع تآكل سلطة المدرس لأسباب عديدة يعاد طرح السؤال حول مكانة المدرسة وفقدان سلطة البالغين ومركزية العنف في التعبير لدى التلاميذ.
ليست المدرَسة فقط هي موضوعنا نحن لكنه المجتمع برمته أو العلاقة بين المجتمع والعنف ووسائل التواصل الاجتماعية. بالنسبة لها وسائل التواصل الاجتماعي ليست أكثر من مرآة للمجتمع. لكن في رأينا، الواقع فعلاً يغص بإشكالية أخلاقية تجاه الحقوق والواجبات وتجاه قيم أساسية كالحياة أكثر مما هو معكوس في وسائل التواصل الاجتماعية.
يصدق كلامها في مجتمع يمتاز بكثير من الشفافية في التعبير باعتباره حقا مكفولاً وممارسة يومية من داخل الاسرة وحتى الأروقة السياسية. ولهذا، فإن وسائل التعبير كوسائل التواصل الاجتماعية تعكس الواقع.
بينما في مجتمعاتنا التي تفتقد لكثير من الشفافية وينتهج الناس مساراً محفوفاً بالكثير من النفاق والتقية وعدم القدرة على المصارحة ويتنكر الناس وراء أسماء غفلية لا ليقولوا ما يشعرون به فقط ولكن للتحريض والسب والشتم فإن وسائل التواصل الإجتماعي هي في آن مرآة للواقع وتعزز من حالة التعبير عن العنف لأنها أتاحت للناس أن يختفون وراء أسماء غفلية ويظهرون المكبوت والشخصية الأخرى من ذاوتهم. بل إن الحرب أتاحت ظهور العنف المكبوت لفظياً ومادياً. ولست أدري من الأول هل هو العنف المكبوت الذي قاد إلى الحرب والاقتتال أم الاقتتال الذي يقود على دورة عنف أكبر وأشمل.
حالة الإنشطار في ذوات الناس وإطلاق عنان الفجور وفرت بيئة تستهتر بالعنف وتستسهل الموت وهذا ما أقصد به بالأزمة الأخلاقية تجاه الحياة.
ولهذا يستهتر الناس بالعنف من خلال نكايات وتشفٍّ أو يستسهلون موت الآخرين تحت ذرائع دينية إقصائية أو طهورية فتفقد الحياة قيمتها وتدور الدائرة على الجميع. لأن المجتمع استرخى وأتاح لنفسه السقوط في دائرة العنف من خلال ممارسة افتكاك لمعنى الحياة. تجسد هذا الافتكاك باعتماد الثأر والانتقام آلية سياسية شملت المجتمع وجعلت الجميع ضد الكل.
قد لا يكون القتال في اليمن مفتوحاً. لكن الواقع ينذر بالكثير من تهتك القيم اذ نجد أن المرأة قد أُلبَّت ضد أختها كما هو في حالة ميليشيات نسائية لقمع النساء، كما أننا نجد السجون قد تضاعفت وخرجت عن الأطر القانونية في المعاملة ومورست فيها أبشع الجرائم في كل بقاع اليمن بلا استثناء.
ولا ننسى الجرائم الجنائية التي تحدث في الإطار الأسري والاعتداء على الأطفال من طرف الآباء بشكل مروع. وكثير من الحرمات تنتهك. ولم يعد هناك هامش تسامح عقائدي مع المختلف.
سنأخذ مثالاً على استهتار المجتمع بالعنف واستسهال الموت وهو ردود الفعل تجاه موت عشرات الشباب في عدن نتيجة تناول مشروبات كحولية مسمومة. والأصل أن المجتمع يقف ضد الموت على هذا النحو المجاني ويتساءل في أسبابه قبل أن يتشفى في الموت باعتباره عقوبة إلهية.
عودة إلى الحرب، في كثير من البلدان هناك قيود على النشر وعلى تمرير صور دموية أو أشلاء ضحايا. وفي العادة يمنع تعريض الأطفال لمثل هذه المشاهد التي قد تؤالفهم مع الدم والموت. لكن في بلداننا نجد نشر وإعادة نشر صور مروعة وأحيانا استثمارها في أطر سياسية في استهتار وانتهاك كبيرين بحقوق الضحايا ودون إدراك تبعاتها على المجتمع. هذا لأن الهامش بين السلم والعدوانية رقيق جداً وعندما يخطو الشخص هذه الخطوة يصبح الموت والقتل أمراً عادياً لا يثير أي استنكار ولا يوفر أي وازع. ولنا في حالة المحافظات والمدن “المحررة غير مثال”.
ولهذا أدعو الى تبني ميثاق شرف للنشر يراعي الناشئة ويصون ضميرهم من العنف.
مصطفى الجبزي
٢٧ أكتوبر ٢٠١٨
* نقلاً عن المصدر أونلاين