خيوط
لا تقتصر مأساة اليمنيين اليوم على المعاناة التي يعيشونها بسبب الحرب التي تدور رحاها منذ 9 سنوات، ولكن هذه المأساة تمتد لتتجاوز الحاضر المؤلم، إلى المستقبل الذي باتت معالمه رهينة هذا الواقع وصراعاته المعقدة والحرب وأطرافها المتشابكة وظروفها ومخرجاتها. الأمر الذي يصيب أحلام اليمنيين، بالوصول إلى مستقبل مشرق وواعد، في مقتل.
ومع أن اليمن ألفت نشوب حروب وصراعات في الفترة الماضية، وفي ماضيها القريب والبعيد على حّدٍ سواء، فإن أسوأ ما يعانيه اليمنيون اليوم أنّ الصراعات الراهنة لم تقتصر على إحداث الضرر في بنية المجتمع ومؤسساته، ولكن الضرر طال -فيما طال- آمال اليمنيين عمومًا، وهذا لم تشهده صراعات الفترة الماضية، حيث كانت الخلافات وقتها تدفع الأطراف المختلفة إلى الاجتماع تحت لافتة اليمن وقضاياها الكبرى.
حدث ذلك في حروب وصراعات ما بعد الثورتين سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، سواء ما وقع بين شطري الوطن أو الخلافات والصراعات داخل كل شطر على حدة. كانت مصلحة اليمن –ولو من الناحية النظرية على الأقل- تجمع الأطراف المشاركة في كل جولة من جولات الصراع التي شهدتها البلاد، على ما كان يعتور مواقف بعض القوى والأطراف السياسية من تغليب مصالحها وأجندتها الخاصة على حساب المصلحة اليمنية الجامعة في بعض المحطات والمراحل. بَيدَ أنّ ما تركته الحرب والصراعات الراهنة يثير المخاوف بشأن مستقبل اليمن وآمال اليمنيين، التي كانت في الماضي تسمو على الجراح وتتغلب على الصراع وتقهر المعاناة مهما بلغت، وكانت تهون في سبيلها التضحيات.
صراعات الوقت الراهن تسيّدت فيها أطراف لا صلة لها بماضي اليمنيين وأحلامهم، فهي لم تكن في يوم من الأيام جزءًا من السجال الوطني الذي خاضته القوى الوطنية على مدى ستين سنة، وهذه القوى الجديدة لم تتصدر المشهد لكفاءتها في الأداء السياسي والإداري أو لحصولها على ثقة الشعب، بل تصدرت المشهد لأنّ الداعمين والممولين قرروا الدفع بها إلى الواجهة لتنفيذ أجندتهم وتحقيق أهدافهم وحماية مصالحهم، لذلك تراجع مضمون الخطاب الوطني سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وباتت لغة المصالح الخاصة والأجندات المشبوهة هي الأكثر حضورًا في مداولات الوضع الراهن، وبغياب الخطاب الوطني لدى القوى المحلية التي يمكن وصفها بـ(ما دون وطنية)، غابت حقائق كثيرة كانت هي الحاضر الأبرز في مجمل صراعات الماضي القريب والبعيد.
كانت القوى الوطنية تتنازع فيما بينها على الوسائل المؤدية إلى تحقيق الغايات السامية والأهداف النبيلة التي تعد قواسم مشتركة بين جميع المختلفين والمتصارعين والمتنافسين، كأن تختلف قوى الثورة في طريقة التعامل مع فلول الإمامة والاستعمار التي قامت ضدها الثورة، لكن هؤلاء المختلفين متفقون على ضرورة حماية الثورة والدفاع عنها والعمل على تحقيق أهدافها ومبادئها.
ومن الأمثلة على الخلافات في صراعات الماضي، الاختلاف حول آليات تطبيق الوحدة اليمنية– الهدف الأسمى الذي ناضل اليمنيون من أجله عشرات السنين، لذلك كانت تنشب حرب بين نظامي الحكم في الشطرين الشمالي والجنوبي، ولكن سرعان ما يلتقي الطرفان على كلمة سواء، وهي الوحدة اليمنية، والدليل على ذلك أن جولتي الحرب الشطرية في العامين 1972 و1979 أعقبتهما اتفاقيات وحدوية، وهي اتفاق القاهرة وبيان طرابلس ولقاء الكويت.
وهذا يؤكد أنّ القاسم المشترك كان له الصوت الأعلى إذا ما ارتفعت أصوات القوى والتيارات والتنظيمات والأنظمة الحاكمة، وكانت الأهداف النبيلة التي أجمع عليها اليمنيون هي الحاضر الأبهى والأبرز كلما احتدم الخلاف ودقت طبول الحرب.
على النقيض من ذلك، فإنّ ما يبدو اليوم من ظهور قوى طارئة ومشاريع باهتة ورؤى قاصرة وأفكار غير خلاقة، كل ذلك يشير إلى أن مشاريع التجزئة والارتهان والخطابات المبتورة المتصلة بها، باتت تسجل حضورها على حساب المشروع اليمني الذي طالما أجمع عليه المختلفون، واجتمع عليه المتفرقون.