إلى فلسطين خذوني معكم قد صار عندي الآن فيسبوك!
* محمد فائد البكري
كانت الأغنية التي كتبها نزار قباني وغنتها أم كلثوم تقول: “إلى فلسطين خذوني معكم، أصبح عندي الآن بندقية… أريد أن أعيش أو أموت كالرجال… ”
وبصرف النظر عما أراده نزار قباني بكيفية العيش كالرجال والموت كالرجال، وهو لاشك يستبطن نزعة قبائلية لا تساوي بين الموت كالرجال والعيش كالرجال وبين العيش كالبشر والموت كالبشر في مجتمعاتٍ يُسحق فيها الإنسان وتُسلب منه طفولته وكرامته، وينشأ كعبدٍ أو تابعٍ لا يملك أمر نفسه، وليس له إلا أن يطيع ويخضع ويموت من أجل قضايا لا يعرف ما جدوى موته من أجلها، ولايعرف من دفع به ليكون الموت وحده هو الحل.
لقد كان لتلك الأغنية سياقها التاريخي الذي ربما كان بمعنى ما يقتضي أن تكون التعبئة مقدمة على التوعية أكثر من أي شيء آخر، لكن على امتداد سبعين عاماً لم تأت تلك البندقية بالحل، ولم يجرب القائلون بها التفكير بحل آخر! وحتى مع التسليم بأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، تبقى الأسئلة: أي قوة؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟… إلخ. ولاسيما أن تاريخ حركات التحرر الوطني يكشف لنا أن الاحتلال لم يخرج بالقوة، وإنما بسبب تغيير ميزان القوى في العالم، ولم تكن قوة المواجهة في الداخل سوى عاملٍ من عوامل، ناهيك عن أن قادة حركات التحرر المزعومة تحولوا من ثوريين إلى طغاة ومستبدين أذلوا الشعوب ونهبوها أكثر من المحتلين، وتواطأوا مع المحتلين ورهنوا قرارات الدول، ومارسوا دور الوصي بكل بشاعة وفظاعة، وكما قال البردوني:” فمن مستعمرٍ غازٍ إلى مستعمرٓ وطني” وهكذا على فرض تحرير الجغرافيا التي سمُّيت أوطاناً لم تحرر الشعوب، وما زال واقعها يتردى كل يومٍ في التخلف والجهل والعنف والحروب، وتعيش أسوأ سيناريوهات الهزيمة على كل مستوى!
لا إمكان لتحرير الشعوب من الاستلاب مالم يُعد الاعتبار لكرامة الإنسان وتبنى منظومة الحقوق والحريات ويسود القانون في دولة المواطنة، وهو ما يقتضي أن يُرفع مستوى وعي الذوات بحقوقها وحرياتها لتنتزع تلك الحقوق والحريات وتحاسب السلطات وتعمل على استعادة قرارها ومواردها، وتدرك أن تجييشها في المسيرات والمظاهرات تفريغ لمكبوتاتها في الاتجاه الخطأ، وتكريس لإرادة الطغاة وتنشيط لغريزة القطيع.
بالنسبة لقضية فلسطين التي أثخنتها الشعارات وصارت ورقة للمساومات رغم أنها في سياق الدعاية تسمى قضية العرب المركزية وقضية العرب الأولى، ليس من التعميم أن نقول إننا ما لم نبحث في أسباب الهزيمة التي أفضت إلى وجود هذه القضية، ومعرفة ما تبقى من تلك الأسباب في الواقع الموضوعي فلن نستطيع أن نحقق تجاوزاً لها، ولن نستطيع أن نعالج آثارها.
ومادمنا نكرر تلك التصرفات ذاتها ونستخدم الشعارات نفسها على أمل أن تحقق نتيجة مختلفة فسيظل الأمر قيد التمني ورهينة الوهم ولن يتغيَُر من الواقع شيء.
لقد تطورت البندقية وتطور معها مجال الصراع ومصالحه وتعقدت حساباته ولم يتغير الوعي بدور البندقية في عالمنا العربي، واتسع فارق القوة بين الظالم والمظلوم وماتزال رهانات كثيرٍ من العرب على أن البندقية وحدها ستغيِّر ميزان القوة، رغم أنهم لم يصنعوا بندقيةً واحدةً ولم يعملوا على أي تغيير لواقعهم على نحو ما يعمل عدوهم التاريخي، وكل ما هنالك أن ظلوا يطلقون الوعيد والتهديد، وشعاراتٌ تراكم شعارات وهتافات تجتر هتافات، وتسجيل مواقف انفعالية ضد بعضهم بعضا، ولا شيء تغيُر مطلقا، حتى صِيغ التخوين والتكفير والترهيب!
ما يزال كثيرٌ من الشعاراتيين العرب يتعاملون مع قصية فلسطين كأنها ملكية خاصة، ولأجل ذلك يتحدوثون باسم الوجدان الجمعي غير مبالين بما يكون من ارتدادات استملاكاتهم الرمزية على الإنسان في فلسطين!
كثيرٌ من المتحفزين للإدانة لا الفهم ينظر فقط داخل محفوظاته ويرى هل يستظهرها جاره أو زميله وفق رؤيته هو، وإلا فالويل له، إنهم يستصعبون أي تفكير نقدي يحاول أن يقارب قضية فلسطين ومعرفة الواقع الموضوعي لها خارج كومة الشعارات، ويستسهلون ممارسة الشتيمة والحصار النفسي والاجتماعي والاغتيال المعنوي لأي صوتٍ يرتفع في سياق النقد والمساءلة والتقييم.
كثيرٌ من أولئك يجتهد في ذم كل من يحاول تعقل ما يحدث، ولا يأنف من أن يطلق عليه الشائعات ويستقتل في شيطنته ومصادرة اختلافه بحجة أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا وقت للداعين إلى التعقل أو الموضوعية ما دام الدم الفلسطيني يسيل، وكأن الشعارات ستوقف الدماء!
هكذا تتسع سردية النضال العربي من أجل فلسطين وتتضخم وتترهل وتغدو مصفوفة انفعالات وانثيالات وبكائيات وهتافات واجترارات لا تفرِّق بين التضامن مع المظلوم وبين التحريض والتهييج والتحشيد والمزايدة.
بدعوى التضامن مع فلسطين تُستلب حقوق وتُهدر حرياتٌ، ويحدث الكثير من التجني والتعدي والتشهير، ولا أحد يكلِّف نفسه أن يفرِّق بين ما يكون من التضامن مع الإنسان وما يكون من الغوغائية وإشهار الذات والاعتداء على حق الاختلاف، ولا أحد ينظر في إمكانية أن يكون العمل على توعية المظلوم بكيفية انتزاع حقوقه مقدَّم على الاصطفاف والصراخ والتأييد وإظهار العداء الذي لا يغيُر من الواقع شيئا.
من أبجديات الدفاع عن المظلوم أن تفهم قضيته وتعرف كيف يمكن أن تنفعه وأين يمكن أن تضره، ومن ثمَّ تساعده على فهم قضيته وتمكينه معرفياً من الدفاع عنها بوعي، فكم من قضية عادلة سقطت لسوء الدفاع عنها!
إن تبصير المظلوم بجوانب القوة والضعف في قضيته قد يجعل نضاله أكثر جدوى، وينزع عنها جانب الشعارات لصالح الحقائق، وهذا لا يكون إلا باتخاذ موقف النقد والتقييم والاستدراك عليه، وتنبيهه إلى ما يجعل دوره أكثر فعالية ومن ثمَّ يتجاوز صاحب القضية قصوره ويحسِّن من أدواته ومن أساليبه في الدفاع عن حقه، وليس شرطاً في هذا أن يكون الاصطفاف معه بجهارة الصوت، واستنزاف المخزون القومي للدموع.
تكشف الاصطفافات الانفعالية مع قضية فلسطين عن نزوعٍ موسمي لتظهير مكبوت القهر؛ فالشعوب العربية التي تنخرها جرثومة الاستبداد تجد أي حدثٍ في فلسطين مناسبة لإعلان التربص ببعضها بعضاً، والمسارعة إلى الإدانة والرغبة في شيطنة المختلف والمغاير وعدم إتاحة الفرصة لفهم ما يطرحه، فيغدو الامر استفتاء على الغوغائية وتنافس على إبراز التحيزات واجترار الأحكام الجاهزة، وتسويق البطولات الحنجورية.
في الغالب تُختزل النضالات العربية سواء في الواقع أم في الفضاء الافتراضي في ثنائية من ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يقول بقولنا فهو عدونا وخصيمنا، وهو خائن أو عميل أو جبان، وهكذا توزع صكوك البطولة والشجاعة، ويُغلَّف العنف اللفظي بالوطنية والقومية والانتماء والمبدئية أيضاً، ولا يبقى من الوعي بما يجري شيء!
في زمن الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي أصبح كثيرون يستسهلون كتابة حالات التنمر بدعوى التضامن والتعاطف ويستظهرون أوهام النضال والحماس الثوري في منشورات تكتظ بالشجب والإدانة والندب والشتيمة الفائضة للعدو ولمن لا يدين أو يشجب أو يندب.
وهم-بصرف النظر عن كونهم يسهمون في نشر خطاب الكراهية في لحظةٍ أحوج ما يكون فيها الإنسان إلى الوعي- يمارسون بذلك خطاباً إشهارياً لذواتهم اللاهثة على اللايكات، وتحويل الفيسبوك إلى منصة دونكيشوتية للقصف والتدمير الخنفشاري.
من هؤلاء من يكشف عن ذاته المؤدلجة وشوفينيته الدينية معتقدا أنه بذلك ينتصر لفلسطين وهو لا يفعل أكثر من تعميم الغوغائية.
ومنهم من يستغرق في تسويق ذواته المنتفخة الأوداج أكثر من أن يبين عن موقف واع؛ فتغدو منطوقاته تعبيراً عن عصاب جماعي، وتظهيرات لعدوانية كامنة في النفوس بفعل النشأة البدائية والتكوين العصبوي، وأبرز الأدلة على ذلك أنهم يتحدثون بوثوقية، ويعممون الأحكام بعمى ويتنمرون ويزايدون على أي صوت مختلف ويطالبونه بإظهار ما يظهرون من الضغينة والشحناء وإلا فهو متواطىء مع العدو، وحتى لو لزم الصمت يطالبونه بإعلان موقف فالصمت عار، ويمارسون عليه ضغطاً نفسياً وتأليباً وتحريضاً، في حين كان من الممكن بدلاً من الاستغراق في المهاترات وتفعيل ترسانة الأدعية أن يبدي أولئك المناضلون الأشاوس المتترسون خلف الجدران الافتراضية في الشبكة العنكبوتية وجهات نظرهم أو يمارسون بكائياتهم بلا أي حاجة للمزايدة على أحد أو تحديد المواقف من مواطنيهم ودون أي تنميط وتصنيف لأبناء مجتمعاتهم وفق ثنائية الحق والباطل ومع وضد والوطنية والخيانة.
لا شك أن هؤلاء يعرفون أنه على امتداد عقودٍ من الزمن لم تفلح الأغاني الثورية والطنين القومي في تغيير شيء على الواقع، وأن جغرافيا فلسطين المحتلة في تناقص يوماً بعد يوم، وأن الاحتلال يقوي نفسه ويزداد عتواً ونفورا، وهو ما يقتضي من كل المدافعين عن فلسطين أن ينصرف خطابهم إلى تعقل ما يجري من خلال متابعة ما يحدث في فلسطين، والعمل على معرفة واقع الصراع ومواجهة أسبابه الموضوعية، وفي صميم ذلك يقتضيه الأمر أن يعمل وفق استراتيجيات مغايرة، منها مثلاً أن يعمل على بناء منظومة توعية بكيفية الوصول إلى الغرب الاجتماعي والعمل على بيان مظلومية الشعب الفلسطيني لتكوين رأي عام مدرك لأبعاد الصراع من داخل مجتمعات الاحتلال والمجتمعات الداعمة له، بحيث يمكن من خلاله الضغط على الغرب السياسي الذي يدعم اسرائيل وآلتها العمياء.
أما أظهر ما يتجلى من سردية النضال الفيسبوكي أن معظم هؤلاء لا يعرفون من إمكانات توظيف وسائل الميديا غير البكاء والنواح والتخوين والتهييج، ويغفل كثيرٌ منهم عن إمكانية استخدامها في التوثيق لما يحدث، وإنشاء خطاب إعلامي يستند إلى القانون وإلى حقوق الإنسان،
أو بناء خطاب توعية يقوم على معرفة سياسية بالأبعاد الجيوسياسية والديموغرافية والاقتصادية والثقافية وتبعات ما يحدث وتداعياته وآثاره على الإقليم والعالم.
وبرسم كل أولئك الذين يحققون انتصارات فيسبوكية تحت جنح الهذيان وأولئك الذين مايزال رهانهم على البندقية وحدها، تبقى التساؤلات: هل هذه الفسبكات بما تستظهر من الغلواء يمكن أن تغيِّر واقعاً أو تستظهر وعياً يعمل على تنمية الحقوق والحريات وكرامة الإنسان أم تسهم في تطبيع خطاب الكراهية الذي يرتد إلى الداخل؟ ثم ما الذي تفعله هذه الإنشائيات لأطفال غزة الذين تحت القصف يدفعون ثمن اختطاف قرار وجودهم؟ ثم هل ندين القتل لذاته ومن أي طرفٍ كان أم ندينه فحسب حين يصيبنا نحن؟!