ضع اعلانك هنا

مزار الشيخين

مزار الشيخين

أحمد سيف حاشد

“الشيخ حيى” أو الشيخ “يحيى” يوجد له ضريحٌ على تلة أو جبل صغير في وادي صبيح، والضريح محروسٌ بغرفةٍ وقُبًّتين يجري طلاؤها بالنُّورة البيضاء قبل موعد “المولِد” بأيّام، ويتمُّ تجديد طِلاءِ القُبَّتين، في الموعد المقرر من العام الذي يليه.

 

وكان طلاء النُّورة يجعل للمكان جلالاً وهيبة، وتستطيع نصاعة بياضها أن تؤنسك وتُشعرك أنّك لست وحدك.. تتطلع إلى المقام بناظريك، فيبدو المقام مُهاباً وآسراً ليلاً كان أو نهاراً.. تسمع هناك من يقول لبصرك بصوت جهور: قف قليلا.. هناك ما يستحقُّ الوقوف.

 

وفي الغرفة ضريح “الشيخ حيى” ، وفي جواره ضريح “العبد” الذي كان يملكه، ويبدو أنه كان يحتل مكانة رفيعة في نفسه، بل وآثره على عياله، بدليل أن ضريحه كان جواره، وأكثر منه أنه ورثة بوصيته من ثلث تركته، ويوجد “شعب” سمي بـ “شعب العبيد” قيل أنه قطعه له في وصيته. وفي جوارهما على امتداد الغرفة قبر زوجة “الشيخ حيى”، وهو قبر مستوي بالأرض دون ضريح.

 

عندما يقترب موعِد مولد “الشيخ حيى” يتمُّ النداء إليه، ويُسمَّى “التّطريب” وهو إعلان موعده والذي يجري في يوم وسُوق الخميس، ويتمُّ من مكانٍ مرتفعٍ في السُّوق، وُيستهلُّ الإعلان بعبارة “الحاضر يعلم الغائب..” ما أتذكّرُه من زمان طفولتي أنَّني كُنت أنتظر مرور العام طويلا.. أشتاق لحضور هذا المولد بحرارة كلِّ جوارحي.. شوق طفولتي يتأجَّج على نحوٍ لا نظير له.. حضوري إلى ما أشتاق إليه يغمرني بشلّالٍ من سعادة لا وصف له ولا مثيل.

 

كان المولد أشبه بكرنفال بهيج، يحضره جمعٌ غفيرٌ من النّاس، والسّعادة تحجز للأطفال المكان الذي يليق بسعادة وذكريات عصيّة على النِّسيان. في المولد كان يبدو لي الجبل الذي فيه الولِيّ أو المقام زهيّا مثل شجرة ميلادٍ تُلُّونُها الأضواءُ الزّاهية.

 

ترى الجبل وكأنّه مُغطَّى بمَحارٍ وأصدافٍ، ولؤلؤٍ، ونجومِ بحر زاهٍ بالحضور والألبسة الملوّنة.. البيارق ترفرف عالياً في أكثر من تجمُّعٍ ومكان، وبعضها يتمُّ حملها عند صعود الزاوية إلى رُدْهَةِ المكان في الجبل. وبيارق تُغطِّي الضريح، فيبدو مكللاً بالمهابة والوقار، كملِكٍ يوم اعتراش وتتويج مُلكه.. وترىَ المسرات تغمُر وجوهَ كلِّ من حضر.

 

أسفل الجبل يجتمَع القوم، وشجرتي “الحُمر” الضخمة والوارفة تنشر ظلَّها على الجميع.. وهناك ضريح “الشيخ أحمد” في الجوار القريب، وصخَبُ الحياةِ والبيعِ، والشراء في أعِنَّته.. الحياةُ هنا مشرقةٌ ودافقةُ.. صاخبة بعد عام من السُّكون.. تشعر أنَّ هذا اليومَ يحتفل به الجميعُ أحياءً وأمواتا.. تُذبحُ الذَّبائح، ويتناول الناس وجبة الغذاء، ولا يغادرون قبل أن ينفضَّ الجمعُ للمغادرة.

 

وفي عصر اليوم أو قبله يحتشد الجمع في أسفل الجبل؛ ليقيموا الزاوية، ويبدأ السير والصُّعودُ نحوَ مقام “الشيخ حيي” في تلّة الجبل.. يتحرك الجمعُ رويداً رويدا وهم ينبضون ويفيضون بالنور، والجمع أبهى من ألف عريس. وما يفعله المجاذيب يأسرُ طفولتك بما لا يُنسى من العجب.

 

ما زلت أذكر المجذوب هنا، وهو يبدأ في الارتعاش.. أخرج جنبيته من غِمدها، وبدأ يضع رأسها في راحة يده اليسرى ويُمناه قابضة على مِقْبضِها. مائلها ومائل يديه مرتين وثلاث على زاوية من عينيه، وكأنَّه يبحث في لمعانها عن شفرة أو سرٍّ عظيم ينتظر موعدَه أو تدفقه.

 

قالوا: إنَّه يبحث وينتظر الشَّارة الّتي تأذن له في الدّخول إلى غَمرة “الجذب”. بدأ يهتزُّ كغصنٍ في وجه الرِّيح، أو شجرةِ كافورٍ في وجه عاصفة. ثمّ يجثو على ركبتيه، ويضرب بحد الجنبية كتفيه الأيمن والأيسر، دون أن نرى دما أو أثرا..

 

يعيد وضعية جثوه على أطراف أصابع قدميه متحفّزاً، ويُهيل الضَّربات على سرفتيه.. يطعن بطنه بضربات متلاحقة، ولا يترك أثراً على جسمه رغم كل ما فعل. لم يترك أثراً غير حيرةٍ ودهشةٍ تَكسو وجوهَ طفولتنا الباكرة..

 

ثمّ يعود ويفوق من غَمْرتِه، ويخرج من نَوْبَة حالته، ويعود إلى طبيعته ولا كأنّ أمراً خارقاً قد حدث.. ما أجمل تلك الأيام القليلة! وما أجمل الطفولة فيها! وكلاهما قطعاً لن تعودا.

 

***

– من مذكرات احمد سيف حاشد

ضع اعلانك هنا