توثق الكاتبة والناشطة اليمنية بشرى المقطري -في كتابها “ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسية”- معاناة المدنيين في اليمن المستمرة لسنوات من وجهة نظر ضحايا هذه الحرب. توثيق المقطري لتلك المعاناة يهدف إلى حمايتها من النسيان. محمد نافع الوافي يعرِّف موقع قنطرة بمحتوى هذا الكتاب.
على الرغم من مرافقة الموت والخراب حرب اليمن، التي اندلعت نيرانها منذ ثلاث سنوات (2015)، أبت بشرى المقطري هجر بلدها المحاصر وعمدت الروائية الناشطة على البقاء والترحال في اليمن، من أجل توثيق محن مواطني بلدها، الذين وجدوا أنفسهم في حرب لا يد لهم فيها، فُرضت عليهم من قبل قوتان تتصارعان حول الهيمنة على المنطقة وهما السعودية وإيران.
قامت المقطري بزيارة عائلات الضحايا ورصد قصص أحبائهم المأساوية، الذين إما قتلوا أو ألحقت بهم تشوهات جسدية ومعنوية بعد القصف والتفجيرات الوحشية.
في كتابها “ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلد حرب منسية”، الصادر عن دار رياض الريس للنشر في بيروت، تبدي القطري اهتماما أقل في الكتابة عن الأحداث المتسلسلة زمنيا وتيارات الحرب السياسية، وتسلط الضوء بشكل خاص على الضحايا المدنيين، الذين يتحملون العبء الأكبر من تداعيات الحرب.
الكتاب بطبيعته مشحون بالقصص العنيفة من وعن الذين قتلوا، جُرحوا، ترمَّلوا، تيَتّموا، أو أجبروا على النزوح بسبب الحرب، لذلك لا يوصى به لأصحاب القلوب الضعيفة أو لأولئك الذين يبحثون عن البيانات و الإحصاءات فقط.
منح صوت للضحايا
أسلوب سرد المقطري في “ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد حرب منسية” كان مماثلاً لذلك في روايتها “خلف الشمس” التي صدرت في عام 2015، والتي تدور حول قضايا الاختفاءات القسرية في اليمن.
ويتعامل كتاب “ماذا تركت وراءك؟” مع ضحايا الموت والاغتراب عبر أصوات وذكريات هؤلاء الذين لايزالون على قيد الحياة.
في كتابها “ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلد حرب منسية” تسلط بشرى المقطري الضوء بشكل خاص على الضحايا المدنيين، الذين يتحملون العبء الأكبر من تداعيات الحرب. تهدي بشرى المقطري الجزء الأخير في كتابها إلى صديقتها ريهام بدر، التي كانت مقربة جدا لها خلال تأليفها للكتاب والتي للأسف، لم تستطع الانتظار حتى نشره. حيث لاقت الأخيرة حتفها مع صديقها مأمون الشرابي في قصف حوثي في شرق تعز عندما كانت في طريقها الى تعزية العائلات المحاصرة.
وبعد مدخل قصير إلى الكتاب، تأخذ الراوية خطوة إلى الوراء وتفتح المجال لأصوات الضحايا للتكلم عن محنهم المؤسفة، لعل أن يكون لهم في ذلك بعض التعزية.
الناس العاديون هم الخاسرون الأكبر وضحية كل حرب. فيعيشون حالة خوف وذعر دائمة، ليصبحوا في النهاية فصلاً صغيراً عابراً في كتاب الحياة الكبير ولا يكاد أحد يتذكرهم.
الأسى والتشويه الذي عانوا منه، يُصَغَّر ويُحوَّل إلى مجرد أرقام وبيانات ذات أهمية إحصائية لا غير.
أولئك الذين قُتلوا وجُرحوا وغُرّبوا يُستبدلون بأرقام غالباً ما تكون لصالح بعض الآخرين المنتفعين من الحرب.
التسجيلات المحزنة في الكتاب تبتدئ بقصص ضحايا الحرب الشنيعة في صنعاء. يُذكر أن هناك حالات، حيث كان بإمكان المرء شم الرائحة الكريهة التي خلّفتها حروق الجلد البشري لأيام عديدة، ورؤية الشعر الملتصق على أرض المصنع الغذائي، وذلك إثر هجوم مروع على صنعاء شنته القوات السعودية، وهو ما تدمع له عيون القارئ بعد قراءة الكتاب.
مشروع محفوف بالمخاطر
تزداد قساوة المشهد في جنوب غربي مدينة تعز المحاصرة من قبل الحوثيين، ومسقط رأس بشرى القطري. يمكن وصف الدمار، الذي ضرب تعز الآن بأنه كارثي، فغالبية البيوت مهدمة، ومخيمات الترحيل التي يسكنها أولئك الذين طردوا من قراهم من قبل ميليشيا الحوثيين.
الخوف يتجلى في عيون البعض، الذين لجأوا إلى العيش في الممرات الجبلية بهدف تجنب الحصار، كما تكتب بشرى المقطري.
لم يكن سهلاً على المقطري، كونها صحفية من شمال اليمن (كونها من تعز: جغرافياً في جنوب غرب اليمن لكنها سياسياً كانت تابعة لشمال اليمن سابقاً قبل الوحدة)، زيارة أجزاء عديدة من الجنوب، الذي يخضع غالبه لسيطرة قوات تابعة للإمارات.
وبالأخص عندما اعتُقلت عند مدخل الضالع ولم تستطع إكمال رحلتها، إلا بعد حصولها على موافقة رسمية من قبل مسؤولي هذه القوات.بينما مدينة الحديدة، وهي ميناء يقع على البحر الأحمر، كانت من أخطر وأصعب التحديات في رحلة المقطري إلى المناطق التي مزقتها الحرب، وذلك بسبب اعتقال الميليشيات للصحفيين، الذين حاولوا الدخول إلى المدينة، وهو ما دفع المقطري إلى ارتداء لباس النساء اليمني التقليدي. ولحسن حظها، لم تكشف الميليشيات عن وجه كل امرأة مسافرة وتفحصه عن قرب.
خلال إقامتها هناك، زارت المقطري العديد من المشافي المليئة بضحايا الاعتداءات العسكرية، ورأت كمية الإصابات البالغة الناجمة عن ضربات القنابل العنقودية.
تهدي المقطري الجزء الأخير في كتابها إلى صديقتها ريهام بدر، التي كانت مقربة جدا لها خلال تأليفها للكتاب والتي للأسف، لم تستطع الانتظار حتى نشره. حيث لاقت الأخيرة حتفها مع صديقها مأمون الشرابي في قصف حوثي في شرق تعز عندما كانت في طريقها الى تعزية العائلات المحاصرة.
“أخطاء جانبية” كثيرة
“الأخطاء الجانبية” الناجمة عن قصف الأهداف المدنية أصبحت شيئاً اعتيادياً في الحرب اليمنية. ففي الحريضة، على سبيل المثال، حيث لم تتواجد أي ثكنات أو قواعد عسكرية، بل مجرد بيوت قليلة مأهولة من قبل عائلات فقيرة، ورشة سيارات وسوق معروف.
“كنا نحاول العيش بسلام عندما أتو وقصفوا المكان. لقد قتلوا عائلة أخي”، تقتبس المقطري عن أحمد أبو الحميد المقيم في الحريضة، والذي رأى الجثث المشوهة في كل مكان، عند دخوله المنزل بعد القصف.
كما تروي نسيبة عبد الملك قصتها عن ميليشيات الحوثي وعلي عبد الله صالح في مدينة تعز. ابنتها ريم وتسعة آخرون وقعوا ضحية شظايا القصف، وأصيبت ابنتها الأخرى البالغة 8 سنين من العمر بجروح بالغة عندما كانت تلعب مع أصدقائها.
صباح أحمد فارع من صنعاء، أيضا فقدت ابنتها الشابة نورا البالغة تسعة عشر عاما من العمر، وابنها ذا الخمسة أعوام شهاب، وصديقتَيْ ابنتها وبعض من جيرانها.
توثيق المقطري لتلك المعاناة يهدف إلى الحفاظ عليها وحمايتها من النسيان، حيث يهدف تصوير تلك الحكايات المروعة إلى تذكير الأجيال القادمة بحماقة وعبثية الحرب، مهما كانت الأسباب وراء اشتعالها.
وعندما تخمد نار الحرب ويتفق أطراف الصراع الإقليمية على هدنة، وتُدعى الشركات الأجنبية لإعادة إعمار البلد، حينها سيبقى لدينا تلك القصص المفجعة، للتذكير بالحماقة المطلقة، والعظمة الفارغة، والقسوة الباردة الدم التي جسدتها الحرب في اليمن.
محمد نافع الوافي
ترجمة: رين محفوض
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018
ar.Qantara.de
محمد وافي هو كاتب وصحفي مقيم في مسقط، سلطنة عمان، صدر له كتاب “كتاب الحكم”.