ولادة شاعر
عبد الباري طاهر
محمد حسين هيثم ولد شاعراً باعتبار ما سيكون، وعاش شاعراً، ولم يمت. لا أعرف أحداً من الأصدقاء الشعراء الشباب- على كثرتهم- سكنه الشعر، ووهب حياته للقصيدة كهيثم. عملنا معاً في صحيفة «الجماهير» الناطقة بلسان الجبهة الوطنية الديمقراطية، وكان هيثم يشرف على التحرير، ويراجع المقالات، ويصحح المواضيع كلها.
أتذكره الآن يتأبط حقيبته. يبدع القصيدة كما يتنفس، ولكنه يحتفظ بها كسر صناعة القنبلة النووية؛ يجودها، ويعيد تجويدها. يمتلك موهبة خارقة. شديد الحساسية والإدراك لكل ما يجري.
يقرأ الوقائع من حوله قراءة شعرية. الإعجاز في تجربته الشعرية أنه يستطيع تحويل اللا شيء شيئاً وشيئاً رائعاً وغرائبياً. يلبس العادي جداً؛ أثواب الروعة والجمال.
شاعرية هيثم منبتها ومنبعها إنسانيته العظيمة. هيثم قصيدة تمشي علي قدمين؛ فهو كـ «الإنسان الكامل» في مصطلح أهل التصوف. الإنسان والشاعر يتماهيان فيه؛ فهو شاعر مكتمل في مسلكه وفي علاقاته بكل ما حوله، في صداقاته، وفي رؤيته للحياة والكون والمجتمع. ترافقنا، تصادقنا، وعملنا معاً.
يتقن هيثم فن العلاقات الإنسانية والصداقة كإتقان إبداع القصيدة، وهو محب للجميع، صادق حد البداهة.
عملنا تحت إدارته في مركز الدراسات والبحوث اليمني، فكان مثالاً للإداري الكفء المحب للعمل المخلص للوظيفة وللزملاء.
في عمله كأمين عام لاتحاد الأدباء والكتاب، وكرئيس لمجلة «الحكمة» كان القدوة والمثل الأعلى في تفعيل إدارة الاتحاد، وتزكية الأنشطة الأدبية والثقافية، والاهتمام بالإصدارات.
ميزة الشاعر هيثم الانسجام بين الأقوال والأفعال؛ باطنه كظاهره، واضح كبسمة الطفل، وصادق كالحب، ووفي كقلب الأم؛ إنه إنسان عظيم، وشاعر أعظم.
ذات اتصال قالت عنه عزيزة شاعرة وناقدة: إن هيثم لو عاش في غير اليمن؛ لبرز أكثر شاعرية من كثير من الشعراء العرب الكبار في الشعر الحديث.
هيثم من مؤصلي القصيدة الحديثة. تجربته الرائعة لم تدرس بعد. ما كتبه عنه أستاذنا الدكتور عبد العزيز المقالح تحية طيبة، وتبشير بشاعر أروع من مؤصلي قصيدة التفعيلة في اليمن. واهتم الدكتور حاتم الصكر بتجربة هيثم، وقرأ الجوانب الإبداعية والخصائص المميزة لهذه التجربة الثرة. فهيثم رائد من رواد شعراء السبعينات، وهم الشعراء الأكثر حداثة والأعمق تجديداً وتواصلاً مع تيارات الحداثة والتجديد في قصيدة التفعيلة .
ارتبط اسم هيثم بالاتقان، وعمق المعرفة، والدقة في العمل، والإخلاص لرسالته كإداري وصحفي ومبدع.
كمبدع يقرأ اللحظة ويستوعبها، ثم يعيد الصياغة بصورة مغايرة واهباً لها الخلود. ففي قصيدته «توم هانكس» عن فيلم إنقاذ الجندي «رايان»:
“خذني إليهم..
خذني هناك..
حيث يدوزن الفتيان الشاحنات..
حيث يقضمون كمثراهم الدخانبة..
حيث يسيلون في الحفائر..
خذني إليهم..
ولا تتركني لأمجادهم..
يكفي أن أرى..
فالذين تمددوا صفوفاً هناك..
الذين ترمدوا في الرايات..
كانوا فكرتي عن المعنى..
خذني إليهم..
يا لقسوتهم!
لن يصلوا أبداً”.
المعنى الحقيقي عنده الفعل وليس اللفظ المجرد؛ وهو ما مثلته حياته كلها مجسداً القيم النبيلة التي آمن بها الشاعر. فالشاعر العظيم إنسان عظيم أيضاً، وهو معنى أن يكون شاعراً.
“في استدراكات الحفلة تتسع الرؤية؛ لتنعكس شمس الإمبراطورية في مراياه، ويتحول عطر المرأة المارة بجواره إلى نصل..
لا جياد للحفلة، ولا كائنات لمصاهرة النجوم. في النهاية يعرف أن العصا سبب وجيه لا قتراف الصواب، ولتنقية الجلد من غبار الكحول”.
هيثم رجل كبير وكثير جداً في مسلكه وفي علاقاته وفي مخيلته الواسعة. الحياة وشاعريته العميقة كالمحيط. كثير حبه للحياة والناس والإبداع، ومحبوه كثير أيضاً.
من يعرف هيثم لا يستطيع نسيانه، ومن يقرأ له يجله. لا قاع لصمته، لا ساحل لشعره، لاعدَّ لكثرته؛ إنه الكثير الأكثر مناً جميعاً.
في قصيدته «الحرب» يرسم خياله الزاكي صوراً ومشاهد غاية في البداهة، وآية في الإبداع.
“ثم امرأة وظلام مرفو بهواء يشتعل..
مائدة مثقلة بالنسيان..
كرسيان..
وموسيقى..
وستائر تحتفل..
لكن لن يأتي أحد هذه الليلة..
كل الفرسان حملوا الراية وارتحلوا.
(الأعمال الكاملة: ديوان مائدة مثقلة بالنسيان)، ص232.