بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي ،، الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (2-6)
بلال الطيب
أجاد غالبية الأئمة السلاليين فن تجميل التُقية، والتبرير لها، رُغم أنَّ مَذهبهم الهادوي يُحرمها، وكقارئ فاحص لماضيهم، تأكد لي ذلك بعد طول تتبع ودراسة، كنت أعتقد أنَّ مَقولة «يكذبون كما يتنفسون» حكرًا على أحفادهم الجُدد، إلا أنَّها كما تُشير الـمـَصادر التاريخية لصيقة بهم منذ مئات السنين، ومن يدري ربما تكون البند الخامس عشر غير المُعلن من شروط توليهم.
سنجر الشعبي
طوال فترة حكمه بادل المُظفر يوسف بن المنصور عمر إساءات الإماميين بالإحسان، وكان دائمًا ما يمد يده للصلح، ويسعى لوحدة الصف، رغم طعنهم إياه من الخلف! تعاملوا مع حزمه ولينه بخسة، نقضوا العهود والمواثيق، وسعوا بكل الوسائل لاختطاف الحكم والحلم، وكان عاقبة كذبهم وخداعهم – مَزيدًا من الذُل – مَزيدًا من الانكماش.
بعد مقتل المهدي أحمد بن الحسين بثلاثة أيام 2 ربيع الأول 656هـ / 8 مارس 1258م، أعلن أبو محمد الحسن بن وهاس الحمزي نفسه إمامًا، وهو أحد خاذلي الإمام الصريع، وأحد أبرز قادات جيشه، توجه إلى صعدة، وبايعه البعض، وخذله كثيرون.
نكث الشيخ الستيني الحسن بن بدر الدين محمد بيعته، وأعلن من رغافة صعدة نفسه إمامًا 25 شوال 657هـ / 14 أكتوبر 1259م، وتلقب بـ (المنصور)، والأخير من نسل الهادي يحيى، كان قليل الأنصار، مال عنه علماء مذهبه، وتخلى عنه بنو عمومته، ومَدحه الشاعر القاسم بن هُتيْمل – رغم ضعفه – بقصيدةٍ طويلة، جاء فيها:
إنَّ الإمــامة صـــارت من بني حسن
إلى إمـــامة هــــاد مـــن بني الـهـــادي
فخـم الأصـــــالة مشهور البسالة مر
ضي العدالة مثل البـدر في النـادي
خليــفـة طــــابــــت الـدنــــيـا بـــدولـته
فنـــحن في جُـمــعٍ مــنــــه وأعـــيـــــاد
الأمير صارم الدين داؤود بن عبدالله بن حمزة كان أيضًا من جُملة خاذليه، تلقب بـ (المنتصر بالله)، واستبد بالأمر دونه، ودارت بينهما حروب وخطوب؛ الأمر الذي دفع ابن وهاس إلى التذمر والشكوى، ومن أشعاره التي توضح مُعاناته، قوله:
إنَّ الشدائــــد مـــا مـــرت علـى رجل
إلا وكـــانت له في الـــدهر كـالسرج
وكلما امتـحنـت ذا فطــــنة حـجــج
كــانت له حجج ناهيك من حجج
أسره الأمير الرسولي أسد الدين محمد مرتين في حروبٍ سابقة، وأسره للمرة الثالثة بداية عام 658هـ / 1260م، في موقعة عصافر بحاشد، وهي معركة كانت بين الحمزات أنفسهم، أعطاه لصديقه الأمير صارم الدين داؤود، ليقوم الأخير بحبسه لعشر سنوات في حصن ظفار ذيبين، مُتنكرًا لصلة القرابة التي تجمعهما!
حدث ذلك بالتزامن مع فرض المُظفر يوسف سيطرته النهائية على صنعاء وضواحيها، جاعلًا عليها الأمير علم الدين سنجر الشعبي بدلًا عن ابن عمه الأمير المُتمرد أسد الدين محمد، التجأ الأخير إلى صارم الدين داؤود، وسانده في معركة عصافر السابق ذكرها، وحين اشتدت مُطالبة السلطان الرسولي له، تخلى أصدقاؤه عنه، فعاش طريدًا شريدًا، وكانت نهايته سجينًا في حصن تعز.
وفي العام التالي أعلن يحيى بن محمد السراجي من منطقة حضور في جبل النبي شعيب نفسه إمامًا، تلقب بــ (الناصر)، وهو ينتسب لسراج الدين أو السراجي من نسل زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قدم أبوه قبل عدة سنوات من العراق، كواحد من طامحين كثر جاءوا إلى شمال اليمن طمعًا في الحكم والزعامة.
كان الابن مُقدمًا عند أهالي صنعاء، حارب الرسوليين عام قيامه، فهزموه، هرب إلى بني فاهم في الحيمة، فأمسك به سكانها، وسلموه للأمير سنجر الشعبي، فكحل الأخير عينيه بنار حتى أعماه، مُسقطًا بذلك أحد شروط الإمامة عليه؛ وقد استاء المُظفر – كما أشار صاحب (العقود اللؤلؤية) من ذلك كثيرًا.
أيـن الإمام الأول؟!
لم تكن العلاقة بين الحمزات والرسوليين خلال تلك الحقبة هادئة؛ بل سادها كثير من التوتر، انقسموا إلى فريقين، فريق موالٍ بقيادة عز الدين محمد بن أحمد، وفريق مُعارض بقيادة عمه صارم الدين داؤود، سيطر الأخير على عدد من الحصون، وحاول أنْ يقيم حسن بن محمد القطابري الديلمي إمامًا، إلا أنَّ علماء الزّيدِيّة وأنصارها عارضوا ذلك وبشدة.
استغل المُظفر يوسف ذلك الانقسام، وعمل جاهدًا على استقطاب مُعارضيه، اشترى ولاء غالبيتهم، ثم سارع بتوجيه الحملات العسكرية للسيطرة على مُعظم مناطق وحصون المناطق الشمالية، وكانت نهاية الحمزات – بفعل تلك السياسة الحازمة – قاب قوسين أو أدنى، إلا أنَّ تصرفات واليه سنجر الشعبي المُـترددة حالت دون تحقيقه نصر حاسم.
حدثت أولى المواجهات العسكرية بين الجانبين في منطقة الحلق في الجوف، قريبًا من براقش 665هـ / 1267م، قتل الحمزات الأمير فخر الدين بكتمر القلاب ومن معه؛ الأمر الذي أغضب المُظفر يوسف، ليأمر بتوجيه حملة عسكرية قوامها 3,500 مُقاتل للسيطرة على الوضع، اجتازوا أودية الجوف، وهزموا على أبواب مدينة صعدة الحمزات هزيمة مُنكرة، وقتلوا بعض قاداتهم.
استعاد الحمزات بعد ذلك زمام المُبادرة، اتحدوا بعد انقسام، وأخرجوا من السجن قريبهم الحسن بن وهاس، وسيطروا على مدينة صعدة لبعض الوقت، ونجحوا في منع سقوط حصني ثلا، وظفار، وحين تبادر إلى مسامعهم استعداد المُظفر يوسف لجولة حاسمة؛ سارعوا من فورهم بالمطالبة بالصلح.
كانت الرغبة في إنهاء ذلك الصراع مُتوفرة عند الجميع، عقدوا صلحًا مدته عامين شعبان 668هـ / أبريل 1270م، قُسمت بلاد صعدة بموجبه إلى ثلاثةِ أقسام، نصف لصارم الدين داؤود، ونصف مُناصفة بين المُظفر يوسف وعز الدين محمد، وقد نجح الأخير في السيطرة على النصف الأول بعد حروب بينه وبين عمه، سقط فيها خلق كثير من الجانبين.
ما أن بدأت الدائرة تضيق على صارم الدين داؤود من قبل ابن أخيه؛ حتى سارع وحشد من علماء الزّيدِيّة بالتوجه إلى الحسن بن وهاس الذي استقر بعد خروجه من السجن في كحلان، صارحوه برغبتهم وإجماعهم على أن يتولى الأمر، إلا أنَّه رفض مطلبهم؛ وقيل أنَّ سبب اعتذاره رؤيا رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال له فيه: «يا حسن إذا لم تكن الإمامة كالشمس الشارقة، وإلا فليست بإمامة»، وقد عبر الشاعر الجبابي الكاتب عن ذلك قائلًا:
وإلى ابــن وهاس أتوا من فـورهم
مُستنهـضيـــن قيــامـــهُ فاستعجلوا
فـــأَجابـهم وإذا تكـــون عــظـيـــمة
نـدعى لـها أيــــن الإمـــام الأول؟!
ولـمـا فتـحـنا بيــت حنبص
بالعودة إلى أخبار المنصور الحسن بن بدر الدين، فقد كان هو الآخر ضعيفًا للغاية، انحصرت إمامته في منطقة رغافة، وفيها مات محرم 670هـ / أغسطس 1271م، عن 74 عامًا، ومن أشعاره التي توضح تطلعاته:
يا دار حـور العين مــــا صنعت
أحبابنا بـــاللوى، ومـا صنـعا؟
أرقــنـــي بعــد بيــنـهم وهـــنًا
بـرق علـــى عقـر دارهم لـمعا
وأيــن صنعاء مـــن رغـافة أو
قُطـابر بــعـــد ذا وذاك مـعا؟!
وفي غرة ذي الحجة من ذات العام 28 يونيو 1272م، أعلن إبراهيم بن تاج الدين أحمد من حصن ظفار الظاهر نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المهدي)، كان كثير الأنصار، عكس عمه الحسن بن بدر الدين، نقض الحمزات عهدهم مع الرسوليين، وتحالفوا معه؛ كونه نسبهم، فأمه قريبتهم، وتدعى زينب بنت عبدالله بن حمزة، وحين امتنع بعضهم عن مبايعته، عمد خاله صارم الدين داؤود إلى قائم سيفه، وأقسم بالله قائلًا: «لئن تأخر عن مبايعته أحد لأضربن عنقه».
تقوى بذلك أمر الإماميين – بشقيهم الحمزي، والهادوي – توجهوا بأكثر من 10,000 مُقاتل جنوبًا، حاصروا صنعاء لعدة أشهر، ودارت بينهم وبين الرسوليين عدة مَعارك، كانت الغلبة في مُعظمها للأخيرين، وفي منتصف عام 671هـ قامت المماليك الأسدية – مُقاتلو الأمير السجين أسد الدين – بهجوم ليلي مباغت على القوات الإمامية المُتمركزة في حدة، ونكلوا بهم شر تنكيل.
وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله صاحب (السمط الغالي)، وهو مؤرخ عاش تلك التفاصيل، وشارك في أحداثها مواليًا للرسوليين: «ثمّ أنَّ الأسدية نهضوا آخر ليلتهم تلك، وخرجوا لعسكر الأشراف، فقتلوا منهم خمسين قتيلًا، وجزوا رؤوس جماعة منهم، ودخلوا بها إلى صنعاء، فحينئذ سكن ما عند الناس من التخوف، وعلموا أنَّ الأشراف لا تأثير لهم».
وفي ربيع الأول 672هـ / سبتمبر 1273م، وحصار صنعاء على أشده، كانت موقعة بيت حنبص، وهي قرية تقع على سفح جبل عيبان، هُزم فيها الإماميون، وولوا هاربين، فأنشد الشاعر الرسولي غازي بن المعمار مُستهجنًا:
ولـمـا فتـحـنا بيـت حنبص عـنــوة
وجدنا بها الأدواح ملأ من الخمر
فـإن تكن الأشــراف تشــرب خفيةً
وتظـهر للناس التنـسك في الجهر
وتـأخذ من خـلع العــــذار نصيـــبها
فــإني أمير الـمؤمـنــيـن ولا أدري!
اصطلح بعد تلك المـَـعركة الطرفان، لينقض الإماميون بعد عامين ذلك الصلح ربيع الآخر 674هـ / أكتوبر 1275م، دخلوا صنعاء بـــ 7,000 مقاتل، بدعوة من المماليك الأسدية الغاضبين لمقتل أحد أقربائهم في جيش سنجر الشعبي، المُنشغل حينها ببعض المهام خارج المدينة المُهددة.
واصل الإماميون بعد نصف شهر تقدمهم صوب ذمار، إلا أنَّ المُظفر يوسف صد زحفهم في قرية أفق في عنس، هزمهم شرَّ هزيمة، وغنم أموالهم، وأسلحتهم، وظفر بإمامهم إبراهيم بن تاج الدين. اتهم الأخير أخواله الحمزات بخذلانه، وأنهم باعوه بعرض من الدنيا قليل، وقال عن ذلك شعرًا، نقتطف منه:
حتى إذا خـــان بعض الأهــل مـوثقه
وغـــــــره فضـــة السلطـــان والذهب
أبدى شقــــــاقًا وأخــفى منــــه معظمة
وجــــــاءنا لا مــــــن حيـــث نحتـسب
فـإن غلبـــــت فمــــا هـــــذا بـمـــبتدع
فكم بـهـــــاليل غــــلابـــــون قــد غلبوا
وبعـــد ذلك جــــاؤوا بـــي إلى ملــــك
لـــه الـمفـــــاخر والعــليــــــاء مكتسب
فلتـــشــكروه فـأني اليــــوم شـــاكره
ســرًا وجهــرًا، وهـذا بعض ما يجب
في قصيدته الطويلة التي مدح فيها المُظفر يوسف، لم يشر الشاعر الزيدي القاسم بن هُتيْمل لذلك، تحدث عن مواجهة حقيقية حدثت بين الجانبين، وعن هروب مُخز للطرف المهزوم، ناقلًا تفاصيل المعركة بأسلوب بديع، كيف لا وهو شاعر عصره القائل:
لاقى بنــــو الهــادي وحمزة ضعف ما
لاقـــت سليـــم بـجانــب الــثــــــرثــــار
طلبـوا ذمــــار فـــــرد سعــــدك ذالـهـــا
دالًا وأي هـــــزيــــــمــــــةٍ ودمــــــــار
حفــــوا بـــــسـيـــدهم فلـــــمـا أيقـنــوا
بالمــــوت طـاروا عنـــهُ كــل مـــــطـــار
فـأســرتهُ مُستــــــبـسلا وحــــفــظتـــــهُ
شـــرفًا بأَفـــضـل حـــــوطةٍ وجـــــوار
ولـــو أنَّ غيــرك يـا مظــــــفر صـــــاده
لــكســاه ثــوبـــــــي ذلــــــةٍ وصـــغار
اقتيد الإمام الأسير صوب مدينة تعز – حاضرة بني رسول الزاهية – لتسقط بأسره إمامته، أكرمه المُظفر يوسف أيما إكرام، وأحسن مُعاملته، واحتجزه بحصن تعز (قلعة القاهرة) جوار الأمير المُتمرد أسد الدين محمد، وكانت وفاته بعد وفاة الأخير بسبع سنوات صفر 683هـ / أبريل 1284م، ودفن بمقبرة الأجيناد، وفي نهاية ذات العام كانت وفاة الإمام الحسن بن وهاس.
قال المُؤرخ الخزرجي عن الإمام إبراهيم بن تاج الدين: «كان من الشجعان المشهورين، والفرسان المذكورين»، ونقل عنه شعرًا حسنًا يصف فيه أسره، ويعتذر فيه للمُظفر يوسف، جاء فيه:
خطب أَلــم فـأنســاني الـخطـوب معا
وصــيــر القــلب في أحشــائـــه قطعا
حتى إذا جـاء مـــن خلفي ومن قبلي
عســـاكر حـمـلـــوا الأنصــاف والقطعا
وأمسكـوا السيف من خلفي مغادرة
والـرمح قــد أمسـكـوه والـجــواد معا
ثـــم انــتهــيـت إلى ســـوح بــهِ ملك
يــحـل بيـتًا مـــن العـــليـاء مرتـفـــعا
فجـاد بـالعــفـــو والإحســان شيــمتهُ
ولم يــــزل للعلى والـجود مصطنعا