تزامنت مع مَعارك فك الحصار عن صنعاء *معركة استعادة حريب*
بلال الطيب
مَثَّلَ جَلاء قوات الاحتلال البريطاني من جنوب اليمن نقطة تحول فارقة في توازن القوى؛ فهو من جانبٍ حَرمَ الإماميين من شريان حيوي هام كان يَمُدهم بالمال والسلاح، وَرفع من جانب آخر – وهو الأهم – معنويات المُقاتلين الجمهوريين، المُدافعين عن صنعاء، وحفَّزهم أكثر على المُقاومة والصمود. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الدعم المعنوي؛ بل تعداه إلى الدعم المادي والعسكري، والذي تجسدت أبهى صوره في معركة استعادة حريب، التي تزامنت مع مَعارك فك الحصار عن صنعاء.
عقبة أبلح
كانت مدينة حريب من أوائل المناطق الجمهورية سُقوطًا، حيث قامت قوات إمامية تحت قيادة القاضي أحمد السياغي بالسيطرة عليها، وهي قوات مدعومة من قبل أمير بيحان حسين الهبيلي، المدعوم أصلًا من قبل الإنجليز، وما أنْ قامت طائرات الأخيرين بقصف مدينة البيضاء 15 أكتوبر 1962م؛ حتى توجه الرئيس عبدالله السلال إلى رداع، وأشرف بنفسه على إرسال حملة عسكرية وشعبية قوامها 15,000 مُقاتل، تحت قيادة وزير الإعلام علي بن محمد الأحمدي.
وبدعم من الإنجليز أيضًا، فتح الإماميون جَبهة أخرى، مَسارها من جبال مُريس إلى قعطبة، إلا أنَّ الجمهوريين تَداركوا ذلك الخطر، وكبحوه في مهده، وتولى الملازمان أحمد الكبسي وعلي الضبعي قيادة تلك المهمة، وتحول هذا المحور – فيما بعد – إلى محور دعم وإسناد لثوار الجنوب.
وردًا على ذلك التدخل الإنجليزي السافر، أصـدرت القيادة في أواخر الشهر التالي (نوفمبر 1962م)، بيانًا رسميًا اتهمت فيه بريطانيا بالتآمر ضد الجمهورية العربية اليمنية.
وبالعودة إلى ذكر حملة حريب، فإنَّه وبِمُجرد وصولها إلى عقبة أبلح، تعرضت لكمين إمامي غادر 5 ديسمبر 1962م، وسقط قائدها علي الأحمدي – على يد أحد أبناء قبيلته (قيفة) الذين تم شراء ولائهم – شهيدًا، وقد ساد بعد استشهاده الهرج والمرج، وتسلل عُملاء الإنجليز إلى صفوف الحملة، وتفرق شملها.
كلفت القيادة بعد ذلك الشيخ أحمد عبدربه العواضي بتدارك الأمر، وكان الأخير قد توجه ومعه عددٌ من مشايخ البيضاء ومُراد – خلال الأيام الأولى للثورة – إلى صنعاء، وقاد بمساعدة بعض أولئك المشايخ الحملة الثانية إلى حريب، وتمكن بالفعل من السيطرة عليها، إلا أنَّ الإماميين سَريعًا ما استعادوها، واحتفظوا بها لثلاثة أشهر أخرى، وتحديدًا حتى السابع من مارس 1963م.
تقوى بعد مرور عامين الجانب الإمامي، وبدأ الأمير الشاب محمد بن الحسين هجومه على الحاميات الجمهورية المُتواجدة على طول الخطوط الرئيسية ما بين الحز، وبرط، ومأرب، وحريب، فلجأت القوات الجمهورية إلى الطيران، وأسقط الإماميون أحدها، وتوجوا – أي الإماميين – انتصارهم بالسيطرة على حريب 10 مارس 1965م.
وفي الشهر التالي قطع الإماميون بقيادة الأمير عبدالله بن الحسن طريق صنعاء مأرب، ثم سيطروا على صرواح 24 مايو 1964م، وسيطروا في اليوم التالي على مأرب، أما جحانة فقد سيطروا عليها بعد قتال شديد 24 يونيو 1965م، وبدأوا يمهدون لحصار صنعاء.
دعم بريطاني
بعد نجاح الثورة السبتمبرية المجيدة 26 سبتمبر 1962م، تحول الإنجليز إلى داعم رئيس للإمام المخلوع محمد البدر، وتجاوز دعمهم التأييد السياسي إلى فتح مُعسكرات خاصة داخل الأراضي الجنوبية لتدريب القوات الإمامية، بالإضافة إلى تجنيد عددٍ من المُرتزقة الأجانب لذات الغرض، وهو الدور المشبوه الذي رعته إلى جانب بريطانيا دول أخرى، كأمريكا، وفرنسا، وإسرائيل.
قام عضو البرلمان البريطاني المحافظ، والضابط السابق نيل بيلي ماكلين بزيارات مُتفرقة إلى اليمن، وإلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإمامية تَحديدًا، وذلك بدءًا من شهر أكتوبر 1962م، وبترتيب من قبل تريفاسكيز (أحد المسؤولين البريطانيين في عدن)، الذي بدوره نسق له مع حاكم بيحان حسين الهبيلي، ووصل – أي ما كلين – خلال إحدى زياراته إلى القُرب من مدينة صنعاء، وكون بنفسه فكرة عامة عن سير المعارك، وشاركه ذات المهمة الكولونيل ديفيد سمايلي، وقد قام الأخير بأول زياراته إلى اليمن في منتصف العام التالي، وتحدث عنها وعن زياراته التالية تفصيلًا في كتابه (مهمة في الجزيرة العربية).
وكان سمايلي قد التقى ماكلين قبل زيارته الأولى تلك، وقد خاطبه الأخير قائلًا: «ويوجد حاليًا – أي في منتصف عام 1963م – عددٌ من الفرنسيين، والبلجيكيين، من المُرتزقة السابقين في الكونغو. ولكننا في أمس الحاجة إلى المزيد».
وفي أواخر عام 1963م قامت إحدى دوريات الهليوكبتر المصرية بإلقاء القبض على شخص كان يسير مُتخفيًا في جبال بيحان، وتم العثور بحوزته على رسائل مُرسلة الى عددٍ من المُرتزقة، كان من المُفترض أنْ يُوصلها أولًا إلى الأمير عبدالله بن الحسن، ولم يمض من الوقت الكثير حتى تم الإعلان عن وصول 12 مرتزق بقيادة الضابط الامريكي الرائد بروسكند، فيما استمرت عملية التجنيد في لندن، وتل أبيب، وعدن، وباريس، ومن الأخيرة وصل المرتزقة ميشيل المجنون، وشرام، وبوب دينار، وفولكس، وقد وصل أجر الجندي الواحد من 400 إلى 500 جنيه إسترليني في الشهر.
وتأكيدًا لما سبق، ذكرت إحدى التقارير أنَّ نيل بيلي ماكلين توجه لذات الغرض إلى تل أبيب، والتقى موشي ديان، ورئيس جهاز الموساد أميت مائير، وقد شمل الإنزال الإسرائيلي الأول الذي حضره الميجور جون كوبر (قائد معسكر المرتزقة) حوالي 180 بندقية، و34,000 طلقة موزر، و72 قَذيفة مضادة للدبابات، و68 كيلو من الـمُتفجرات البلاستيكية.
وذكر اورين كيسلر – وهو كاتب ومُؤرخ أمريكي – في مَقالٍ له أنَّ الدعم الإسرائيلي تم بالتنسيق مع الـمُخابرات البريطانية، وأنَّ الدولة العبرية قامت وعلى مدى عامين بـ 14 عملية نقل جوي، عبر أكبر طائرة نقل خاصة بها Boeing C-97، وأفاد أنَّ إحدى عمليات الإنزال تمت ليلًا، والإمام محمد البدر مُجتمع ببعض المشايخ 26 مايو 1964م، وحين رأى الأخيرون ذلك، خاطبوا بعضهم: «انظروا.. حتى الله يُساعد الإمام!!»، وأضاف كيسلر: «واستكملت عمليات النقل الجوي بنشر عملاء مخابرات الموساد الذين تم القبض على أحدهم من قبل اليمنيين، وتم تسليمه إلى مصر..».
وقد تنامى الدعم البريطاني أثناء الإعداد لحصار صنعاء، حيث تكفل الإنجليز بتسليح حوالي 20,000 من أبناء القبائل الشمالية، إلى جانب مُساعدتهم في إنشاء مدرسة لتدريب القوات الإمامية في منطقة برط العنان، فيما شارك عدد من ضباطها في مهمة التدريب.
قام ديفيد سمايلي بزيارة مقر أولئك الضباط مارس 1967م، وقال عن زيارته تلك: «وقررنا أنْ أصطحب ماكلين وساندز بالسيارة حال وصولهما، وذلك إلى مقر قيادة البريطانيين في العنان، وأنْ أريهم مدرسة التدريب، ويستطيعان قضاء الليلة هناك».
وشارك سمايلي وماكلين بعد ذلك في وضع خطة حصار صنعاء التي أسميت بـ (الجنادل)، وقام جيم جونسون بفتح مكتب في لندن لاستقبال المُرتزقة من عدد من الدول، ومن ثم تجنيدهم وإرسالهم إلى جبال اليمن، وقد وصل عددهم إجمالًا إلى أكثر من 2,300 مُرتزق.
والأكثر خسة أنَّ الإنجليز استخدموا سلاحهم الجوي لصالح الإماميين أكثر من مرة، وقد تجسد ذلك التدخل السافر بصورة أعنف عند احتلال الأخيرين لمدينة حريب في المراحل السابق نقل تفاصيلها.
وليس من المُستبعد، كما أفاد جار الله عمر (أحد أبطال ملحمة السبعين يومًا المرموقين) أنَّ عملية الجلاء هي من دفعت قوى التخلف للإسراع في حصار صنعاء؛ بدليل قيام إحدى الدول العربية (لم يذكر اسمها) بإرسال وزير خارجيتها إلى لندن لحث الإنجليز على تأجيل انسحابهم، حتى تُحسم معركة صنعاء لصالح الإماميين، وقُدم ذلك المُقترح مشفوعًا بعرض تحمل تكاليف بقاء قوات الاحتلال في الجنوب فترة أخرى! غير أنَّ الإنجليز رفضوا ذلك العرض؛ تحت وطأة الخسائر الفادحة التي ألحقها الثوار اليمنيون بجنودهم.
المعركة الفاصلة
بالتزامن مع بدء حصار صنعاء الفعلي، وبعد بطولات مائزة يطول شرحها، تحقق جلاء الاحتلال البريطاني عن جنوب اليمن 30 نوفمبر 1967م، ووصلت الجبهة القومية إلى سُدة الحكم، وعلى الرغم من أنَّ حكومتها (حكومة الاستقلال) كانت تعاني من مخاض الولادة العسير، إلا أنَّها لم تغفل مسئوليتها الوطنية تجاه صنعاء المُحاصرة، حيث شكلت لجنة مركزية لدعم المُقاومة الشعبية، ودأبت على إرسال كل عون مادي وعسكري مُمكن.
والأكثر أهمية أنَّها – أي الجبهة القومية – أوفدت لجنة من قبلها إلى شمال اليمن، لمعرفة الأوضاع السياسية والعسكرية عن قُرب، وعن تلك اللجنة قال الشيخ سنان أبو لحوم: أنَّ السلطات في الجنوب أوفدت إلى الحديدة عبدالرحمن العبسي، وذلك في منتصف يناير من العام 1968م، ومعه عدد من الشباب، و25,000 طلقة شرفا.
في حين قال القاضي عبدالرحمن الإرياني أنَّ الأستاذ عبده عثمان هو من أقنع قادة الجبهة بتقديم تلك المساعدة، وأنَّ تلك المساعدة تكونت من 15,000 طلقة ذخيرة، و25,000 جنيه استرليني.
كما قامت الجبهة القومية بملاحقة العناصر التي كانت تدعم الإماميين، وتصفية من ثبت تورطهم، مثل العميل علي صالح فدامة 3 يوليو 1967م، وآخرين، وقامت أيضًا بإصدار البيانات السياسية الداعمة، وكان بيانها المُساند للمُقاومة الشعبية هو الأشهر 20 يناير 1968م، وأكد – أي البيان – أنَّ مرحلة جديدة من الكفاح الثوري بدأت، وإنَّ دعم المُقاومة الشعبية يُعد تصحيحًا لواقع الشمال، وتلبية لاحتياجات الجماهير الكادحة.
كما قامت الجبهة القومية بحشد المواطنين للانخراط في صفوف المقاومة الشعبية، وتحركت الجماهير في شوارع عدن بمسيرات غاضبة، وكان شعارهم بادئ الأمر: (كل شيء من أجل حماية صنعاء)، وبعد مرور شهر من بدء الحصار تحول إلى: (كل شيء من أجل فك الحصار عن عاصمة شعبنا التاريخية)، وكلاهما كانا امتداد لشعار: (الجمهورية أو الموت) الذي عَمَّ صداه الأرجاء.
وعلى ذات المنوال التحفيزي، أرسلت الجبهة القومية حوالي 450 من مُقاتليها للمُشاركة في ملحمة الدفاع عن العاصمة والجمهورية، لتتجسد مُساهمتها الفاعلة في ذات اليوم الذي فُك فيه الحصار عن صنعاء 8 فبراير 1968م، حيث قامت وحدتان من الجيش الجنوبي، والمليشيا الشعبية، مع قوة من الجيش الشمالي بالهجوم على القبائل الموالية للإماميين في المناطق الشرقية، وعلى حدود بيحان تحديدًا، واستطاعت خلال فترة وجيزة أنْ تحرر مدينة حريب، وتعيدها لأحضان النظام الجمهوري.
كما قامت الجبهة القومية بمعركة مسورة، ومدت المقاومة الشعبية فيها بالكثير من المُؤن والسلاح، وكُلف في الجانب الآخر قائد لواء إب بالتواصل مع قائد منطقة الضالع علي عنتر، وطلب العون بما هو متاح.
وهكذا حظي المُقاومين الشماليين بدعم إخوانهم الجنوبيون، وعبر جغرافيا كانت حتى الأمس القريب مُحتلة، وتقف إلى جانب عدوهم، عدو كل اليمنيين.