فَتش عن القبيلة
____________________
بلال الطيب
صِراع المركز مع الأطراف صراع مَرير، من يَغوص في تفاصيله كمن يَعبُر في حقل ألغام، عوامل كثيرة أدت إلى رفع وتيرته، وهي بِمُجملها لا تبتعد عن الجدلية المأساوية بين البداوة والحضارة التي تحدث عنها عبدالرحمن بن خلدون – عالم الاجتماع الشهير – في مُقدمته، مع اختلاف بسيط في المُسميات والتوصيفات، وهي الجدلية التي أعادت إنتاج كوارثنا السياسية، وقضت على حُلمنا، حلم (اليمن الاتحادي) وهو في مهده.
كلما واجه المرء في أحد الأقطار العربية ظاهرة تَستعصي التفسير المنطقي؛ عليه أنْ يعتمد على قاعدة (فَتش عن القبيلة)، هكذا قال الدكتور محمد جابر الأنصاري ذات قراءة، ثم مضى – أي الجابري – مُعللًا ذلك بأنَّ التحليل النهائي سيؤدي إلى إدراك آثار الفعل والمفعول القبلي القادر على التسلل إلى أي موقع من مَواقع النسيج الاجتماعي، والترسب في أعمق وأصغر خلاياه.
وعملًا بنصيحة الدكتور الأنصاري، أخذنا نُفتش عن القبيلة في مناطق اليمن الشمالية، ونبحث عن دورها في تاريخ اليمن السياسي، وكيف قوضت بنيتها التراتبية، وثقافتها التمييزية من بناء الدولة الحديثة، وكيف تعاملت مع الأخيرة كمُؤسسة ريعية، وكيف خلقت مَراكز قُوى داخل السلطة وخارجها، وكيف سيطرت على مكامن القوة، ومنابع الثروة، وأوجدت ما يُسمى بـ (هيمنة المركز)؟
وفي الوقت الذي أخذت فيه قرينتها (قبائل المناطق الجنوبية والغربية) طريقها إلى التفكك ببطء، مُواءمة للتطور البشري للمُجتمعات، استمرت هي – أقصد القبائل الشمالية – في امتهان صناعة الحرب، وابتكار آليات جديدة للارتزاق والفيد، والتوسع على حِساب القبائل المُجاورة، وفق منظور عصبوي تغلب عليه المصلحة الذاتية لا المصلحة الجامعة، ليأتي الحامل الديني المُتمثل بالمذهب الزيدي (الهادوي) ويزيد الطين بلة.
كان المذهب الزيدي في ظل هذا المُعترك الصاخب والمُتجدد عاملًا سِلبيًا وهَدامًا أيضًا؛ وذلك لأنَّه – كما أفاد الباحث فاروق عثمان أباظة – أدى إلى تكوين طبقة عليا ذات سيادة، كانت لها امتيازات مُعينة، فاقت ما لبقية الطبقات الأخرى، وأبرزت نَوعًا من الصراع الطبقي، كانت له مَساوئه الواضحة في المجتمع اليمني.
وأوجد المذهب الزيدي – وهو الأسوأ – فئة خَانعة، مُشوشة ومُغيبة عن حَاضرها، ومُستقبلها، ومُناصرة لهذا الإمام أو ذاك، لضمان – كما تعتقد – حياة أخرى باقية! وقد وقع أحد أفراد هذه الفئة الساذجة والمُغيبة – في منتصف ستينيات القرن الفائت – أسيرًا في أيدي القوات الجمهورية، وحين حَاول قائد تلك القوات إقناعه بأنَّ الثورة قَامت من أجل مَصلحته ومَصلحة كل اليمنيين؛ خاطبه قَائلًا: «إنني لا أشك بأنَّ الجمهوريين يُريدون بنا خَيرًا، ويريدون القيام بأعمال هامة، غير أنَّهم لا يضمنون لي إلا هذه الحياة الفانية، في حين أنَّ الإمام يضمن لي الحياة الباقية»، وتَأكيدًا لمقولته الصادمة، أخرج من جيبة قصاصة ورق، قال: أنَّها بخط الإمام، بَاعه فيها هذا الأخير قِطعة من تُراب الجَنة!
في نظريته التي استخلصها حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، أكد عبدالرحمن بن خلدون إنَّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة، وأضاف أنَّ غَاية العصبية غلبة الملك، وأنَّها – أي العصبية – إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شيء. وتبعًا لذلك – وجدت دولة الإمامة الزّيدِيّة في اليمن البيئة الخصبة التي تتفق وتطلعاتها غير المشروعة، وبمعنى أصح فَصَّلَها مُؤسسها الأول الطامح يحيى بن الحسين لتتناسب وخصائص وطبائع سكان هذا البلد المِضياف.
وبتوصيف أكثر دقة، قال بول دريش – وهو باحث بريطاني – أنَّ الأئمة لم يقبلوا أبدًا بشرعية الاستقلالية والحماية القبلية، إلا أنَّهم كانوا في المُمارسة يشذبون سياستهم لـمُجاراة حقائق الواقع المحلية الفارضة حضورها، وأضاف: «وللمُطالبة بسلطان أوسع يراهن السيد على الإمامة، أما غير السيد فلكي يحصل على نفوذ أكبر فإنَّه يساند الداعي للإمامة»، وخلص بول إلى القول: «ومع ذلك تبقى أمامنا حقيقة أنَّ الإمامة كما تبدوا لنا قادرة لا على إقامة دولة في بعض المراحل فقط، ولكن أنْ تكون شبه دولة ومُتممة واضحة للقبيلة، رغم معرفتنا أنَّ الإمامة والقبيلة لا يمكن فصلهما من الناحية التجريبية».
علاقة الإمامة بالقبيلة علاقة شَراكة أكثر مما هي علاقة سلطان برعيته، ودائمًا ما تكررت مُفردة (شركاء لا رعايا) في المادة التاريخية التي وثقت لتاريخ تلك الدولة، والأكثر أهمية أنَّ الأئمة أسسوا جيوشهم على أساس قبلي محض، ومن همدان (حاشد، وبكيل) تحديدًا، من كان يطلق عليهم (أبناء ألأنصار – أنصار الله – أنصار الحق)، وذلك خِلافًا للدول التي قامت في مناطق حمير، ومذحج، وكنده، التي أسست جيوشًا مُحترفة، ومُؤسسات حُكم؛ ولذلك تعزز الطابع الحربي عند القبائل الشمالية، وضعف عند القبائل الأخرى.
كانت همدان وما تزال هي القوة الأكثر أثرًا وتَأثيرًا، تجاوزت في مراحل مُتفرقة إطارها الجغرافي المحدود، سواءً باتباع سياسة الضم والإلحاق، أو باتباع نظام المُؤاخاة، ويُعني بالأول السيطرة على المناطق المجاورة بشكل كلي، كما حدث مع مَنطقة الجوف قبل 14 قرنًا، والتي قال عنها الحسن الهمداني في (إكليله): «كانت الجوف من مَواطن مذحج، فأجلتهم همدان»، أو بشكل جزئي كم حدث مع بعض مناطق اليمن الوسطى، وعلى مرحلتين مُنفصلتين، ومراحل ثانوية مُنفصلة لم يتعمق المُؤرخون في ذكر تفاصيلها.
حدثت المرحلة الأولى في عهد الدولة القاسمية، وذلك أثناء الصراع المرير بين المنصور الحسين بن المتوكل القاسم (توفي عام 1161هـ / 1748م)، وأخيه أمير تعز أحمد بن القاسم، حيث جَيَّش الأول قوات قبلية جلها من بكيل 1158هـ / 1745م، بقيادة الشيخ هادي بن علي حبيش، وأمرها بالاستقرار في أطراف مدينة تعز؛ وذلك منعًا لأي حركة تمرد قد يقوم بها ذلك الأمير، وما تواجد بيت السفياني، والبرطي، والبحر، وحبيش في تلك المناطق إلا امتداد لذلك التواجد.
أما المرحلة الثانية فقد كانت في عهد المهدي عبدالله بن المتوكل أحمد (توفي عام 1251هـ / 1835م)، وكانت في الأصل بسبب المجاعة الكبرى التي حدثت سنة 1238هـ / 1823م، وشملت معظم المناطق الشمالية، وأجبرت أبناء قبيلة برط البكيلية على الخروج خرجة رجل واحد، كبارهم وصغارهم ونساؤهم مُتشكلات بأشكال الرجال، حد توصيف المُؤرخ المجهول صاحب (الحوليات)، الذي أكمل ذلك المشهد بقوله: «وحطوا على أبواب صنعاء، ونهبوا، وقتلوا؛ فلما علم الإمام – يقصد المهدي عبدالله – خُبث نياتهم، وطلبوا من الغلبات التي لا يسعها المعقول، وما هم فيها، وإنما يريدون اليمن – يقصد إب – فتصاغى عنهم، وكتب إلى جميع الجهات بالاحتراس منهم، فعزموا اليمن، وذلك بغيتهم يجعلوها وطنًا».
كان أولئك البرطيون قد تألفوا أراضي إب الخصبة في غزوات لهم سابقة، إلا أنَّهم بعد هذا الاجتياح، استوطنوا، وتزوجوا، وتمشيخوا، ونسوا بلادهم، واستولوا على الحصون العالية، والأراضي الخصبة، وأسسوا ما يشبه الدولة المُستقلة.
رافق ذلك قيام بعض أئمة الدولة القاسمية بتوزيع قطاعات كبيرة من تلك الأراضي الخصبة لمشايخ بكيل الموالين لهم، وهو ما عُرف بـ (نظام الإجبار) التابع أصلًا لنظام الظم والإلحاق السابق ذكره، وقد نشر الشيخ سنان أبو لحوم – مثلًا – في مُذكراته صُورة لوثيقة قديمة تُؤكد ملكية أسرته لجبل وراف، سبق أنْ أعطي – أي ذلك الجبل – لأحد أجداده من قبل المهدي عبدالله، الإمام السابق ذكرة.
أما نظام المُؤاخاة فيُعني به: انسلاخ بعض القبائل الحميرية والمذحجية المُجاورة عن كيانها، وقد عدد فضل أبو غانم أسماء تلك القبائل المُنسلخة قَائلًا إنَّ سنحان، وبلاد الروس، وحبور، وحجور الشام، انضممن إلى حاشد، والحيمة الداخلية، والحيمة الخارجية، والحدا، وقيفة، ومُراد، وحجور اليمن، وبني حشيش، وبني الحارث، وخولان، وآنس، والرياشية، والسوادية، انضممن إلى بكيل.
وأضاف أبو غانم: «ظل العنصر السياسي القبلي في اليمن يحتل نفوذًا قويًا، ويَلعب دورًا مهمًا في تحديد السياسة العامة للدولة اليمنية التي حكمت اليمن في الماضي والحاضر؛ حيث كان يعز على القبائل اليمنية أنْ تتنازل عن استقلالها السياسي من أجل الاندماج الكامل في المملكة القومية الواحدة».
الأرض المُجدبة تصنع البداوة، والأرض الخضراء تصنع الحضارة، والبادية الحاكمة تُنتج السلطة ولا تنتج الحضارة، على اعتبار أنَّ الذين يحكمون لا ينتجون، والذين ينتجون لا يحكمون، وعلى وقع هذه الجدلية التاريخية المُتجذرة، والمُتجددة، أبدع الإماميون وبَدَّعوا في الاستيلاء على البلادِ، وتَقَاسُم ثرواتها، ومُعاملة أبنائها مُعاملة العدو المُنكسر، لا المواطن الشريك في الخير والحياة، وفشلوا في إدارتها؛ لأنَّ مشروعهم قائم في الأساس على السيطرة والاستحواذ، لا الإدارة والحكم، وحالوا دون استقرار المناطق التي لم تخضع لحكمهم؛ لأنَّ ديدنهم الانتقام من مُخالفيهم، والتلذذ بمعاناتهم.
الدولة المُرتبطة بالقبائل – كما قال بول دريش – تُعجل بلحظة فنائها عندما تلتزم تلك القبائل البقاء في أماكنها، لكنها تزدهر عندما تقود تلك القبائل ضد الأطراف، أي المناطق الأكثر ثراءً. وهو ما فعلته الإمامة الزيدية طيلة القرون الفائتة، وبمراحل مُتفاوتة، ومن هنا برزت تسمية (المركز المُقدس)؛ على اعتبار أنَّ غالبية من حكموا اليمن خلال تلك المدة الطويلة لم يتجاوزوا المُربع الشمالي، وهو الأمر الذي دفع الأستاذ أحمد محمد نعمان أنْ يقول عن صنعاء عاصمة اليمن التاريخية، أنَّها عصية القلب لا تُعطي ودها لحاكم من خارج مُحيطها.