تحية واجبة لمثقف وقانوني وأكاديمي مرموق

تحية واجبة لمثقف وقانوني وأكاديمي مرموق

 

محمد عبدالوهاب الشيباني

لم أزل أتذكر تماماً إعلان نتائج اختبارات الثانوية العامة في العام 1978م حينما كنت طالباً في الصف الرابع الابتدائي بمدينة تعز وحصل فيها أحد أبناء قريتي القريبين على ترتيب متقدم في أوائل الجمهورية في القسم الأدبي. كان وقتها ياسين سيف عبدالله طالباً في مدرسة الثورة الثانوية ذائعة الصيت، ويعيش برعاية خاله الراحل سلطان محمد سعيد – ضابط في الأمن العام وأديب معروف- وسكن في سنته الأخيرة مع مجموعة من طلاب قريته ببيت الحاج علي بالقرب من سينما سبأ في شارع التحرير الأعلى.

عُرف منذ وقت مبكر بشغفه القرائي ،وأنه كان يشتري الكتب والمجلات من دخله البسيط، وقال لي أحد الأصدقاء ممن تشارك معه السكن في تلك الفترة أن ياسين أهداه مجموعة من أعمال محمد عبد الحليم عبد الله الروائية، وأهدى أشقائه الصغار كتب مصورة ومطبوعات تتصل بتكوين الطفل.

لم تكن حياة الشاب ياسين سيف سهلة، بل سلسلة طويلة من المعاناة والعمل في أكثر من مهنة عادية في تعز والحديدة، غير أنه بصنيعته هذه انتج مثالاً ناصعاً للمثابرة والكفاح.

في سنواته الأربع التي قضاها طالباً في كلية الحقوق بجامعة القاهرة قدَّم نموذجا ساطعاً للطالب المجتهد والمثابر، وجاء ترتيبه الثاني على دفعته .. قال لي صديق وقريب أنه وقت إعلان النتائج صاح طلاب الدفعة بصوت واحد (كوسه .. كوسه) تعبيراً عن استيائهم من النتيجة، التي كانوا يجزمون أن على رأسها هو زميلهم الطالب اليمني ياسين سيف الدين( كما كانوا يطلقون عليه) وليست الطالبة المصرية التي كانت تمت بصلة قرابة لأحد النافذين في الكلية وقتها.

 

قال لي ذات الصديق أن ياسين كان في كل عطلة صيفية ينتقل من القاهرة إلى مدينة جده للعمل بمعرفة أقرباء وأصدقاء له في المحلات التجارية ،وأحيانا في المطاعم لتوفير مصاريف اضافية لدراسته الجامعية، وروى لي صديق ثالث حكاية طريفة وهي: أنه في العام 1980 وصل إلى مدينة جده ولم يكن قد حصل على عمل بعد، وأثناء تواجدهما في قهوة شعبية في منطقة جدة البلد سأل ياسين صاحب المقهى اليمني إن كان باستطاعته أن يجد عملاً لديه، ومن باب المزاح قال له “بكِّر بدري”، فتفاجأ صاحب المقهى بالطالب الجامعي الأنيق قد جاءه باكرا، وكان يظن أنهما كانا يمزحان !

عاد في العام 1982 إلى صنعاء هذه المرة لأداء خدمة الدفاع الوطني، بعد أن تواجد فيها طفلاً أواسط الستينات حينما رافق خاله عبدالله محمد سعيد حينما كان يعمل فنياً في مصنع الغزل والنسيج .

 

أدى خدمة الدفاع الوطني في دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة وعمل محرراً بصحيفة 26 سبتمبر، وكان يمتلك حسَّاً صحافيا وذائقة أدبية رفيعة، وكان ينشر مواد وتحقيقات متنوعة بلغة سلسة، قال عنه عبد الرحمن بجاش في صفحته ذات مرة:

“من الوهلة الأولى بدى مهنيا متميزا ، كنت اقرأ له تحقيقاته بشغف لا حدود له ، كانت مواده متميزة، وانا طباخ يمكنني أن اتذوق وأشهد للطباخة التي بجانبي ..على أية حال قليلون هم من يمكنهم أن يتساموا ويشهدوا للآخرين تميزهم وفي نفس المهنة … كنت أتوقع يومها أن يستمر في صحيفة 26 سبتمبر بعد أن سجل حضورا لافتا ..لكنه اختفى ، ليظهر استاذا جامعيا ..

قلت في نفسي أيامها :

هذا الرجل يدري أين يضع قدمه ”

قُبلت أوراقه في كلية الشريعة والقانون كمعيد في العام 1983وسرعان ما ابتعث إلى القاهرة من جديد للدراسات العليا ، وفي العام 1987 حصل على درجة الماجستير في (القانون العام والخاص ) بتقدير جيد جدا ، من كلية الحقوق بجامعة القاهرة. سنتان قضاهما مدرساً في الجامعة قبل تعيينه في الملحقية الثقافية بسفارة الجمهورية العربية اليمنية في القاهرة ومسئولاً عن مكتب الجامعة في القاهرة.

 

في مطلع العام 1992 خضعت والدتي لعملية جراحية ، ونصح الطبيب أن تستكمل علاجها خارج اليمن ، وبالمصادفة كان ياسين متواجداً في صنعاء لمتابعة بعض أعمال مكتب الجامعة بالقاهرة، فقام ابن خالتي المحامي عبد الكريم عبد الرحمن ( ابن عم ياسين) بالترتيب معه، ومن ساعته قام بالتواصل مع نائبه في القاهرة المرحوم عباس الجنيد لترتيب استقبالنا والقيام بالواجب ، وفي أبريل 1992 وصلنا القاهرة، بعد أن قام عباس بترتيب، كل ما يتصل بعلاج الولدة – حجز لدى الأطباء وتسكيننا في شقة في ذات العمارة التي يسكن بها-.

عاد ياسين بعد شهر تقريبا وتواصل بنا، واستضافنا في منزله، وقام بتنزيهنا أكثر من مرة داخل القاهرة وخارجها (في الأرياف)، ويوم سفرنا أوصلنا بسيارته إلى المطار, وكانت هذه الرحلة العلاجية هي التي عرفتني أكثر بياسين الإنسان والمثقف والإداري الناجح.

 

بعيد عودته النهائية من القاهرة في العام 1997 تولى العديد من المواقع الإدارية والأكاديمية في جامعة صنعاء وكلية الشريعة والقانون مثل المستشار القانوني لجامعة صنعاء 1997 -2000، ثم رئيسا لدائرة التطوير الأكاديمي 2000- 2002 ، وبعدها مساعدا لنائب رئيس الجامعة للشئون الأكاديمية 2003، فقائما بأعمال نائب رئيس الجامعة للشئون الأكاديمية 2004. وخلال هذه الفترة انتدب الى وزارة التعليم العالي فعمل مستشارا ثقافياً في سفارة اليمن بواشنطن 2004 – 2008.

 

عاد لعمله في الكلية من جديد، وفي العام 2012 تولى رئاسة قسم القانون الدولي العام حتى2015، وهي السنة التي انفجرت فيها البلاد برمتها. لتنتج حالة التشظى الكبيرة، وهي الحالة التي كان يحذر منها في كتاباته ومنشوراته القصيرة في صفحته.

بذكاء ونباهة كان يقرأ مالآت الحرب وأدوار الفاعلين فيها، وإلى أين ستفضي ماكيناتها باليمنيين. أصر على البقاء بالداخل متنقلاً بين العاصمة صنعاء القرية وصنعاء، ينصت لآلام الناس ويعبِّر عنها فيما يكتب ويقولرغم كل المتاحات أمامه للمغادرة إلى أي مكان في العالم.

أصدر خلال مسيرته المتنوعة الثرية العديد من الدراسات والأبحاث ذات الطبيعة القانونية، وصارت في أغلبها مراجع لا يُستغنى عنها عند الطلاب والباحثين والمختصين ومنها:

المحاكمة العادلة 2019، والنيابة العامة ودورها في حماية حقوق الإنسان 2019، الشرطة وحقوق الإنسان 2019 ،نصوص ومصطلحات قانونية باللغة الإنجليزية 2019 ،الإطار القانوني لمجتمع المعرفة 2004، الديمقراطية والفقر ، حالة اليمن 2004، دليل الى المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان في القانون اليمني والدولي ، 2002الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأثره على الاتفاقيات الدولية 1998، الأمن القومي العربي ، ونظم الأمن الإقليمية الجديدة 1997.مواجهة العدوان في القانون الدولي ، دراسة في مدى فعالية نظام الأمن الجماعي الدولي في ميثاق الأمم المتحدة ، 1997.

 

جمعتنا مع أصدقاء عديدين الكثير من اللقاءات والنزهات في صنعاء القديمة خلال ذروة الحرب وكان ياسين هو البوصلة الحقيقية في نقاشاتنا وتقييماتنا الفردية لما يجري ، وكان يكرر أن هذه اللعبة أكبر من الفاعلين البارزين فيها من أمراء الحرب وعصبياتهم المناطقية والايديولوجية، وأن هناك مخططاً مرسوماً بدقة لتفكيك اليمن، وفي كل عام يمضي من سنوات الدم والبارود كنا نكتشف ما يثبت تحليلاته العميقة، التي كان يربطها بحالات قريبة في أماكن مختلفة من العالم.

 

في مطلع 2022 غادرنا في رحلة علاجية إلى الأردن، وعاد بعد أشهر ثمانية إلى صنعاء، لكنه في منتصف أبريل 2023 غادر مرة أخرى إلى عمان للعلاج من جديد، حيث لا يزال هناك يتلقى العلاج وبرعاية من أسرته.

 

التمنيات لهذا الإنسان النبيل والأكاديمي المرموق والمثقف النابه بالشفاء والعودة إلى طلابه وأصدقائه و محبيه بصحة وسلامة.

 

 

المقال خاص بالمهرية نت وموجود على الرابط https://almahriah.net/opinions/835