ومدى السبعين يومًا قد رفضنا،،، يوميات الصمود (1-2)
بلال الطيب
ما أنْ اكتفى المصريون بحماية مثلث (صنعاء – تعز – الحديدة)، بخطة عسكرية أخذت اسم (النفس الطويل) مارس 1966م، حتى كثف الإماميون من استعداداتهم لإسقاط صنعاء. صحيح أنَّ القوات المصرية بدأت حينها بالاعتماد على بعض الوحدات العسكرية اليمنية، إلا أنَّها – أي تلك الخطة – أعطت بيت حميد الدين ومُرتزقتهم فرصة كبيرة لتركيز وتكثيف أنشطتهم بين صفوف القبائل.
السيل المُتدفق
عقد الإماميون – بعد ذلك – مُؤتمر الخزائن، ثم نقضوا اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت في 5 أغسطس 1967م، وجددت في 13 نوفمبر من ذات العام، وبدأت جحافلهم المُتوحشة قفزاتها من أقصى الشمال، وبالمال والسلاح والترغيب والتخويف استطاعوا الدخول إلى مناطق يمنية عديدة.
في البدء سقطت صعدة 17 نوفمبر 1967م، ثم حُوصرت حجة، ورويدًا رويدًا بدأ الخطر يقترب من مدينة صنعاء. وكم من منازل – أثناء ذلك التوغل الوحشي – نُسفت، وكان أقساها نسف بيت العربة في منطقة الأهجر، حيث قضى أكثر من 23 فردًا مصرعهم تحت الأنقاض، كان مُعظمهم من الأطفال والنساء.
تكفل بِوضع خُطة الهجوم الإمامي التي أسميت بـ (الجنادل) – أي السيل المُتدفق – عددٌ من كبار القادة العسكريين الأجانب، كان يُطلق عليهم (المُغامرون في حرب اليمن)، وعلى رأسهم مُستشار البدر الجنرال الأمريكي بروس كندي، أطلق الإماميون عليه اسم (عبدالرحمن)، وأعطوه رتبة لواء، وكان معه في تلك المهمة الخبير البريطاني الكولونيل ديفيد سمايلي، ونيل بيلي ماكلين، والميجر (الرائد) بنكلي، وبينارد ميلز، والإيراني الميجر محمود، والفرنسي بوب دينار، والأخير صاحب شعار: (وكانت هنا جمهورية).
تلخص هدف الجنادل في السيطرة على العاصمة من خلال حرب سريعة وخاطفة لا تتعدى الأيام الأربعة، تُمهد بقطع طُرق الإمداد والتموين، والانقضاض السريع على المواقع العسكرية، والضرب الشديد بالمدفعية الثقيلة، ومن ثم الهجوم من عدة محاور: محور جنوبي غربي بقيادة الأمير محمد بن الحسين، ومحور غربي بقيادة اللواء محمد عبدالله شردة، ومحور شمالي بقيادة الأمير علي بن إبراهيم، والأمير محمد بن إسماعيل، والشيخ عبدالوهاب سنان، ومحور جنوبي بقيادة الشيخ علي بن ناجي الغادر، والشيخ قاسم سقل، ومحور شرقي بقيادة الأمير محمد بن عبدالمحسن، والفريق قاسم مُنصر، ومع كل محور عدد من الخبراء الأجانب للتعامل مع الأسلحة المُعقدة التي لا يعرف الإماميون استخدامها، فيما كانت جميع هذه المحاور تحت قيادة وإشراف الأمير محمد بن الحسين.
تم حشد حوالي 70,000 من رجال القبائل، و10,000 جندي نظامي، وقيل أقل من ذلك، إلى جانب 2,000 جندي مرتزق، و300 ضابط مرتزق، وقيل أقل من ذلك أيضًا، وقد تم تجميع الأخيرين من بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وأمريكا، وإيران، والهند الصينية، وإسرائيل، والكونغو، وجنوب أفريقيا، وأشرف على قدومهم الفرنسي روجر فالك، والبريطاني جيم جونسون، وذلك بعد أنْ قام الأخير بفتح مكتب في لندن، وقام الأول بفتح مكتب في باريس لذات الغرض.
ولم تكتف بريطانيا بتجنيد المرتزقة وتسهيل مرورهم إلى جبال اليمن، فقد قامت بتسليح حوالي 20,000 من أبناء القبائل، وأذاع راديو لندن بعد مرور شهر من الحصار أنَّ الملكيين زودوا بأكبر صفقة سلاح قدرت قيمتها بـ 400 مليون جنيه استرليني، بالإضافة إلى المئات من سيارات الوانيتات السريعة الأمريكية الصنع.
معركة مصيرية
كانت التجمعات الجمهورية قبل حصار صنعاء مُفككة الأوصال، وما أنْ اقترب الخطر، حتى أخذت تتقارب وتتجانس، ولم يُترك للثرثرة السياسية مَجالًا، وطغى الشعور بالخطر على الجميع، الخطر على الجمهورية، والخوف على الثورة، ومكاسب الشعب، فالمصريون يرحلون ويستعدون لإجلاء قواتهم، والسعوديون يضاعفون من دعمهم للملكيين.
شعر الجميع حينها أنَّهم يخوضون معركتهم المصيرية من أجل المُستقبل، وفي سبيل التقدم الاجتماعي، والاستقلال الوطني، وضد التدخل الخارجي، وعلى الفور فُتحت المخازن، ووزعت الذخائر، وبدأ التدريب الميداني في ساحات المدارس، والمعسكرات.
كان الهجوم الإمامي الأول على جبل حِرْوَة القابع على البوابة الرئيسية التي تربط العاصمة بثلاث طرق رئيسية سنحان – خولان – بني بهلول، سارعت حينها قوات شعبية بقيادة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لاستعادته، بمساعدة مجاميع من قوات الصاعقة قادمة من مدينة معبر، انسحبت القوتان من شدة القصف، وهكذا تحقق للإماميين احتلال الجبل 24 نوفمبر 1967م، وقطع طريق صنعاء – تعز، وقد اتهم الشيخ الأحمر القبائل المحيطة بذلك الجبل بخذلانهم للجمهورية، وتنكرهم لجميع الاتفاقيات المُبرمة سلفًا.
تقدم الإماميون دون مُقاومة إلى مشارف صنعاء، وتمركزوا في دار الحيد، ودار سلم، وحزيز، وأرتل، لتُعطى في اليوم التالي الأوامر من الفريق حسن العمري للقوات المتواجدة في طريق الحديدة – صنعاء بسرعة الانسحاب؛ كي لا ينفرد بها الإماميون القادمون من ذلك الاتجاه، والأهم من ذلك تعزيز قوى الدفاع عن العاصمة من الداخل، وتضييق قُطر الدائرة الدفاعية، في خطة مغايرة لما حدث في مارس من العام 1948م.
تم سحب قوات الصاعقة بقيادة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب، والمظلات بقيادة النقيب حمود ناجي من جبلي القرن والمنار إلى داخل العاصمة 26 نوفمبر 1967م، وسحب كتيبة لواء الوحدة من بني حشيش إلى شمال مطار الرحبة، وسحب الكتيبة الثانية من لواء النصر بقيادة الرائد صالح ناصر الشقيري من البيضاء ورداع إلى جبل براش (شرق صنعاء)، والكتيبة الثانية من ذات اللواء من جبل النبي شعيب إلى تبة العرة لحماية المطار الجنوبي (ميدان السبعين حاليًا).
كما تم سحب مجموعة المقدم عبدالله دارس من برط للمُشاركة في الأعمال القتالية في المحور الشمالي للعاصمة، وسحب سرية أحمد بن سعد من مأرب، وإلحاقها بالحرس الجمهوري، وفشلت مُحاولة سحب لواء الثورة من محور ثلا – مسور؛ لأنَّ الإماميين قطعوا الطريق، وبقي ذلك اللواء في مكانه كنسق ثاني لمشاغلة العدو، ليتم نقل عدد من أفراد ذات اللواء بطائرة الداكوتا إلى موقع الاستاد الرياضي حاليًا، وكانت قوة احتياطية في سلاح المشاة.
وابتدأ الحصار
بدأ حصار صنعاء الفعلي صبيحة يوم 28 نوفمبر 1967م، بعد أنْ فَرض الإماميون سيطرتهم على مُعظم السلاسل الجبلية المُحيطة بمدينة صنعاء؛ الأمر الذي أكسبهم كثير من الميزات التكتيكية، ووفر لهم إمكانيات واسعة للحركة والمناورة، والأسوأ تمكنهم من نصب مَدافع صاروخية بعيدة المدى على قمم تلك الجبال، من عيار 181مم، ذات القوة التدميرية الكبيرة، والمُحرم استخدامها دوليًا، وقيامهم بقصف العاصمة المُحاصرة.
وهكذا، وبالتزامن مع مُغادرة آخر جندي مصري ميناء الحديدة، وطرد آخر جندي بريطاني من عدن 30 نوفمبر 1967م، تَعرضت صنعاء لقصف مدفعي من بيت بوس، وجبل عَيْبَان، وقد سقطت أولى القذائف على باب النهرين، ثم جَامع عقيل، ثم توالت القذائف – من ذات الاتجاه – على الإذاعة، والقصر الجمهوري، والكهرباء، وثكنات العرضي، ومخازن الجيش (قصر السلاح)، وقد أوقف القصف على الأخيرة حركة الإمداد والتموين العسكري تمامًا، وبرزت هنا تدخلات سُكان المدينة المُحاصرة في مُساعدة المُدافعين عنها، وعنهم.
وفي الجانب الآخر تولت المدفعية الإمامية المنصوبة على جبل الطويل – في بني حشيش – قصف الروضة، ومصنع الغزل والنسيج، والأحياء الشمالية للمدينة، ومدرسة المظلات، ومطار الرحبة، لتستخدم الطائرات مهبطًا صغيرًا جنوب العاصمة (ميدان السبعين حاليًا). وقد أحدث ذلك القصف الغادر خسائر كثيرة في الأرواح، والمباني، والممتلكات.
مَثَّل سُقوط جَبل عَيْبَان انتكاسة كُبرى للقوات الجمهورية، وقد شنت تلك القوات – في ذات اليوم الذي سقط فيه ذلك الجبل العتيد – هُجومًا مُضادًا بقيادة قايد قوات الصاعقة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب، إلا أنَّها لم تتمكن من استعادته، وعن تلك المعركة قال عمر الجاوي: «في ذلك اليوم قدمت الفئات في صنعاء جلَّ ما تقدر عليه من أجل الانتصار، فلقد قاتلت القوات المسلحة في التحام بالسلاح الخفيف، والمتوسط».
حدثت بعد ذلك عديد مُواجهات أعادت الثقة بالنفس، وفي نهاية الأسبوع الأول للحصار رَدَعَ الجمهوريون هجوم القائد الإمامي الفريق قاسم مُنصر 5 ديسمبر 1967م، وطردوا قواته التي اخترقت الدفاعات الجمهورية في سعوان، والحافة، ومُسيك، وظهر حمير، وقرية الدجاج، وهذه الأخيرة قريبة من مصنع الغزل والنسيج، وقد كانت تلك العملية أول نصر حققته القوات الجمهورية خلال تلك الملحمة.
سُميت تلك العملية بـ (معركة شعوب)، وكان للنقيب عبدالرقيب عبدالوهاب وقوات الصاعقة دور بارز فيها، وشهد بذلك قاسم مُنصر نفسه، وقد قامت تلك القوات بهجوم مُضاد، وتمكن عبدالرقيب عبدالوهاب من إفشال هجوم العدو، ومكث ثلاثة أيام في أحد المواقع يُقاتل كجندي.
كما كان للمقدم عبدالله دارس ومجاميع قبلية من برط دور مُكمل في تلك المعركة، احتل ذلك البطل تبة المطلاع، ورابط فيها حتى انتهى الحصار، وسُميت – تلك التبة – من يومها باسمه (تبة دارس).
وللشيخ سنان أبو لحوم رواية مُتصلة مفادها أنَّ النقيب محمد بن علي الرويشان ومجاميع قبلية مُرتبطة به شاركت أيضًا في دحر القوات الإمامية، ومن حارة مُسيك تحديدًا، وأكمل الشيخ سنان ذلك المشهد بقوله: «وفي صباح يوم 6 ديسمبر كانت الحرب على أشدها في سنحان، وكل القوات هناك بقيادة الفريق حسن العمري ونحن معه، وعندما بلغه هجوم قاسم منصر توجه العمري ونحن إلى شعوب، وأخرجنا الملكيين من المنطقة».
استفاد الإماميون في هجومهم ذاك من أشجار الإثل المُنتشرة خارج باب شعوب أيما استفادة، اختبأوا خلفها، وبين أحراشها، وطال تهديدهم من خلالها المُسافرين عبر مطار الرحبة، لتأتي أوامر القيادة العامة بإغلاق ذلك المطار، وقطع تلك الأشجار؛ حتى لا يتكرر استغلال الإماميين لها.
وفي اليوم التالي لردع هجوم الفريق قاسم مُنصر، انتقل الرئيس عبدالرحمن الإرياني وأغلب قيادات الدولة إلى مدينة الحديدة، بعد أنْ لاحقتهم القذائف الإمامية حيثما حلوا، وبدقة عالية؛ بل أنَّه وفي أحد الأيام سقطت في القصر الجمهوري 12 قذيفة، والرئيس مُوجود فيه، وما أنْ انتقل الأخير إلى منزل الشيخ محمد علي عثمان في بستان الخير، حتى كانت القذيفة الـ 13 في انتظاره، وقد تزامن ذلك القصف مع تصريح الناطق الرسمي للقوات الإمامية، والذي أمهل فيه سكان العاصمة صنعاء أربعين ساعة للخروج منها؛ مالم سيتعرضون للإبادة.
الجدير ذكره أنَّه وبالتزامن مع هُجوم الفريق قاسم منصر على شعوب، قام إماميون من خولان باحتلال جبل النهدين، وتحديدًا في اليوم الذي سبق ذلك الهجوم (4 ديسمبر 1967م)، ولم يمض يوم آخر على سيطرتهم تلك، حتى جُمعت مجاميع قبلية من حاشد وبكيل وحرروا الجبل، إلا أنَّ الإماميين عادوا – في أواخر ذات الشهر – وسيطروا عليه مرة أخرى، وهي السيطرة التي سنأتي على تناولها في الأسطر الآتية.
قاد بعد ذلك الأمير محمد بن الحسين مجاميع قبلية من الحيمتين، وبني مطر، وبلاد الروس، وسنحان، وآنس، وخولان، لغرض احتلال جبل عصر في المحور الغربي، وقد دارت معارك ضارية من عدة اتجاهات، وكان لقوات الصاعقة والمقاومة الشعبية والشرطة العسكرية دور بارز في صد ذلك الهجوم، ليقوم الطيران الحربي في اليوم التالي بضرب مجاميع إمامية غرب جبل عيبان، وقد قتل على إثر تلك الغارات عدد من المرتزقة الأجانب.
وفي المحور الشرقي، وعلى سفوح جبل نقم الأشم، دارت معارك شرسة بين القوات الجمهورية المُدافعة، والقوات الإمامية المُهاجمة، وحين تعاظمت هجمات الأخيرين، قام المُدافعون بتلغيم الثغرة التي يتسلل منها المهاجمون، وخسروا أثناء قيامهم بتلك العملية أحد زملائهم، ليلقى بعد أيام معدودة الشيخ الإمامي قاسم سقل مصرعة في تلك الثغرة 10 ديسمبر 1967م؛ وهو الأمر الذي أجل هجمات الإماميين في ذات المحورة لعشرة أيام.
الجدير ذكره، أنَّ الإماميين كانوا – كما أفاد سمايلي – يُرسلون خلال الحصار فدائيين وفرقًا للتخريب إلى شوارع صنعاء. وذكر المقدم عبدالواحد أحمد السياغي أنَّه وبالتزامن مع الهجوم الإمامي الأول، قام أفراد من قبيلة بني حشيش يستقلون دراجات نارية بإلقاء قنابل يدوية على المارة في سوق الملح، وباب اليمن، وقاع العلفي.
السياغي وبصفته أحد قيادات وزارة الداخلية حينها، أضاف أنَّ قوات الأمن سَارعت بإلقاء القبض عليهم، وذلك بعد أنْ تم احتجاز جميع الدراجات النارية في العاصمة المُحاصرة، وأنَّهم نالوا العقاب الرادع لهم ولمن تسول لهم أنفسهم الأمارة بالسوء القيام بعمليات تخريبية مماثلة.
دفاع ضيق
كانت الاستراتيجية الدفاعية للقوات الجمهورية، والتي لا يتجاوز عددها الـ 4,000 مُقاتل قائمة على مبدأ الدفاع الضيق، اللواء العاشر يُدافع عن الجانب الغربي، ويتمركز في سفوح جبل عصر، وبيت عذران، وعن الجانب الشرقي لواء العروبة مُشاة، ويحتل مواقع على تباب مُطلة على الوادي، وقرية القابل، ومُدعم بدبابات تي – 34، ولواء الوحدة مُشاة، ويحتل مواقع مُتناثرة في ذات المحور، وكتيبة من لواء النصر، وطلاب الكلية الحربية المدعومين بالمدفعية، ويحتلون مواقع في جبل نقم.
وعن الجانب الشمالي كتائب مدفعية ميدان سواحلي، وقواعد صاروخية بي ام 13 تحتل مواقع نيران في ذات المحور، بالإضافة إلى مجموعة أفراد من الأمن العام، وطلاب كلية الشرطة، وكتيبة المدرعات من اللواء الخامس، وكتيبة من لواء النصر مدعومة بدبابات، وعن الجانب الجنوبي مجموعة من الأمن المركزي، وفصيلة من قوات التدريب المهني.
فيما كتائب المظلات والصاعقة التي تجاوز عددها الـ 1,000 مُقاتل، كانت تَعمل باستماته كقوة ذات فعالية على كل الجبهات. ومُشكلة القوات الجمهورية مجتمعة تكمن في أنَّ أعدادها وإنْ مكنتها من حماية أبواب المدينة، إلا أنها تُقصر في إمكانية القيام بدور هجومي لدحر المتسللين الإماميين في معركة حاسمة، يضاف إلى ذلك أنَّها لم تكن ذات وحدات مُنتظمة، ومتكاملة، مما أدى إلى اختلال موازين القوى لصالح القوات الإمامية المعادية بنسبة 7-1.
في ظل تلك المُتغيرات العاصفة، كان لا بد من تماسك الصف الجمهوري أكثر، خاصة بعد أنْ تخلى عدد من الضباط الكبار عن مسؤولياتهم، وقيامهم برحلة الشتاء إلى القاهرة، ودمشق، وبيروت، وأسمرة، في البدء عُين النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب ذو الـ 25 ربيعًا رئيسًا لهيئة الأركان 10 ديسمبر 1967م، تحت ضغط وإلحاح كبيرين من زملائه الضباط ذوي الرتب الصغيرة، مع استمراره في مهامه قائدًا لقوات الصاعقة.
وتحت ذلك الإلحاح الشبابي أيضًا، أصدر القائد العام الفريق حسن العمري قرارًا بإعادة تشكيل القيادة العسكرية من عدد من الضباط ذوي الرتب الصغيرة، وفي شهادته على تلك اللحظة الفارقة، قال الملازم أول محمد صالح الحنبصي (أحد الشباب المُعينين): «أدركت القيادة السياسية وبحنكة وذكاء وخبرة القاضي عبدالرحمن الإرياني.. أنَّ إشراك شباب جيل الثورة من العسكريين المؤهلين عسكريًا، والتي ظهرت قدراتهم القتالية الميدانية طيلة خدمتهم منذ قيام الثورة المباركة هو الأقدر على تحمل المسؤولية في هذه المرحلة الصعبة، والذي يُعتبر الحدث الأكبر والثاني بعد ثورة “26 سبتمبر 1962″؛ بل المحك الأساسي لبقاء الجمهورية أو القضاء عليها، ويعتبر من أهم مراحل تاريخ النضال اليمني المعاصر».
وأضاف: «في ظل قرار التشكيل هذا، استاء بعض الضباط الأقدم، فمنهم من غادر صنعاء، ومنهم من احتجب في منزله، ومنهم من رفض تنفيذ أوامر رئيس الأركان، ومنهم من غادر البلد قبل صدور قرار التشكيل؛ لما ولد في نفوسهم من إحباط من سرعة تحرك القوة المعادية إلى قرب العاصمة.. ».
كما استبدلت حكومة محسن العيني المُستقيلة، بحكومة الفريق حسن العمري 21 ديسمبر 1967م، وذلك بعد ستة أيام من احتلال الإماميين لجبل الصمع، إلى جانب استمراره – أي العمري – في مهامه قائدًا أعلى للجيش، وعضوًا في المجلس الجمهوري.
كان الفريق العَمري قبل قرار تعينه بثلاثة أيام في منطقة المساجد، يشحذ همم القوات الجمهورية لبلوغ قمة جبل عَيْبَان، في مُحاولة ثانية وفاشلة لاستعادة الجبل، تولى الرد بنفسه من إحدى الدبابات على الإماميين الذين بادروه بضرب كثيف، فيما جنود آخرون سارعوا باقتحام الجبل، وحين بلغوا غايتهم تأخر الدعم، فأمر العمري الجميع بالانسحاب.
تلك اشكالية كانت تلاحق الرجل، ما أن يُتم نصرًا، أو يقود هجومًا – كما قال عمر الجاوي – لا يكمله، وقد انتقده لذلك كثيرون، من ضمنهم الشيخ سنان ابو لحوم، الذي قال: «مع تقديري لشجاعة العمري، هناك بعض أخطاء قد لا يكون له ذنب فيها، فقد كان يخرج صباح كل يوم يجمع الناس، وهم يلحقونه، وآخر النهار يركن عليهم ويعود؛ وهم يلحقوا به»، والخروج اليومي الذي عناه الشيخ سنان كان في الأغلب إلى تبة تقع جنوب العاصمة صنعاء، أسميت فيما بعد بـ (تبة العمري).
فيما يقول الصحفي المصري مكرم محمد أحمد: «في ساحة المعركة – كان العمري يقف جنديًا في الساحة، وفي مرات كثيرة اشتبك الرجل وحرسه في المعارك إلى جوار الجنود والضباط، كان ذلك يسبب الكثير من المشاكل للجيش، فرصاصة طائشة قد تصيبه في هذه الفترة الحرجة، فيكسب الملكيون قيمة واسعة، وقد يخلع ذلك تأثيره على سكان المدينة، تلك كانت رؤية الجيش، بينما كان العمري يُصر أن يتقدم الجنود وهم يحتلون جبل عَيْبَان – سبق أن تحدثنا عن هذه المعركة – ولكن العناد الذي هو سمة بارزة فيه كان يُمكنه من كسب النقاش في النهاية».
وفي ذات الصدد أشاد جار الله عُمر بزيارات العمري تلك، وقال: «ولقد كانت لزياراته المفاجئة تلك أثر إيجابي على معنويات المُقاتلين الجمهوريين، مثلما كان يحدث دائمًا في زياراته المختلفة التي دأب على القيام بها، وإن على عجل، وبدون تخطيط، وفي كل مرة كان يرى أنَّ الموقف يستدعي ذلك».
.. يتبع