الدكتور ياسين سعيد نعمان
سأل القاضي المتهم :
-مالذي دفعك إلى ارتكاب هذا الفعل المشين ؟
-لحظة ضعف سيدي القاضي !
-لحظة ضعف؟!! هذا المبرر
يستوجب مضاعفة عقوبتك . هذا هو الضعف الوحيد الذي يعاقَبُ بشدة .
-نعم سيدي ، ذلك لأن القانون أقوى أمام الضعفاء .
-يبدو أنك تجيد الفذلكة . حينما ارتكبتَ الجريمة كنت ضعيفاً أمام نفسك ، وقوياً أمام القانون ، وتجرأت عليه . ولذلك كان على القانون أن يبادلك القوة . والقانون لا يعنيه ضعفك أمام نفسك .
-سيدي القاضي الضعف هو الضعف ، وأنت ملزم من موقعك هذا أن تفسره لصالح المتهم .
-أنا ملزم أن أحمي المجتمع بالقانون !! القاضي ضعيف أمام القانون وقوي أمام نفسه ، وإلا فإن الدنيا سيسودها الخراب ..
-هل الرأفة في نظرك ضعف يا سيادة القاضي ؟
-الرأفة ينظمها المشرع في نطاق أشمل ، والقاضي يستدل بذلك في حكمه حينما لا يترتب عليها إسقاط حق الغير أو التفريط في أمن المجتمع . في الاستدلال هنا تكون الرأفة ضعفاً أو قوة .
الرأفة هي قوة القانون حينما يراد بها حماية المجتمع . وفي حالتك الوضع مختلف تماماً .-
ما هو وجه الاختلاف سيدي ، فأنا كأي مخلوق تملكني ضعف في لحظة ارتكاب الجريمة .
-وجه الاختلاف هو أن الذي يضعف أمام نفسه ليرتكب جرماً أو حماقة تؤذي المجتمع لا يراه القانون غير متمرد على قواعد السلوك التي ينتظم المجتمع في إطارها . هؤلاء هم ممن ينطبق عليهم قوله تعالى ” وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ” .
-ألم يكن سبب ضعفي سيدي هو أن هناك مشيئة الهية قد قررت مسبقاً أنني سأقوم بهذا الفعل .
-سبب ضعفك هنا ليس وراءه المشيئة الإلهية وإلا لَمَا كان هناك ثواب وعقاب ، المشيئة الإلهية تسمو بسمو غاياتها من جعل الانسان خليفة في الأرض ، ولذلك قال تعالى ( وهديناه النجدين) . السبب يعود إلى عدم قدرتك على منع الفعل الصادر عن نفس أمارة بالسوء .. هذه النفس تشتبك فيها ثنائية الضعف والقوة في وقت واحد .. ففي حين تفرض عليك ارادتها ، وتظهر أمامها ضعيفاً ، فهي في نفس الوقت تبعث فيك القوة لارتكاب الجريمة .
-ولكن هذه النفس الأمارة بالسوء أليست صناعة إلهية ؟!-
لاحظ أنك انتقلت هنا من الفذلكة إلى السفسطة .. نعم هي صناعة إلهية ، ولكن بمحتوى مختلف عما تفكر فيه . فكر في ما تقوله الآية : “خُلق الانسان هلوعا ، إذا مسه مسه الشر جزوعا، واذا مسه الخير منوعا ” .. ألا تحمل هذه الآية معنى يفيد بأن الانسان حر في اختياراته بما يترتب على ذلك من نتائج يكون هو مسئولاً عنها .
-أنا أختلف معك يا سيادة القاضي ، فالقدر خيره وشره من الله تعالى ..
-هناك قدر ، وهناك مقدر . والعلاقة بينهما تمثل ثنائية الخير والشر الملازمة لكل انسان . وهما قيمتان مكتسبتان من حقيقة أن الانسان إنما هو ابن بيئته .
-سيدي القاضي ما تقوله يجعلني أطالب بمحاكمة عادلة لست جديراً بها .
صدرت من القاعة همهمات ، أخذت تتصاعد بين مؤيد مؤيد ومعارض لطلب المتهم .
حاول القاضي أن يعيد قاعة المحكمة الى الهدوء لكن الأصوات التي تعارضه بسبب موقفه من “جبرية” الفعل البشري كانت طاغية على تلك الأصوات التي كانت تدافع عما اراد القاضي أن يهمس به وهو أن الانسان هو خالق أفعاله .
وعلى الرغم من أن القاضي لم يذهب بموقفه الى ذلك المدى الذي يمكن تصنيفه معه بانه ” قدري” أي ممن يرون انه لا شأن للمشيئة الالهية بالمطلق بأفعال الانسان ، فقد حاول أن يكون منزلة بين المنزلتين في جدال مع متهم حاول ان يستهين بالقانون مستعيناً بالسفسطة ، إلا أن أنصار “الجبرية” لا يقبلون الجدال فيما يعتبرونه حقيقة مطلقة.
وسط هذه المعمعة ، تدخلت شرطة المحكمة وطلبت من القاضي ان يرفع الجلسة تجنباً للصدام ..
وكالعادة انتصرت السفسطة على القانون مستعينة بوعي العامة ممن تصر أنظمة الاستبداد على بقائه مغلفاً بأحجبة من الوعيد وقليل لا يذكر من الوعد .