البحث عن السلام ,, جار الله عُمر (2-2)
البحث عن السلام
بلال الطيب
بعد سلسلة من الحوارات الحزبية، عُقد في البيضاء مؤتمرًا عامًا، أعلن فيه عن تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية فبراير 1976م، وذلك من اتحاد خمس قوى يسارية، هي: الحزب الديمقراطي الثوري، ومنظمة المقاومين الثوريين، وحزب العمل اليمني، واتحاد الشعب الديمقراطي، وحزب الطليعة الشعبية (بعث)، ودخل – كما أفاد جار الله عُمر أحد أبرز قياداتها – في بعض الفترات الناصريين والسبتمبريين، وحزب البعث العراقي، لتنسحب الأحزاب الأخيرة مُبكرًا، فيما بقى قوام الجبهة من فصائل اليسار.
بعض تلك التنظيمات كانت مُعترضة على الكفاح المسلح، وفي أوج تلك المُناقشات تبدل الهدف لتكون مهام الجبهة النضال بكافة الأشكال المتاحة والمُمكنة، وأنْ يكون الكفاح المُسلح شكلًا ثانويًا، وللدفاع عن النفس، وفي الأماكن التي يُوجد فيها القسر، ولقد هيأت اللقاءات الحوارية الجبهوية – كما أفاد سعيد الجناحي – تقاربًا بين وجهات نظر فصائلها، وتجسد ذلك التحاور في تشكيل لجنة تنسيق مُشتركة سُميت بــ (لجنة اليسار).
ساهمت الخطوات الوحدوية بين سالم ربيع علي، وإبراهيم الحمدي في التهدئة، اتفق الرئيسان على إلحاق عناصر الجبهة العسكريين بالجنوب، وكشف جار الله عمر عن لقاءات سرية جمعت قيادات من الجبهة مع الرئيس الشمالي، وأنَّ الأخير لم يجرؤ أنْ يُحول ذلك التقارب إلى سياسة مُعلنة، وأضاف: «كان الحمدي يخشى من بعض القوى الموجودة، خصوصًا وأنَّ محمد خميس كان لا يزال مُهيمنًا».
عاد الصراع عقب مقتل الرئيس الحمدي إلى سياقه المُعتاد، وشهد عهد خلفه أحمد الغشمي حالة من الرعب، والاعتقالات، والمُطاردات الرهيبة، لتنتقل لجنة اليسار بفعل ذلك إلى عدن، فيما واصلت التنظيمات اليسارية حوارها، واتفقت على تشكيل حزب جديد سمي بـ (حزب الوحدة الشعبية)، كان جار الله عُمر مسؤوله الأول في الشمال، باعتباره – أي الحزب – فرعًا للحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان جار الله أحد مؤسسيه أكتوبر 1978م، وأحد أعضاء مكتبه السياسي.
مع نشوب الحرب الشطرية الثانية فبراير 1979م، زادت حدة المواجهات الجبهوية، لتبدأ بعد إزاحة عبد الفتاح إسماعيل، وصعود علي ناصر محمد أبريل 1980م، جولة جديدة من المُواجهات، كانت الأعنف، وأصبح للجبهة ستة أهداف سياسية مُعلنة، كان أولها: «صيانة سيادة البلاد، واستقلالها الوطني، وذلك بتصفية كافة مظاهر وأشكال نفوذ قوى الاستعمار والإمبريالية، وإنهاء تدخل ونفوذ الرجعية السعودية، واستكمال السيادة الوطنية على جميع الأراضي اليمنية».
في تلك الأثناء عاد الخلاف السياسي القديم داخل الحزب الاشتراكي للنشوب من جديد، وذلك بين الطرف الذي يطالب بإيقاف العمل المسلح، ووقف الدعم عنه كُليًا، وبين الطرف الذي يُطالب بمواصلة الدعم للنضال المُسلح، على اعتبار أنَّه سينتصر في نهاية الأمر، ليعمل الرئيسان علي ناصر محمد، وعلي عبدالله صالح على التخلص من بؤر التوتر، اتفقا على قطع الدعم عن الجبهة، وإيقاف بث إذاعتها من الجنوب، ليقود الأخير حوارًا مع قادتها؛ على اعتبار أنَّ الخلاف اصبح شمالي – شمالي، صدرت صحيفة (الأمل) من صنعاء، واستمر مسلسل الاغتيالات، وعادت لغة الرصاص لتلعلع من جديد.
كان جار الله عُمر مُشاركًا في تلك اللقاءات التفاوضية، وعلَّق على التداعيات التي صاحبتها قائلًا: «كان لدينا رغبة حقيقية للوصول إلى السلام، ولكن الذي حدث أنَّ صنعاء لم تلتزم بأي اتفاق، وقد استمرت أجهزة المُخابرات في تصفية قيادات الجبهة الوطنية، حتى أنَّ عدد الذين قتلوا بعد السلام، وصدور العفو العام، كانوا أكثر من الذين قتلوا قبل ذلك».
عزا بعض المُراقبين استمرار عمليات الاغتيالات تلك لأذرع السعودية الخفية في جهاز الأمن الوطني، وحينما طالب جار الله عُمر الرئيس صالح التحقيق في قضية اغتيال عبد السلام الدميني، قال صالح بتلكؤ: «إنَّه حادث مروري»، وكان الأخير مُحرجًا من تلك القضية، ولم يستبعد جار الله أنْ تكون الواقعة قد تمت دون علمه، وأنَّه وضع أمام الأمر الواقع.
بعد ثلاثة أعوام من مُساندتها للنظام الشمالي، دخلت الجبهة الاسلامية (إخوان مسلمون، مشايخ قبليون) وبقوة على الخط مارس 1982م، ولولا ذلك التدخل الجبهوي المضاد، والمدعوم سعوديًا، ما رفعت الجبهة الوطنية راية استسلامها.
وفي المُقابل تحدث قياديون في الأخيرة أنْ تخلي الجنوب عنهم كان من أبرز أسباب هزيمتهم، واتهموا علي ناصر محمد، وعلي عبدالله صالح بالتآمر عليهم، ليقوم الأخير في 24 أغسطس من ذات العام بحل الجبهة، وهو ذات التاريخ الذي انتصر فيه المُتسلطون قبل 14 عامًا على أبطال ملحمة السبعين يومًا، مُعلنًا تأسيس المؤتمر الشعبي العام.
علي ناصر محمد ذو النزعة السلمية في صراعه مع الشمال، فجرها حربًا اهلية ضد رفاقه في الجنوب يناير 1986م، وأدخل بلاده معمعة صراع مناطقي حسمه الطرف الأقوى قبليًا، فيما توزع أعضاء الحزب الاشتراكي – من باقي المناطق – بين المُتصارعين، وقيل أنَّهم رجحوا كفة الفريق المُنتصر، وهو أمرٌ نفاه جار الله عمر، حيث قال: «الذي حسم الموقف هو الجيش والمليشيات التي قدمت من الضالع، وردفان، ويافع.. أما دور أبناء الشمال في هذه الأحداث فقد كان دورًا ثانويًا وجزئيًا لا يمكن احتسابه».
كان جار الله عُمر حاضرًا في معترك ذلك الصدام الدموي، مُنافحًا عن الجميع، ومُتنكّبًا – كما أفاد عُمر عبدالعزيز – دور المُصلح الاجتماعي السياسي الذي يتنقل من بيت لبيت، ومن حارة لحارة، وكم كان استثنائيًا في روحه النقدية الشفيفة، وفي حنكته السياسية الرائية لما وراء الآكام؛ ولهذا السبب حاول تقديم مخارج مُبكرة لتلك المحنة، ونادى بالديمقراطية كخيار ناجع لملمة الجراح، ولكن دون جدوى.
لم يكن استمرار حديث إعلام الفريق المُنتصر عن انتصاره عملًا سياسيًا صحيحًا؛ كون الهزيمة – كما أفاد جار الله عُمر – تجرعها الجميع، مُعتبرًا رفض هذا الطرف للمصالحة بالخطأ، مُعترفًا بأنَّه يومها لم يكن يراه كذلك، ولو حدث ذلك لكان انتصارًا حقيقيًا، لكنه للأسف لم يحدث؛ لأنَّ الكل كان مُتوترًا، والجراحات كانت عميقة، والنضج السياسي لم يكن كافيًا، ولولا تلك الانتكاسة ما انهزم الحزب الاشتراكي في حرب صيف 1994م.
وفي المُحصلة النهائية والمأساوية لم يكن اليساريون الشماليون طرفًا في الصراعات الجنوبية – الجنوبية، فتلك الصراعات كانت تقسمهم بين الرفاق المُتصارعين، ورغم ذلك أشاد جار الله عُمر بـسالم ربيع علي، وعبدالفتاح إسماعيل، وعلي ناصر محمد، وقال: «الثلاثة كانوا مُكملين لبعض، وكنا نود أنْ يقودوا العملية السياسية في البلاد إلى نهايتها»، وأكد أنَّ اغتيال سالمين، واستقالة فتاح كانتا أساس الأزمات والإشكالات اللاحقة.
أقدم علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض على الوحدة من مُنطلق عاطفي بحت مايو 1990م، وسط ظروف محلية ودولية فرضت عليهما تحقيق ذلك، على اعتبار أنَّها – أي الوحدة – كانت شعار النظامين، ومطلبهما التاريخي، افتقر الرجلان إلى حسن النية، والثقة بالآخر، ودخلا بعد أشهر عسل مَعدودة في صراع سلطوي، تاجروا من خلاله بأحلام البسطاء ومشاعرهم، ظلت الوحدة مرهونة ببقائهم، وظل كل طرف يتربص بالأخر، حتى اشتعلت الحرب، وسُفكت الدماء.
صاحبت قضية الوحدة مسيرة حياة جار الله عُمر النضالية، وكان فاعلًا أساسيًا في الحوارات التي سبقت تحقيقها، وفي صياغة دستورها، ووصفها – أي الوحدة – بالعمل التاريخي العظيم، وعدها أفضل حدث صنعه هذا الجيل، وأَّنَّه لا يمكن لليمنيين أنْ يعيشوا بسلام واستقرار وتنمية ورفاهية بدونها.
ودعا الجميع إلى التفريق بين السياسات الخاطئة، وذلك المكسب الكبير، مؤكدًا أنَّ التراجع عن تنفيذ اتفاقية الوحدة، وتشجيع خصوم الحزب الاشتراكي في الشمال والجنوب للانتقام منه، ساهم في تأجيج الصراع، مُعترفًا أنَّ الأزمة تداخل فيها العامل الشخصي، بالاجتماعي، بالسياسي، بالماضوي، بالمستقبلي.
لم يكن الطرف الأقوى مهيأ للقبول بالآخر كشريك حقيقي في صناعة القرار السياسي، كان مُستعجلًا في إخراج الحزب الاشتراكي من الحلبة؛ ولذات السبب لقي أكثر من 155 عضوًا من أعضاء الحزب مصرعهم، وحين اغتيل ماجد مُرشد يونيو 1992م، عقد الاشتراكيون في صنعاء اجتماعًا تشاوريًا عاصفًا، طالب يومها عارف الدوش (مصدر هذه الحكاية) بصوت مُرتفع بالقصاص، وحين حاول أحد الحاضرين إسكاته، أوقفه جار الله عمر (رئيس ذلك اللقاء)، وطلب من المُتحدث إكمال حديثه، وحين انتهى، خاطب الجميع بالقول: «نحن حزب مدني ديمقراطي، وإن حصل ما أنتم متشائمون منه، فستكون رؤوسنا قبل رؤوسكم، نحن لا نريد أنْ يغرق حزبنا في الجوانب العسكرية، فقد جربنا الاقتتال، وحسمنا الكثير من القضايا بقوة السلاح، ولكننا في الأخير خسرنا، وخسر اليمن».
وقال في موضع مُشابه، ردًا على بعض المُتحمسين: «القينا السلاح، ولا يمكن أنْ نعود إليه مرة أخرى، مهما كلفنا الأمر، لنخوض نضالنا السلمي، وثقوا أنَّ المُستقبل للعمل السلمي والديمقراطي، جربنا السلاح والقوة، ولم تزدنا سوى المآسي، وكلما خرجنا من حرب قادتنا الى أخرى».
انتهت الفترة الانتقالية بحدوث الانتخابات التشريعية إبريل 1993م، والتي كان جار الله عُمر عضوًا في لجنتها العليا، حل الحزب الاشتراكي ثانيًا في القائمة العددية التي لم يحسم أمرها، ورغم ذلك طالب جار الله قيادات الحزب بالانتقال إلى مُربع المُعارضة، إلا أنَّهم أصروا على الدخول في ائتلاف ثلاثي، وأسندت إليه وزارة الثقافة، لم يدم ذلك الائتلاف طويلًا، عادت الايدلوجيا لتطغى على المصلحة، وحضرت صراعات الماضي غير البعيد، وغابت الوحدة التي كانت حتى الأمس القريب تَجبُ ما قبلها.
بعد قيامه برحلة علاجية إلى الولايات المُتحدة الأمريكية، وزيارتين سريعتين إلى كلٍ من فرنسا والأردن، عاد علي سالم البيض إلى عدن أغسطس 1993م، وفيها آثر الاعتكاف للمرة الثالثة خلال أقل من عام، وهو الاعتكاف الأطول والأخير، ليُقدم في مُنتصف الشهر التالي مشروعًا إصلاحيًا من 18 نقطة، مُلخصًا مطالبه بـرفض سياسة الضم، والإلحاق، والإقصاء، مُعلنًا بدء الأزمة الحقيقة بين شركاء الوحدة.
في شهادته على تلك المرحلة، قال جار الله عمر أنَّ الناس تجاوبوا حينها مع الحزب الاشتراكي؛ لأن النقاط الـ 18 قد نجحت في مُخاطبة وجدانهم، وألمحت الى مصالحهم الحقيقية المُفتقدة، كما تضمنت مُقترحات للكيفية التي يمكن بواسطتها حل العديد من التناقضات الاجتماعية والسياسية المزمنة، التي ظلت تتراكم عقودًا من الزمن، وتكبت بالقوة المرة تلو الأخرى.
وهكذا تحول الصراع – حسب توصيفه – إلى صراع على قضايا اليمن، وبناء الدولة، وليس اختلافًا على اقتسام الغنيمة، وتوزيع المناصب الوزارية، الأمر الذي فتح الباب أمام نشوء شرعية جديدة موازية، هي الشرعية السياسية والشعبية التي تنامى دورها تدريجيًا بما يكفي لمنع الطرف الآخر من استخدام البرلمان، ليتعزز ذلك الموقف بسياسة النفس الطويل، والصبر الجميل من قبل قيادات الحزب، وعدم الاستجابات العاطفية للاستفزازات المتعمدة أو الصدفية.
صمَّ علي عبدالله صالح أذنيه مُؤقتًا عن طبول الحرب، وقرر أنْ يناور كعادته، انصاع إلى مطالب الأغلبية بحل الأزمة سلميًا، لتتشكل – تبعًا لذلك – لجنة حوار من جميع الأطياف، كان جار الله عُمر عضوًا فيها، تسلمت جميع أوراق القضية، واستمر عملها قرابة شهر، وعقدت 11 اجتماعًا، وذلك بالتزامن مع حدوث احتكاكات عسكرية بين طرفي الصراع، واستمرار عمليات اغتيال جنوبيين، الأمر الذي خدم الحزب الاشتراكي في موقفه، وأدى إلى استدعاء وساطة عُمانية – أردنية، وتشكيل لجنة عسكرية من الطرفين، بمشاركة الوسيطين، والمُلحقين العسكريين الأمريكي والفرنسي، الأخير ممثلًا للاتحاد الأوربي.
وفرت هذه التطورات – كما أفاد جار الله عمر – الشروط الضرورية للانتقال بالحوار السياسي وبالأزمة ذاتها الى المحطة الثالثة الأكثر أهمية وعمقًا، والتي شهدت صياغة وثيقة العهد والاتفاق، في ظروف بدت أكثر توازنًا وأكثر مؤاتاة للحوار، واضطرار المؤتمر والإصلاح للتخلي عن مناوراتهما، والكف عن اختزال الأزمة بالخلاف بين الرئيس والنائب، والاعتراف بطابعها الوطني العام، وأنَّ لها ما يكفي من الأسباب الموضوعية التي ينبغي الاعتراف بها، تمهيدًا للبحث عن اقتراحات وحلول عملية، وعدم الإبقاء على الأسباب التي من شأنها أنْ تنتج أزمات أخرى في المُستقبل.
ساهمت السعودية إلى حدٍ كبير في تأجيج ذلك الصراع، وخدعت علي سالم البيض في ركوب حصانها الخاسر، وقدمت له الكثير من الدعم المادي والمعنوي. نفى جار الله عمر علمه بذلك، ثم عاد واستدرك: «ولا شك أنَّ دول الخليج، أو على الأقل بعضها، كانت قد أثرت أزمة الخليج على علاقتها باليمن، وكان بعضها ينظر إلى أي صراع في اليمن باعتباره جزءًا من تبعات موقف اليمن في الأزمة»، وأضاف: «المسؤولية لا يجب أنْ نرميها على أحد في الخارج، فنحن في اليمن نتصارع ونتقاتل على السلطة منذ عشرات ومئات السنين؛ ولهذا فإن اليمنيين هم الذين يتحملون المسؤولية، وليس الآخرين».
رغم أنَّ الأجواء في صنعاء لم تكن مهيأة، وكانت قيادات الحزب الاشتراكي المُعتكفة في عدن تتخوف من تعرضها إن هي عادت لتصفية، ورغم أنَّ موقف جار الله عُمر نفسه كان صعبًا؛ كونه متهم في الشمال، ومحل شك في الجنوب، فقد طالب تلك القيادات بالعودة إلى صنعاء، وتقديم تنازلات من أجل تجنب الحرب؛ بل وحمل الحزب جزءًا من مسؤولية ذلك التوتر، ليشاركه الرأي أنيس حسن يحيى، والذي بدوره قال: «كان يجب أن نتصرف بذكاء بعد عمَّان.. كان يجب إنهاء الاعتكاف، وأنْ نتعامل مع مهماتنا بمسؤولية.. وكنت أقول للإخوة أنْ يطلعوا إلى صنعاء. نحن بالاعتكاف قدمنا للطرف الآخر أنْ يشن الحرب علينا».
انفجر الموقف، واشتعلت الحرب الشاملة مايو 1994م، وبسقوط منطقتي كرش والضالع باتت بوابة الجنوب مُشرعة أمام القوات الشمالية، وفي عدن اجتمع أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي لمناقشة تلك التداعيات، وذكر محمد حيدرة مسدوس أنَّ ياسين سعيد نعمان، وجار الله عمر دعيا إلى تنحي البيض من رئاسة الحزب، وأنْ تتولى قيادة جديدة التفاوض مع صالح في صنعاء، وقد أدرك جار الله برأيه العسكري والسياسي المتمرس أنَّ المعركة انتهت، وأنَّ الأمر لم يعد حينها سوى تحصيل حاصل.
كان قرار علي سالم البيض الارتجالي بإعلان الانفصال مُرحبًا به عند بعض قيادات وأعضاء الحزب الاشتراكي؛ على اعتبار أنَّه نتيجة للحرب الدائرة لا سببًا لها، وعارضه في المُقابل كثير من القيادات، أعلن بعضهم (وخاصة المُقيمون في صنعاء) تأييدهم للوحدة، كعلي صالح عباد مُقبل، وآخرون، فيما آثر البعض الآخر الاعتكاف في منازلهم، أو مغادرة البلاد، وكان جار الله عمر أبرزهم، جعل الأخير من قاهرة المُعز محطة مؤقتة للبقاء، ليعمل ورفيقه مُقبل – فيما بعد – على إعادة إحياء الحزب، وانتشاله من بين الركام.
حين عقد الحزب الاشتراكي دورته التاريخية لتحديد موقفه من انتخابات 1997م، كان جار الله عمر مع خيار خوض تلك الانتخابات، فيما أصر الأغلبية على الرفض، ولم يمر سوى عامين حتى أيقن أولئك أنَّ الرجل كان على حق، وصوتوا – هذه المرة – للمُشاركة في الانتخابات الرئاسية، ومن ثم الانتخابات المحلية، وعادوا إلى قواعد الحزب، وخاضوا الصراع من نقطة الصفر.
مارس جار الله عُمر التحزب كمسؤولية أخلاقية، والانضباط الحزبي كمسؤولية معرفية، وساهم إلى حدٍ كبير في التأصيل النظري للتحولات السياسية للحزب الاشتراكي، ليُنتخب في دورته الثانية أمينًا عامًا مُساعدًا 2000م، وقد ساهم من موقعه القيادي في تعزيز حضور الحزب على المستوى المحلي، والعربي، والدولي.
عاش جار الله عُمر كوارث الشمال، وحُروب الجنوب، وخرج – كما أفاد صادق ناشر – من تلك المعارك مُنتصرًا، ورأسه فوق جسمه. كان الحوار بالنسبة له أسلوب حياة، وأساس تعايش، واصل – تبعًا لذلك – نشاطه مع الأحزاب السياسية اليمنية من أجل ترسيخ العملية الديمقراطية، وإزالة آثار حرب صيف 1994م؛ وتكللت جهوده بميلاد اللقاء المُشترك، ذلك الكيان الذي لمَّ شتات الأحزاب المُتنافرة، وجمع تناقضاتها، واضعًا أسسه العريضة، فلا تخوين، ولا تكفير، مُحددًا نقاط الضعف والقوة لدى كل طرف، ليبني من خلالها رؤاه المُستقبلية، بعد أنْ جعل فاصلًا بينها وخيبات الماضي.
طالب جار الله عُمر قبل استشهاده بلحظات بالتصدي لثقافة العُنف، وضمان العدالة ولقمة العيش للمواطنين، مُعتبرًا الديمقراطية منظومة مُتكاملة ﻻ تتجزأ، أساسها المُواطنة المتساوية، واحترام العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين، وصيانة الحريات والحقوق الإنسانية، دونما تمييز لأي سبب كان، والقبول بالتعددية الفكرية والسياسية، وعدم الاكتفاء من الديمقراطية بالتسمية، ومظاهر الزيف الخارجية.
استاء المُتسلطون من دعوات جار الله عُمر الإصلاحية؛ فأسكتوا صوته وللأبد 28 ديسمبر 2002م، تمامًا كما أسكتوا من قبل صوت صديقه عبدالقادر سعيد في مدينة جبلة مايو 1974م، وكأنَّه قدر هذا البلد المنكوب أنْ يسود فيه العنف، ويتسيد شياطينه، وما أحوجنا في هذه اللحظات الحرجة أنْ نستقرأ حياة هذا الرجل العظيم، ونستلهم منها الدروس والعبر، ونتعلم من تجربته الفريدة في البحث عن السلام، وإجادة صناعته.
(ما تيسر من رعشة الخوف)، قصيدة شعرية أهداها شاعر اليمن الكبير عبدالعزيز المقالح إلى روح الشهيد جار الله عُمر، وفيها تساءل:
هل رأيتم جبالًا تموت
سماء تغور إلى قاعها
وفضاء يضيق بألوانه
وسحاباته
وقناديله
وحقولًا تُغادر وديانها
وفراشاتها؟
هل رأيتم نهار اكتوى صاحبي
بالرصاص
وفي دمه كان حلم البلاد. ولا عاصم اليوم.
كنا جميعًا من المُغرقين؟
وأضاف مناجيًا صديقه الذي رحل إلى بعيد:
آه يا صاحبي
لم أجىء لوداعك
أو لمديح خصالك
لكنني جئت أبكي المحبة والشعر
لما رحلت تخثرت الكلمات
تبدل ماء الحروف، وفاض دمًا.
وكعادته – حين يحزن –
أخفى انكساراته الشعر
وأرى عيون قصائده
في جفون الملائكة النائحين