في محاولة فهم معنى الاحتفال بتعاقب الأعوام ،،،، الاحياء وحدهم، هم، الذين يحتفلون دائما
قاسم المحبشي
بعض الظواهر الاجتماعية والإنسانية تستحث التوقف والتأمل والتفكير في المعنى والدالة. ولا تكون الظاهرة اجتماعية إلا إذا تكررت وتعاقبت مرات عديدة بذات الصيغة والوتيرة وتحولت إلى عادة ثقافية عند عدد واسع من الفاعلين الاجتماعيين في عالم الممارسة الاجتماعية بوصفها سلوكااجتماعيا يتضمن فاعلين وأفعال وعلاقات وقيم وانفعالات وتفاعلات وصور ورموز ومشاعر وغير ذلك من الإنساق والعناصر. والأمر كذلك فيمكننا النظر إلى احتفالات الناس بتعاقب السنين ظاهرة أجتماعية ثقافية تستدعي الفهم والتفسير
والسؤال هنا هو: لا ماذا يفعل الناس؟ ويعتقدون ويقولون؟ بل لماذا يفعلون ما يفعلونه؟ ويقولون ما يقولونه ويعتقدون بما يعتقدونه؟ وهذا هو ما نود مقاربته فهمه في هذه العجالة بشأن أحتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة 2024م
بعد مرور يومين على دخولها أو دخولنا نحن فيها. كتب المفكر العربي المستنير حسن حماد” يمضي عام ويأتي عام ونحن ندور مع الزمن في دورة لاجدوي منها دورة عقيمة لاتنتج سوي العدم .ومع ذلك
نحتفل بالموت بانقضاء عام !! وننتظر ميلاد فجر جديد
لسنة أخري جديدة ستغدو بعد حين قديمة !! تري لأي
زمن ننتمي للماضي، للمستقبل، للحاضر المنشطر والمعذب
مابين لحظة تمضي وأخري تأتي ، إنه العابر دائما الذي
يعذبني مثلما عذب روكنتان بطل رواية الغثيان ، اللحظة
الفارة التي تنسرب من بين أيدينا ولا تترك لنا أثرا سوي
ذكري عابرة وخواء وحنين وضياع ……
الزمن هو أصل مأساة الإنسان لذلك يتحايل البشر علي
الزمن بالوهم، بانتظار المستقبل، بالأعياد والاحتفالات
والرقص والكرنفالات ، بتقسيم الزمن إلي ماض وحاضر
ومستقبل . إنه الوهم ، الأمل الذي خبأه زيوس بقاع
صندوق الشرور الذي بعثه للبشر مع باندورا الجميلة
عقابا لهم ولأبنه بروميثيوس الذي غافله وسرق منه النار
ليهديها للبشر !!
ما أتعس الإنسان وما أعظمه في آن واحد.
طابت أوقاتكم يا أصدقائي مع وهم
جميل بمولد عام جديد يمتلئ بالبسمات
وكل اللحظات الحلوة والحبلي بأجمل
”الأشياء
(ينظر، صفحة، حسن حماد، بالفيسبوك، 31 ديسمبر 2023م) كما هو وضح من النص أعلاه يرى حسن حماد إن الاحتفال بتعاقب الأعوام هو لعبة عبثية مع الزمن الذي ليس له قلب ولا عيون(ندور مع الزمن في دورة لاجدوي منها دورة عقيمة لاتنتج سوي العدم) الزمن هذا نمنحه نحن المعنى ونعد على وقع حركاته التي لا تتوقف أبدا أعمارنا نشعر به ولا يشعر بنا. ورغم أدركنا بلا جدوى المسعى فنحن لا نكف عن ممارسة لعبتنا الوجودية
الحميمة مع الزمن الذي هو بالنسبة لنا كل حياتنا. وفي ذات السياق كتب الفيلسوف أحمد نسيم برقاوي ما يشبع المعنى في قصيدة ( خدعة الزمن) قال فيها:،
” في ليلة الشهر الثاني عشر الأخيرة
حيث يلفظ الزمن المتخيل لدوران الأرض
أنفاسه ويولد من جديد
يستيقظ أهل الأرض صباحاً
على قارع مألوف لأبوابهم
ويمضي الجسد سائراً على السكة إياها
إلى محطة سفره الأخيرة
فسكة قطار الحياة خادعة
فالقطار يحملنا في توابيت غريبة
يسير بها إلى مدافنها الأخيرة.”
( ينظر، صفحة، أحمد نسيم برقاوي بالفيسبوك، منشور 31 ديسمبر 2023، خدعة الزمن)
وهكذا ظل الزمن مثله مثل الموت لغزا محيرا للإنسان منذ أقدم العصور وهذا ما سوف نتوقف عند لتونا في دراسة علاقة الإنسان بالزمن والموت ووظيفة الاحتفالات بتعاقب الأيام والأعوام.
من لغز الزمان والحياة والموت يمكن لنا فهم معنى ظاهرة الاحتفالات بتعاقب الاعوام عند الشعوب بمختلف ثقافاتها وعقائدها. إذ يحتفلون بحياتهم أما الأموات فلا يحتفلون ابدا ولا توجد جماعة بشرية على هذا الكوكب السابح بين الأفلاك لا تحتفل في كل زمان ومكان بغض النظر عن نوع ذلك الاحتفال بالولادة والزواج والحصاد وتعاقب الأيام والأحداث التاريخية والحروب والانتصارات والثورات وغيرها. إذ تعد الاحتفالات السنوية من الظواهر الاجتماعية التي رافقت حياة الإنسان منذ ما قبل التاريخ، بوصفها انزياحا سوسيولوجيا وسيكولوجيا عن السياق الاجتماعي الروتيني للحياة اليومية للشعوب؛ انزياح يتم التعبير عنه بتنويعات شتى من الأفعال والتفاعلات والعلاقات والممارسات والقيم والرموز . فكل جماعة أو تجمع أو شعب من شعوب الأرض يمارس الاحتفال بوصفه تأكيدا للوجود والحضور وتعبيرا عن الفرح والسعادة بالحياة وإنجازاتها وتجديدا للطاقة وتحفيزا للأمل بالمستقبل. فالأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم دائما حتى وإن بدوا إنهم يحتفلون بأمواتهم. ففي الأزمنة القديمة ما قبل التاريخ كان الناس يحتفلون بأنفسهم وبأعيادهم في سياق أسطوري شديد الالتصاق بالطبيعة وتقلباتها ومواسمها، وكانت أعظم الاحتفالات عند الشعوب القديمة هي احتفالات بالمطر والزرع والثمر وبحصاد الثمار نهاية كل عام وتوقعاتهم بما سوف تجود به السماء والأرض في قادم الأيام. ” كانت الثقافة المصرية القديمة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنهر النيل، ويبدو أن عامهم الجديد يتوافق مع الفيضان السنوي، وفقًا للكاتب الروماني Censorinus، وكان التنبؤ بالعام الجديد مرتبطا بنجم “الشعرى اليمانية” ألمع نجم فى سماء الليل، إذ يبدأ العام عندما يكون مرئيًا لأول مرة بعد غياب 70 يومًا. وتحدث هذه الظاهرة عادة في منتصف يوليو قبل الغمر السنوي لنهر النيل، مما يساعد على ضمان بقاء الأراضي الزراعية خصبة للعام المقبل. واحتفل المصريون بهذه البداية الجديدة بمهرجان يُعرف باسم Wepet Renpet، والذي يعنى “افتتاح العام”، وكان يُنظر إلى العام الجديد على أنه وقت ولادة جديدة وتجديد الشباب، وتم تكريمه بالأعياد والطقوس الدينية الخاصة” ( ينظر، بسنت جميل، اليوم السابع ، السبت، 02 يناير 2021 06:00) وفي رواية أخرى أوردها جميس هنري باستيد في كتبه فجر الضمير الإنساني إذ أكد ” أن المصريين فى كل عام كان يحتفلون فى أبيدوس بعيد شجرة “أوزير” أمام معبده , فيأتون بأكثر الأشجار اخضرارا لنصبها وزرعها فى وسط الميدان الذي يكتظ بالرجال والنساء والأطفال والشباب انتظارا الهدايا والعطايا، وتلك الشجرة هى التي انحدرت إلينا فى صورة العيد الذي لا نزال نقيمه ونزينه بالابتهاج والرقص. حيث يتلقى الكتبه طلباتهم وأمنياتهم و يسجلونها على الشقافات والبرديات ويضعونها تحت قدمى “أوزير الشجرة” فيحققها لهم كهنة المعبد قدر الإمكان” وكانت الشعوب القديمة في منطقة بلاد الرافدين وسوريا، تحتفل بحسب دورة الطبيعة، بأعياد الحصاد والزرع. إذ كان عيد أكيتو في الحضارة البابلية، عيداً للزرع وتحضير التربة للبذور والسقي. إذ كان يعتقد أن عودة الربيع تعني صعود الاله دموزي من عالم الأموات، وعودته إلى الحياة، كما تعود البذور إلى الحياة من جديد بحلول الربيع وتجدد الطبيعة” وكما هي الحال مع أعياد الربيع الأخرى، مثل النيروز لدى الإيرانيين والأكراد، وشم النسيم لدى المصريين، يحفظ الأشوريون والكلدان والسريان تقاليد الحضارات البابلية والسومرية والأكادية والكلدانية القديمة” إذّاك لم يكن الناس اصحاب عقلية تاريخية لان الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، لا يحدثهم عن التاريخ ولكنه يحدثهم عن الطبيعة، وهذا ما تنبأ عنه اعيادهم الاحتفالية الموسمية. كانت اياما لم يسجلها التاريخ، بل هي ايام السنة الزراعية التي تتعاقب في كل عام وهذا يصدق على ما قاله المؤرخ الانجليزي (ادوار كار) “يبدأ التاريخ حين يبدا الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعية- دورة الفصول، وآماد الحياة البشرية، وانما بوصفه سلسلة من الاحداث المحددة التي ينخرط الناس فيها ويؤثرون فيها بصورة واعية”. او كما عبر ايكهارات “التاريخ هو انقطاع مع الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي” وهذا ما يراه “اريك فروم” في كتابه “الخوف من الحرية” بقوله: بدا التاريخ الاجتماعي للإنسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي الى وعيه بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به) ويرى شبنجلر ان كلمة “الزمان لا معنى لها عند الرجل الفطري، فهو يحيا دون ان يكون في حاجة الى ادراك الزمان، لان كل ادراك انما ينشأ عن الشعور بالحاجة الى المعارضة، بين شي بشي، ومثل هذا الشعور لا مجال لوجوده عند الفطري، لانه لا يزال يتصور الوجود على انه تاريخ ولم يتصوره بعد بعده طبيعة. ولكن ليس معنى هذا ان الفطري ليس له زمان، كلا، انه له زمان ولكن ليس لديه شعور بهذا الزمان” غير أن الأمر المختلف في هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية المستمرة بتنويعاتها المختلفة عند بني الإنسان هو مدى وعيهم بالزمان بوصفه تاريخاً، والتاريخ هو انقطاع عن الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي. مع تبلور الوعي التاريخ بسيرورة الحياة بالزمان ، بأبعاده الثالث، الماضي والحاضر والمستقبل، إي الذاكرة والوعي والخيال، بدأ التفكير بتوقيت الزمن وتحديده وتقسيمه الى لحظات وساعات وأيام وأعوام وعقود وقرون. بصيغ مختلف عند الشعوب والأقوام والحضارات، إذ يختلف التقويم عند الصينيين عن التقويم الإسلامي والتقويم اللاتيني. ويرى خزعل الماجدي أن ” عيد رأس السنة من الأعياد الحديثة التي يحتفل بها جميع الناس في الكرة الأرضية، وهو من الأعياد غير الدينية. حيث يفرح الناس بالسنة الجديدة، ويقيموا الاحتفالات في ليلة 31 ديسمبر. وأول يوم في التقويم الغريغوري، والذي يحل في 1 يناير مع الألعاب النارية والتي تبدأ من منتصف الليل حيث تبدأ السنة الجديدة” ( ينظر، خزعل الماجدي، عيد رأس السنة لا علاقة له بالديانة المسيحية، صفحته بالفيسبوك) وفي المغرب العربي والشمال الإفريقي يعد الاحتفال بتعاقب الأعوام من التقاليد الراسخة في الثقافة الامازيغية منذ قبل الميلاد. وابتداء من اليوم الثلاثاء 12 يناير/كانون الثاني، يحتفل أمازيغ كل من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا وأجزاء من مصر، وكذلك الشتات، برأس السنة الأمازيغية الجديدة والذي يُطلقون عليه اسم “ينّاير” (Yennayer).ويوافق 2022 عام 2972 بالتقويم الأمازيغي. ويعود تاريخ هذا الاحتفال إلى العصور القديمة، وهو متجذر في الحكايات والأساطير الشعبية شمال إفريقيا، ويعد إحياء للرابط بين الأمازيغ والأرض التي يعيشون عليها، فضلا عن ثروة الأرض وسخائها. لذلك، يعتبر يناير احتفالا بعيد الطبيعة والحياة الزراعية والنهضة والوفرة، وتفضل عدد من العائلات على إعداد طبق الكسكسي بسبع خضار خلال هذه الليلة، أو طبق “إيمشيخن” أو “أوركمين” وهو حساء يحضر من مكونات متنوعة من بينها الحمص والشعير والأرز والعدس، إلى جانب “الكرعين” (أقدام الخروف أو البقر).وجرت العادة على أن تدس نواة تمر في الطعام المقدم بهذه المناسبة، حيث يسود اعتقاد بأن من يعثر عليها سيكون محظوظا طيلة السنة الزراعية المقبلة، ويطلقون عليه اسم “أسعدي ناسكاس” وهذا يشبه طقوس واحتفالات أعياد تعاقب الأعوام الهجرية في جنوب الجزيرة العربية كما سوف نلاحظ آنفا. ويكشف تاريخ الأنثروبولوجيا الثقافية أن معظم الشعوب البدائية والحديثة تحتفل بتعاقب الأعوام بإشكال مختلفة ولكنها متشابهة في وظائفها السوسيولوجيا الأساسية، فوظائف الاحتفال هي ذاتها عند بني الانسان إذ تشبع لديهم حاجات حيوية، لكسر الروتيني وتغيير النمط وسعادة الإنجاز وتوقع المستقبل، والقياس والتقويم المقارن بين ما قبل وما بعد؟ ماذا تحقق في العام الذي مضى وماذا يمكننا تحقيقه في العام الجديد؟ ولما كان الانسان كائناً زمنياً، فان التفكير في التاريخ جزء من انشغالاته، وكل نظرة في التاريخ تظهر موقف الانسان من الزمان فالإنسان هو الكائن الزماني الوحيد، لإنه مفطور على حاستي الذاكرة والتوقع، اذ انه ينظم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل، هذا الحس الزماني يرجع الى الحضارات البدائية، قال الشاعر (جون دن) “الكائنات ذوات الطبيعة الادنى اسيرة الحاضر اما الانسان فكائن مستقبلي ” وكان البابليون يحتفلون باعياد تعاقب المواسم بحفلات التزاوج في الهواء الطلق ظنا منهم بتحفيز السماء للتزاوج مع الأرض وهناك كثير من الطقوس والعادات والتقاليد التي تمتلكها الشعوب في محاكاة الطبيعة وتمثيل سلوكها في التخصيب والحراثة والزرع والسقاية والحصاد. ومن السخف النظر الى احتفالات الشعوب المسيحية بوصفها مجرد احتفادا دينيا وشجرة ميلاد وبابا نويل وكريسمس وشرب خمر أو غير ذلك من الرموز التي ترافق الاحتفالات بتبدل السنين الميلادية. إذ أن كل تلك الرموز والعناصر هي جزء من الباراديم الكلي للاحتفال الذي يعني أكثر منها بالتأكيد. وكلما كانت حياة الأفراد والشعوب منظمة ومستقرة وأمنة في قواعدها المؤسسية الراسخة كلما كان للاحتفال بعيد رأس السنة قيمة واهمية واعتبار، إذ يمكن لمواطني تلك الدول المسيطرة على ممكنات تاريخها أن يحتفلوا بما مضى من أيامهم وما حققوه من إنجازات في إطار العام الذي مضى بسعادة وفرح مصحوب بالأمل والتطلع الى عام جديد أجمل وأفضل. أما من يفتقدون قدر السيطرة على شروط حياتهم اليومية في بلدانهم ويعيشون حياتهم في مهب العاصفة وبلا مزايا كما هو حالنا في البلاد العربية المسممة بالحروب والفساد والخوف والخراب، بما يعجزنا عن توقع ما تخبئوه الليالي والأيام القريبة القادمة، فليس للاحتفال بتعاقب الأعوام بالنسبة لنا معنى واعتبار، فنحن نعيش في زمن دائري، يكرر باستمرار ما قد جرى وكان منذ قديم الازمان بمختلف الأنماط والصيغ والاشكال ودون أن نعي أن الزمان تاريخ وأن التاريخ يسير من الماضي الى الحاضر الى المستقبل، فمن العبث الحديث عن الاحتفال برأس السنة الهجرية أو الميلادية، فالأمر سيان! وطالما وقد عجزنا عن القبض على ممكنات التاريخ والسير في ركابه مثل سائر الأمم والشعوب والأقوام، فليس بمقدورنا منع غيرنا من التعبير عن أفراحهم كما يشتهون! ويجب أن نسأل أنفسنا السؤال البسيط ؟ ما هو الزمن، وكيف نعيه بوصفه تاريخا متغيرا باستمرار ؟ أنه الزمن الذي ” يدمر كل شي لا أحد بمأمن من الموت سوى الالهة الأرض تفنى.. كل شي الى زوال حتى الثقة بين الناس تذوى، ويحل محلها عدم الثقة الاصدقاء ينقلبون على الاصدقاء والمدن على المدن مع الزمن.. كل شي يتغير البهجة الى مرارة حتى البغضاء تتحول الى حب” وكلمة “الزمن” باليونانية “كارونوس” هي اسم الاله الذي التهم اطفاله، واوديب عند “سوفوكليس” هو الذي عبر عن تراجيديا الحياة والموت بهذه الكلمات الشجية. هذا الوعي الفطري بالطبيعة العابرة للحياة الانسانية والتغير والتبدل المستمر الذي يسري على الكون كله كان ولازال مبعث كل الأديان والفلسفات الكبرى فالخبرة اليومية بالولادة والحياة والموت، لا سيما سر الموت ورهبته، دفعت الإنسان الى الاعتقاد في عالم سحري ملئ بالأرواح وطقوس الموتى. كان الانسان مدمجاً بالطبيعة وكانت الاسطورة هي الافق الممكن للتفكير والمعرفة والحياة, “فالأسطورة كانت النظام الفكري المتكامل الذي استوعب قلق الانسان الوجودي، وتوقه الابدي للكشف عن الالغاز والغوامض والمشكلات التي يطرحها محيطه “والأمر المهم هنا ليس هو ماذا يقول الناس ويفعلون، ولماذا يقولون ما يقولونه ويفعلون ما يفعلونه؟ بل لماذا يعتقدون ويقولون ويفعلون ذلك؟ ومن ينجب يسمي ومن ينتج يجني ومن يبني يسكن ومن ينجز يحق له أن يسعد كما يحلو له. أما العاجز فليس لديه خيارات غير الحسرة والندم على الزمن الذي ضاع دون أن يعلم كيف ضاع ولماذا؟ ونحن كائنات تاريخية نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء! والتاريخ هو ما يصنعه البشر بأنفسهم ولا شيء يأتي اليه من خارجه ولا شيء يخرج منه، ولكنه يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه ابدا! وفي العصور الفطرية القديمة كان أسلافنا يتدبرون حياته في سياقهم الطبيعي على نحو أكثر استقرارا مما نعيش نحن اليوم . إذ فقدنا الطبيعة الحانية ولم نتمكن من ترويض التاريخ الذي لا يمتلك لا قلب ولا عيون. وتحضرني الذاكرة هنا والآن أننا حينما كنا نودع عاما هجريا مضى ونستقبل عاما هجريا أتى كان للاحتفال بقدوم العالم الهجري الجديد معاني ودلالات معبرة وجميلة. إذ يستعد الناس للاحتفال بلحظ الذروة بطرق وإشكال عديدة ويعبرون عن فرحتهم بالسنة الجديدة بصور ورموز شديدة الاتصال بحياتهم الطبيعة وعلاقتهم بربهم. فعلى سبيل المثال كان مزارعو البن في كل أسرة يكلفون سيدة الأسرة ألأم بوضع سبع حبيبات من ثمار البن الناضجة المختارة بعناية لتضعها في وعاء الطبيخ وتطبخها مع العصيدة وجبة العشاء. وكان جميع أفراد الأسرة ينتظرون تلك الوجبة بلهفة وفرح لاسيما الأطفال منهم ذكورا وإناثا. حيث يحتلقون حول قدح العصيدة وهم يتمتمون بدعاوى لله سبحانه وتعالى بان يرزقهم الحصول على العدد الوفير من حبات البن المخفية في العصيدة بوصفها تعبيرا رمزيا بالبشارة والحظ السعيد والرزق الحلال القادم، ومن حالفه الحظ في العثور على أكبر عدد من حبات البن يوصف بالبرك أو المبارك وتغمره مشاعر سعيدة. وعلى العكس يكون حال من لم يحالفه الحظ في الحصول على حبة بن واحدة. وكان الاجداد والأباء يشجعون الاولاد على جلب أغصان شجرة البن الخضراء ووضعها في نوافذ المنازل وأسطحها وهم يرددون الاغنية التالية: أدخلي يا خضراء واخرجي يا غبراء ارحبي يا بشرى وأذهبي يا جرباء أشرقي يا نجلاء وأغربي يا دبراء مرحبا يا كحلي بعد تاك العمياء يا هلا بكِ سهلا والجديدة أحلى ربنا يرزقنا رزق دائم يبقى وهكذا هو معنى الاحتفال في كل زمان ومكان ؛ الأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم حتى وأن بدوا أنهم يحتفلون بموتاهم وسنة ميلادية جديدة أفضل وكل عام وأنتم بخير وسلام?