ومدى السبعين يومًا قد رفضنا،، يوميات الصمود (2-2)
بلال الطيب
ما كان لمعارك الشعوب الكبرى أنْ تظل حية في أفئدة ومشاعر الأجيال، لو لم يوظف مُفكروها طاقاتهم الإبداعية الخلاقة من أجل نقل وقائعها مثلما كانت على أرض الواقع، وهذا ما عمل عليه كثيرٌ من الباحثين اليمنيين، وكان أشهرهم على الإطلاق الشهيد جار الله عُمر، أحد أبطال تلك الملحمة المُلهمين.
لم يكتفِ جار الله بذلك؛ بل نصح الـمُهتمين بإكمال تلك المُهمة، على اعتبار أنَّ دلالات بُطولات مَلحمة السبعين يومًا تتعدى الإشباع العاطفي، فقد تجسدت فيها ذاتية الشعب اليمني الحقيقية، التي تصبو دائمًا نحو الحرية والاستقلال، ومُناهضة كل طغيان خارجي كان أو داخلي.
عمليات هجومية نوعية
مع اشتداد الهجمات الإمامية، وفي ظل المُتغيرات العاصفة التي سبق أن تحدثنا عنها، قام رئيس هيئة الأركان النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب بتجميع أفراد الشرطة العسكرية مُعززين بمجموعة من الصاعقة بقيادة النقيب صالح أبو بكر بن عامر، ليقوموا جميعهم بهجوم مضاد على القوات الإمامية المُتمركزة في القرب من جبل عصر، وقد قاموا بمطاردتها حتى الصباحة، وتمكنوا من أسرها، والاستيلاء على أسلحتها، وعرضها في ميدان التحرير، ويعتبر هذا – كما أفاد محمد صالح الحنبصي – ثاني نصر حققته القوات الجمهورية.
وفي ذات اليوم الذي أعلن فيه عن تشكيل الحكومة الجديدة، حَشد الإماميون جميع قواتهم في المحورين الجنوبي والشرقي، لغرض الاستيلاء على جبل نُقم، لتدور في رحاه معارك طاحنة استمرت لأكثر من أربع ساعات، وحين دخلت المواجهة إلى العمق، حصل قتال بالسلاح الأبيض، وتقهقرت القوات الإمامية، وتكبدت خسائر فادحة، وقد ظل ذلك الجبل ومن خلفه جبل براش بيد القوات الجمهورية حتى نهاية الحصار.
بعد تلك الواقعة بثلاثة أيام (24 ديسمبر 1967م)، قامت مجموعتان من أفراد لواء الوحدة بعملية إغارة على القوات الإمامية المُتمركزة في جبل الطويل، بقيادة الملازم محمد مُحسن حيدرة، والملازم محمد الأكوع، وقد تمكنتا من الوصول إلى عمق الجبل، بعد معركة بطولية غير مُتكافئة، استشهد فيها جميع المقاتلين، وذلك بعد أنْ فرضوا سيطرتهم على الموقع لفترة محدودة، وبعد أنْ قتلوا عددًا من عساكر العدو، عامل الإشارة كان يتكلم مع غرفة عمليات القائد العام، ومع المقدم عز الدين المؤذن تحديدًا، واستشهد في الأخير.
في شهادته على ذلك الموقف البطولي قال عز الدين المؤذن: «وما أشق على نفسي عندما سمعت الجندي الحامل للجهاز وهو يستغيث: “يا فندم العدو يضربنا، يا فندم العدو هجم علينا، لقد قتل فلان وفلان، لقد هجموا عليّ”، وأنا أقول له: “احتموا وراء سواتر، واضربوا ببنادقكم، وافتحوا القنابل”، وأخذت التلفون واتصلت بالوحدات الأخرى بسرعة إنقاذ هذه المجموعة، وتحركت فصيلتان من المظلات، والصاعقة، ورغم هذا كانت الخسائر كبيرة لهذه القوات الفدائية، وسقط حامل الجهاز شهيدًا وأنا أتكلم معه، وكانت هذه اللحظات من أصعب اللحظات التي أتذكرها دائمًا».
قَامت القوات الجُمهورية بعد ذلك بمحاولتين لاستعادة الجبل، المُحاولة الأولى قبل أنْ ينتهي شهر ديسمبر، وقد انطلقت من تبة دارس، بقيادة العقيد سلام عبدالله الرازحي، وشاركت فيها وحدات من المظلات، والصاعقة، والشرطة العسكرية، والجيش الشعبي، وقد سيطرت على الجبل لمدة 12 ساعة فقط، وعادت أدراجها خائبة، وذلك بعد أنْ تكبدت الكثير من الخسائر، والمحاولة الثانية كانت في أواخر الشهر التالي، وقد تم الإعداد لها بشكل جيد، وسنأتي على تناولها.
قوم الإشارة
وقبل أنْ ينتهى شهر ديسمبر أيضًا، وفي المحور الجنوبي هذه المرة، سيطر الإماميون على جبل النهدين مرة أخرى 27 ديسمبر 1967م، وذلك بعد اشتباكات عنيفة استخدم فيها السلاح الأبيض، وبعد ساعات معدودة كانت سرية من قوات الصاعقة بقيادة النقيب محمد عاطف لهم بالمرصاد، وقد استشهد الأخير، وخَلفه زميله عبدالله عبده عثمان.
ونظرًا لعدم وجود احتياطي بشري كافي في العاصمة المُحاصرة؛ كَلَّفت القيادة العامة سرية مُشاة من سلاح الإشارة بالمُرابطة في الجانب الجنوبي الشرقي لجبل النهدين المُحرر، بعد أنْ شاركت تلك السرية بقيادة الملازم أحمد عبيد البان في تحريره، فيما كُلفت قوات من الأمن المركزي بالمُرابطة في الجهة الغربية المُقابلة، وقد صَدَّ هؤلاء جميعًا هجوم الإماميين أكثر من مرة، وكبدوهم خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وما يجدر ذكره أنَّ القذائف الإمامية لم تتوقف عن استهدافهم طول أيام الحصار.
شاركت مجاميع من الجيش الشعبي في تلك العمليات، ورابطت في المطار الجنوبي (ميدان السبعين حاليًا)، وساعدت بعد أيام معدودة القوات المسلحة في السيطرة على موقع قزان جنوب جبل النهدين، لتأتي الأوامر حينها لسرية الإشارة بالانتقال إلى الموقع المحرر، والذي صار حائط صد منيع للقوات الإمامية المهاجمة حتى نهاية الحصار، وقد خلَّد شيخ خولان الإمامي علي بن ناجي الغادر بطولة هذه السرية في زامل له شهير، نقتطف منه:
من جبل عيبان شفنا العراضي
والقصور اللي بنوا في شرارة
لكن اعيتنا رجـال الصــواعق
واللواء العاشر وقوم الإشارة
وفي ذات المحور أيضًا، حاولت قوات إمامية الهجوم على طريق الجرداء – الحفاء، فتحركت سرية من الصاعقة لدعم الموقع، وأجبرتهم على التراجع، وقد ظلت تلك السرية – كما أفاد الملازم أول علي أحمد المراني – مُتنقلة بين النهدين، وظهر حمير، والحفاء، والجرداء.
أقسى لحظات الحصار
مع أواخر عام 1967م كانت صنعاء تعيش أقسى لحظات الحصار، تملك اليأس من تبقى من قادة الجيش، واجتمعوا في منزل الفريق العمري مع البقية الباقية من الوزراء، ومُمثلي المقاومة الشعبية، والمشايخ 28 ديسمبر 1967م، واقترح صاحب المنزل الداعي لذلك الاجتماع عودة اللجنة الثلاثية المطرودة سلفًا، والمصالحة مع الإماميين؛ تحت مُبررات أنَّ الأخيرين يقتربون من عَصر، والظروف العسكرية لا تـُساعد على هزيمتهم، وأنَّ برقيات المسئولين في الحديدة تؤكد نفاد الذخيرة، والإمدادات، والوقود، وأنَّ سلاح الطيران لن يتحرك من الغد.
قوبل ذلك الاقتراح بالرفض من قبل القيادات الشابة، والمقاومة الشعبية، وكان جوابهم: «لا مساومة على مصير الثورة، وينبغي أنْ نقاوم حتى النهاية»، رافعين شعار (الجمهورية أو الموت)، وأقنعوا الجميع بضرورة الدفاع والمقاومة حتى النهاية، ولو كان أولئك الأبطال أذعنوا لخيار المُفاوضات لما صمدوا – بعد ذلك – ومُقاتليهم لحظة واحدة.
والأكثر أهمية – وكما أفاد محمد عبدالسلام منصور – أنَّ بعض القيادات العسكرية والحزبية التي كانت تستبعد سقوط صنعاء، افترضت من باب الحيطة والحذر سقوطها عسكريًا، فطلبت من الكوادر العسكرية المؤهلة وضع خطة لاستعادتها، ومضت تدرب – ضمن هذه الخطة – مجاميع اختارتهم من بين صفوفها، ومن بين أفراد المقاومة الشعبية تدريبات عسكرية على أعمال فدائية مُحتملة داخل العاصمة نفسها، لتكون تلك الأعمال الفدائية بمثابة عنصر مساعد للحملات العسكرية الجمهورية القادمة من خارج المدينة المنكوبة.
وفي اليوم التالي كانت جحافل الإماميين تُحكم سيطرتها على مواقع مهمة في جبل عَصِر في محاولة جريئة لاجتياح العاصمة، وحسم المعركة نهائيًا، دارت معارك ضارية استمرت لأكثر من 48 ساعه، ووصل الاشتباك إلى السلاح الأبيض، قتلى وجرحى كُثر سقطوا من الجانبين، ومن أبرز شهداء الجانب الجمهوري: الملازم علي الأكوع، والملازم الشجني، والملازم محمد الناظري، كما أحرقت دبابة جمهورية.
هرب حينها من تبقى من الضباط الكبار، ولولا التدخل والنجدة السريعة من قوات الصاعقة، والمقاومة الشعبية، وسلاح الطيران، لكانت صنعاء سقطت بالفعل، لتعرض في صبيحة اليوم التالي بعد صلاة عيد الفطر مُباشرة حوالي 20 جثة لقتلى إماميين في ميدان التحرير، فكانت رسالة قوية أخرست المرجفين، وأرعبت الإمامة وأنصارها.
سيطر بعد ذلك أفراد إماميون على التبة الخضراء الواقعة أسفل جبل عصر، وتسلل بعضهم إلى أنْ وصلوا إلى عمارة عبدالصمد مُطهر (تقع حاليًا في شارع الزبيري)، فيما قام أقرانهم المُغطين لهم بالضرب على مُؤخرة اللواء العاشر، تحركت حينها قوات من الحرس الجمهوري، واستعادت التبة، ونكلت بالمُتسللين شرَّ تنكيل.
الشتاء الأسخن
انتهى رمضان مع دخول عام ميلادي جديد، الشتاء دخل مرحلته الأسخن، وفي بداية يناير 1968م وسع الإماميون من عملياتهم العسكرية، وبدأوا باستخدام أسلوب الهجوم الشامل، ومن كافة المحاور، ونجحوا قبل أن ينتصف ذلك الشهر بالسيطرة على جبل العرم، وقطع طريق صنعاء – الأزرقين، وقتل قائد ذلك الموقع الملازم أول أحمد عبدالوهاب الآنسي.
وفي الجانب الآخر، قام الجمهوريون – بداية ذات الشهر – بمحاولة فاشلة لفك طريق صنعاء – تعز، وذلك بعد أن قاموا في الشهر السابق بمحاولتين فاشلتين لذات الغرض. كان القادمون من المناطق الجنوبية بشقيهم جيش، ومقاومة شعبية، أكثر حماسًا لإنقاذ الجمهورية، وفي يَسْلِح اختلط الحابل بالنابل، وتبادل المُتحاربون المواقع أكثر من مرة، فيما قدرت الإصابات من الجانبين بحوالي 3,000 ما بين قتيل وجريح.
استعادت القوات الجمهورية بعد ذلك عافيتها، وتجاوزت مربع الدفاع الضيق، إلى مربع الدفاع النشيط، وبدأت بشن عمليات هُجومية مُباغتة، حصلت على أسلحة حديثة، وأسرى، وعادت إلى مواقعها سالمة، ونُفذت أول عملية إغارة من قبل أفراد الكلية الحربية المُرابطين في جبل نُقم، حيث تمكنوا من مباغتة العدو، واستولوا على مدفع ميدان أمريكي عيار 105 ملم، ورشاش عيار 50 ملم، وكمية من الذخائر، وقاموا بأسر أحد المعتدين، وعرضوا كل ذلك في شوارع العاصمة صنعاء.
كما قام الجمهوريون بعملية إغارة ثالثة على جبل الطويل، وقد تم الإعداد لهذه المُحاولة بشكل جيد، وتم الهجوم على ذلك الجبل من ثلاثة محاور، هجومان وهميان، وهجوم حقيقي انطلق من تبة دارس، نجحت القوات المُهاجمة في السيطرة على التباب الخلفية للجبل، وتمكنت فرقة انتحارية من قوات المظلات بقيادة الملازم أول محمد مهيوب الوحش مُن السيطرة على الجبل، وصولًا إلى قمته 20 يناير 1968م، وقد أمنت هذه الفرقة هبوط طائرة أمين عام جبهة التحرير الجزائرية الشريف بلقاسم، التي هبطت ظهر اليوم التالي في مطار الجراف.
دخل القائد الجزائري المدينة المُحاصرة، وألقى في الجماهير المُحتشدة بميدان التحرير خطابًا حماسيًا، وسلم شيكًا بمبلغ مليون دولار، ثم غادر صنعاء بأمان.
بفعل كثافة النيران المُعادية، وشدة الهجوم الإمامي المُضاد؛ اضطرت القوات الجمهورية المُهاجمة على التراجع، فيما ظلت الفرقة الانتحارية بقيادة محمد مهيوب الوحش صامدة في عمق الجبل لمدة ثلاثة أيام، ولم تنسحب إلا بعد أنْ دمرت الكثير من المدافع؛ موقفةً بذلك تهديد مطاري الرحبة والجراف لبعض الوقت.
وقد كان للبطل الوحش طريقة جريئة وفريدة في اقتحام مواقع الإماميين، وكان مع كل اقتحام يطلق صرخة مدوية تربك العدو، وتشل فعاليته؛ وبسببها أطلق عليه المصريون اسم (الوحش)، وقد غلب عليه هذا اللقب، وظل لصيقًا به حتى بعد استشهاده
وعن تلك العمليات الهجومية بشكل عام، قال مكرم محمد أحمد: «كان الثوار يحققون كل يوم انتصارًا صغيرًا، يركبون الجبال المحيطة جبلا إثر جبل، ويعودون في المساء بمجموعة من الأسلحة، يعرضونها في الميدان كلها تحمل شعار الصداقة الأمريكية، وفي بعض الأحيان كانوا يعودون ببعض الرؤوس المجزورة من العنق ليدقوها على باب اليمن، ثم تطور الأمر إلى عمليات هجومية كاسحة، مع الاحتفاظ بالمواقع التي تم استعادتها».
وفي الأسبوع الأخير من شهر يناير 1968م، كان الهجوم الإمامي – كما أفاد جار الله عُمر – قد فقد زخمه السابق، وأمسى الإماميون ومُرتزقتهم في موقف المراوحة، وفي طريقهم من التحول من الهجوم إلى الدفاع؛ بعد أنْ لاحت في الأفق بوادر التغيير على صعيد جميع المحاور.
انتصارات صغيرة
في حساب عبد الرقيب عبدالوهاب رئيس هيئة الأركان، أنَّ 40 عملية عسكرية – هي مجموع العمليات التي جرت خلال تلك الفترة، وأتبع تصريحه بالقول: «كان علينا أن نحرز كل يوم انتصارًا صغيرًا، ومن مجموع هذه الانتصارات الصغيرة يتحسن الموقف يومًا بعد يوم، حتى نتمكن من احراز نصر كبير».
وعلق جار الله عُمر – أحد أبطال تلك الملحمة – على ذلك: «وليس من المبالغ القول بأنَّ كل ساعات الليل والنهار كانت مشحونة بشتى الأفعال والحوادث، اشتباكات عديدة هنا وهناك، تقدم وتراجع على هذا المحور أو ذاك، استشهاد وبطولات جماعية لا تُحصى، تتعاقب مشاهدها دون أن تعار في غمرة الصراع العنيف اهتمامًا يُذكر، وكل يوم تقريبًا حافل بالأعمال، حتى غدا كل يوم تاريخًا بذاته».
مع نهاية الحصار، صرح الفريق العمري لوسائل الإعلام أنَّ مجموع الهاونات والمدافع الصاروخية التي كانت تصلي صنعاء بحممها، تجاوز الـ 100 مدفع، فيما قدرت القذائف التي سقطت داخل العاصمة بحوالي 3,000 قذيفة.
ضحايا كُثر سَقطوا جراء القصف العشوائي، وكم من قَذيفة تجاوزت هدفها المرصود، خاصة خلال الأيام الأخيرة للحصار، وطالت مُواطنين أبرياء، إلى باب اليمن وصلت قذيفة، وإلى باب السباح وصلت أخرى، وبين البابين فتحت أبواب جهنم، وتوزع عشرات الضحايا ما بين قتيل وجريح، وإلى شارع جمال وصلت ذات نهار رمضاني، وقبل أذان المغرب قذيفة ثالثة، وأجبرت أروح تسعة عُمال مجهولين على المُغادرة.
الجثث مُلقاة على الأرض، والدماء تسيل فوق الإسفلت، وكان أغلب ضحايا ذلك القصف العشوائي أشخاصًا مجهوليين، شوهت القذائف ملامحهم، وحالت دون التعرف عليهم، وغير العمال التسعة السابق ذكرهم، ترصد القصف الإمامي ثلاثة عمال كانوا مارين في حي الإذاعة، ومثلهم شخصين في جامع الأبهر، وفي حارة بردم قتل حمود شريان وبجانبه أيضًا شخصين مجهولين أحدهما أعمى.
حتى الجامع الكبير، ومدرسة البنات الوحيدة، ومنازل المواطنين المهترئة لم يسلموا من القصف، مثل منزل أحمد حميشان بباب اليمن، قتلت فيه زوجة الأخير، ومَنزل شخص ثالث يدعى عادل أو بشير بقاع العلفي، وكان أقساها قصف منزل الحاج محمد الكتف بباب النهرين أواخر يناير 1968م، حيث قتل الأخير وبجانبه 17 شخصًا، وكذلك منزل الحاج علي العوبل، وقتل الأخير أيضًا، ومعه جميع أفراد أسرته.
لم يكد ينتهي يناير 1968م حتى بدأ مركز الجمهوريين يتقوى من الجو، 30 طائرة روسية وصلت للتو، أوكلت مهمة قيادتها لطيارين يمنيين تخرجوا حديثًا، بمساعدة طيارين سوريين، وروس، كثفت القوات الجوية من هجومها، وفي جُحانة كان ثمة تجمع لحشود قبلية، أحد الطيارين المُستجدين رمقهم من الجو، أبلغ القيادة، تم قصفهم، فكانت تلك الانتكاسة ضربة قاصمة أصابت الإماميين في مقتل.
القوات الجوية اليمنية التي تشكلت خلال أيام الحصار كان لها الدور الأكبر في حسم المعركة، سجلت حضورها الفاعل خلال المعارك الأخيرة، وأوكل إليها تنفيذ مهام عسكرية ضد الإماميين ومرتزقتهم، وملاحقتهم، ومُراقبة تحركاتهم، وإلقاء القنابل الضوئية على مواقع العدو ليسهل ضربها، بالإضافة إلى تأمين وصول التموين العسكري والغذائي لأبطال الحصار، ورغم الأحوال الجوية السيئة، أدى الطيارون اليمنيون مهامهم باقتدار فائق، وسقط منهم ثلاثة شهداء.
حَلَّ شُباط – فبراير 1968م، بدأت بوادر الحسم تلوح في الأفق، ومن3 إلى 8 من ذات الشهر، كانت معارك عَيْبَان الأخيرة تحجز صفحاتها بزهو في كتب التاريخ.
كطرفي كماشة، وتحت ستار كثيف من الضباب، وزخات خفيفة من المطر، أطبقت حشود النصر على القوات الإمامية المُتمركزة هناك، قوات مُسلحة ومقاومة شعبية خرجت من صنعاء بقيادة النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب، ومن الحديدة خرجت قوات أخرى مدعومة بقوات شعبية قوامها 5,000 مقاتل، بقيادة الشيخ أحمد عبد ربه العوضي، مسنودة بسلاح الطيران.
وقد شوهد النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب في تلك المعارك وهو يحمل جهاز اللاسلكي على ظهره للاتصال بقادة الجبهات، في الوقت الذي يحتزم فيه بقنابله وذخيرته، ويحمل على كتفه رشاشه السريع، وتحدث مقربون منه أنَّه كان يستبسل في مواجهة العدو، ويقوم بضرب النار حتى تسيل الدماء من أذنيه.
كغير العادة كان صباح 8 فبراير 1968م زاهيًا مُشرقًا، تحطمت فيه متارس الإماميين، وفروا تاركين مئات القتلى، وعشرات المدافع، وفي منطقة متنه التحمت قوتا النصر، شاع الخبر فتوافدت الجماهير مُحتفية، أعتلا الفريق حسن العمري إحدى الدبابات، مُقدمًا الشيخ أحمد العواضي بطلًا للنصر، مُنهيًا خلاف استمر لشهور بين الرجلين.
واصل الشيخ العواضي مسيره وقواته صوب صنعاء، دخلوها دخول الفاتحين، بعد أنْ قصفوا المواقع الإمامية في بيت بوس، وأرتل، وحدة، فيما تمركزت القوات القادمة من صنعاء، في جبل عَيْبَان، والمناطق التي تمت السيطرة عليها، وكانت معركة فتح طريق الحديدة بداية النهاية للقوات الإمامية، وفقد الأمير محمد بن الحسين – حد تعبير ديفيد سمايلي – فرصته الأخيرة.
حصل بعد ذلك – كما أفاد جار الله عُمر – نوع من التداعي السيكولوجي الشامل بين صفوف القيادات الملكية ومقاتليها، وتحول الغرور والتبجح المُفرط الذي كان شائعًا بين الأوساط الملكية قبل يوم من معركة إعادة فتح الطريق إلى حالة من اليأس المُطلق، ثم الشعور بالإحباط، وما نجم عن ذلك من الانقسام والتمزق، وتبادل الاتهامات عن مسؤولية الهزيمة، تبعه تخلي كثير من المقاتلين الملكيين عن عدد من المواقع على نحو غير متوقع، ومن دون قتال، وكما كانت تلك الحرب أكثر أيام اليمنيين صعوبة، وأشدها قسوة ومعاناة، إلا أنَّها في الوقت ذاته كانت الأجمل والأعظم مجدًا على الإطلاق.
أربعينياتُنا فيها رَفَضْنا، وضُحى سبتمبرٍ فيه رَفَضْنا، ومـدى السبعيـين يومًا قد رفضنا، وسنمضي رافضـين، صنعاء العصية على السقوط أصبحت مدينة مفتوحة، تلاشت من حولها كمائن الونيت، وحمم الهوزر والهاون، وطغت على الجميع نشوة احتفاء بنصر حاسم واستثنائي.
قال أحدهم إنه يشبه موقعة الخندق حين تبددت تحالفات القضاء على هذا الدين الحنيف، وقال آخر إنه يشبه حصار لينغراد حين انحسرت قوة نازية كبرى كانت تجتاح العالم دون توقف، أحس داعمو التخلف أنَّ روح الثورة قد تتجاوزهم، فبادروا إلى حلول لم ترضي المُنتصرين؛ لكنها حقنت الدمـاء.