منصور هائل
“إلهي أعني عليهم… أعوذ بك الآن من شر أهلي” الصغير أولاد أحمد.
***
يوم الجمعة ٣ نوفمبر ٢٠١٧، كان رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري، يقيم مأدبة غداء في قصره “الوسيط” ببيروت، على شرف وزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري آزولي، عندما بوغت بمكالمة من مكتب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تستعجله الانطلاق الفوري إلى الرياض لـ”قضاء إجازة آخر الأسبوع مع الأمير”.
اعتذر الحريري من ضيفته، وتوجه بطائرته الخاصة إلى العاصمة السعودية، وفي المطار كان في استقباله من قاموا بخفره واختطافه وإجباره على تلاوة بيان استقالته الذي كان جاهزًا، وتردد وتلكأ في البداية، إلا أنه لم يكن يملك أي خيار آخر غير الرضوخ لرغبة الأمير.
يومها توحد لبنان المنقسم، وأثار موضوع اختطاف رئيس حكومته في كافة المحافل، وتحركت فرنسا بقوة أدواتها الدبلوماسية والسياسية، ودخلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على الخط، ولوحت باريس بتصعيد الموقف وإثارته في مجلس الأمن.
ورضخت المملكة، وكان عليها أن تطلق سراح الحريري. وفي تلك اللحظة، أيضًا، تقصدت الإمعان في إذلاله بتحديد أبوظبي كأول محطة لطائرته، لإلقاء السلام على أكثر شخصية يكرهها وتبادله نفس الازدراء: الأمير محمد بن زايد، واقتصر اللقاء الصوري على التقاط صورة ناضحة بازدواج وامتزاج الانكسار بالاستعلاء.
بعدها واصل الحريري رحلته، ليحط في باريس، ويستقبله الرئيس إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه، وليستكمل، لاحقًا، وجبة الغداء مع وزيرة الثقافة الفرنسية.
طبعًا، لا مجال للمقارنة بين محنة الحريري التي تبدو هينة بالقياس إلى محنة آخر رئيس للجمهورية اليمنية، كما لا يتسع المجال للتندر بسؤال: مع من تناول عبد ربه الغداء، بل “العشاء الأخير”، قبل أن يقاد متسرنمًا، في فجر ٧ أبريل ٢٠٢٢، ليلقي ديباجة بيان استقالته أو الانقلاب عليه، الذي سُلق على عجل في مطبخ اللجنة السعودية الخاصة.
لقد جرت العادة أن يتناول الغداء و”القات” الذي يصله يوميًا بسيارة خاصة، وتحت نظر اللجنة الخاصة، مع أبناء قومه الذين خذلوه وأكلوه، فما بالك بأن يهبوا إلى نجدته واستنكار ما حاق به، ولو من قبيل المراعاة لرمزية المنصب ودلالاته، ولما تعنيه الجمهورية بالنسبية لليمنيين على كل العلات التي اكتنفت ميلادها الذي طالما كان محكومًا بالحصار والخناق والاحتضار.
على العكس من النخبة اللبنانية، توحدت النخبة السياسية والقبلية اليمنية، أو جلها، على مباركة التطويح برئيس الجمهورية التعيس، وذلك هو ديدنهم.
وكما جرت العادة، سارع هؤلاء “النخبة” إلى مباركة المجلس البديل، دونما التفات أو تمعن في حمولة المسمى.
وجرى تدشين عهد خلطة هجينة، شيطانية، وجهنمية، بمسمى “مجلس القيادة الرئاسي”.
هنالك من ذهب إلى أنه مجلس مناصفة بين الشمال والجنوب، للتعمية على واقع أن اليمن صارت بلا بوصلة ولا جهات، وعلى حقيقة أن المناصفة تمت بين قطبي “التخالف”.
لقد ثبت بالبرهان، على مر الأزمان، أن كل مناصفة وأية مناصفة أكانت بين اليمنيين أو بين أعراب المنطقة، تستبطن الحرب، وتنطوي على الحرب، وقد كان بيان ٧ أبريل بمثابة إعلان طور جديد من الحرب، وإعلان اليمن غنيمة حرب، ولذلك لم يكن غريبًا أن يحتدم التنافس وصراع المصالح والنفوذ بين السعودية والإمارات في المناطق والمحافظات “المحررة”.
وعلى قدر ما جرى التطبيع مع المليشيات على أنقاض مشروع الدولة الوطنية الذي لم ينجز، وعلى جثة “الشرعية”، فقد تسارعت وتيرة الاستثمار في تدوير مخلفات النظام السابق، وبقايا السلطنات والمشيخات البائدة، الاستثمار في أمراء الحرب، وفي موروث الانقسامات والحروب السابقة، وفي المتحولين -ليس جنسيًا بالضرورة- من الواجهات اليسارية والثورية الراديكالية إلى مربع التسول والارتزاق والسباق على كسب ود الأمراء الأغرار.
وفي الأشهر والأسابيع الأخيرة، استعرت حمى تشكيل المليشيات والمليشيات المضادة، وعقد المؤتمرات والمؤتمرات المضادة، و”المكونات” والمكونات النقيضة، وتكاثرت الفصائل المسلحة على نحو بكتيري وتدميري، وتضافرت مؤشرات الانفجار في أكثر من جبهة، ولأكثر من حرب مفتوحة لا تلوح لها نهاية، وسالت الكثير من الريالات والدراهم والدولارات على كل هذه الكيانات والكائنات بسفه لا مثيل له.
وكما يشتعل ويحترق السودان من الخرطوم إلى دارفور، وبمشاركة مميزة من القوات السودانية التي حاربت في اليمن، تدور المواجهات بين الرياض وأبوظبي، عبر الأدوات المحلية هنا، ويجري تأهيل اليمن لحروب طاحنة على الموارد والثروات والمنافذ والممرات.
… لقد خسرت اليمن كل جزرها الـ100، وموانئها وسواحلها، وصارت ممراتها الملاحية في مرمى نيران القوى المتصارعة عبر أدوات محلية هجامة وعمياء ورخيصة، وغدت أجراس الخطر تقرع في العواصم الغربية، وتتوجس من خطر انفجار الوضع في باب المندب، وتهديد الاقتصاد والسلام الدوليين.
الواضح أن ساعة التدخل الدولي المباشر قد حانت لوضع حد للصراع الإماراتي السعودي.
تلك هي محصلة الرهان والارتهان على الخارج، وهي محصلة مُرة وكارثية تمثلت في تدخل وحشي، همجي على نحو لا يوصف، وكيف يمكن وصف حال هذه البلاد التي تعرضت لأكبر كارثة جيوسياسية ووجودية في تاريخها.
والحال أن هذا التدخل لم يأتِ إلا من باب هشاشة الداخل، ولم نصل إلى قعر هاوية التشظي والتذرر والتناثر والتناحر إلا بسبب من الابتلاء بنخبة معطوبة وسلطة فاسدة متعفنة استدرجت إلى البلاد كل الضواري والهوام والجوارح، من برية صحراء جزيرة العرب وبلاد فارس، ولا يستبعد أن القادم “فاجنر” الضالعة حاليًا، بنشاط، في السودان وليبيا وسوريا، في سياق تعميم وتعويم الملشنة عربيًا.