عمران الحمادي
خيوط
لافتٌ هو الحضور المتزايد لموضوعات التاريخ في كتابة الرواية اليمنية الجديدة، والذي لم يقتصر على عنونة الأعمال بشيء يشير إلى ذلك، بل تجاوزها إلى مقاربة وقائع وأزمنة تاريخية محددة في تفاصيل النص، وصولًا إلى استلهام الأسماء من مدلولات أسماء تاريخية.
تأتي رواية “بخور عدني” للروائي اليمني علي المقري ورواية “حصن الزيدي” كأبرز المؤلفات الروائية التي وظفت التاريخ لخدمة رؤى الكاتب، فيذكر المقري في صفحات الرواية مدينة عدن بأماكنها ولهجتها المحلية وتفاصيل الحياة اليومية فيها، مقدمًا المدينة للقارئ من استلهام أبرز الرموز المعبرة عنها، وهو البخور، في عنونة النص، وإن كان اشتغاله الأهم في النص على موضوع تعدد المدينة وتسامحها وتعايش سكانها.
في المقابل، يذهب الغربي عمران في روايته «حصن الزيدي»، إلى اتخاذ التاريخ بوابة لأحداث الرواية وخطابها، والتي كشفت طبيعة المجتمع القبَلي، حيث الاقتتال القائم على أسس دينية وطائفية في فترة أواخر مراحل الإمامة الزيدية.
الكاتب فيصل دراج، في كتابه الرواية والتأويل التاريخي، أشار معتبرًا الرواية بأنها مزيج ما بين الواقعي والمتخيل، وهو مستند تندرج تحته مُعظم المؤلفات الروائية في اليمن، التي وجدت الواقع المملوء بأحداث تاريخية موطنًا خصبًا لكتاباتٍ مستمرة حتى اللحظة وكأنها أخذت على عاتقها حملَ بعضٍ من أحداثه بفنّ الرواية.
متحدثًا في الفصل الثاني من الكتاب عن علاقة التاريخ بالرواية، مشرعًا سببية التاريخ الذي صنع إعاقة كبيرة للرواية العربية، وهو توصيف اقترب كثيرًا من الرواية في اليمن؛ الجغرافية التي شهدت خلال قرون متعاقبة أحداثًا تاريخية رغم واقعيتها وإماتة بعضٍ منها، ولا تزال تُمثّل نقطة انطلاق نحو رواية خيالية ثيمتها التاريخ. كثيرٌ من القراء والباحثين يجدونها مخلّة بتفاصيل بعض الأحداث، وإهمال البعض الآخر لحقائق متعددة تحت حكم الضعف والقصور نتيجة حضور التاريخ(*).
لا يزال العديد من كتّاب الرواية يستقطعون فترة محددة من أحداث تاريخية متعينة، أو زمن متاح، أو مكان واضح إلى عوالمهم السردية، ومنها ينتجون أعمالًا ممتزجة بالتاريخ القريب والبعيد، مثل رواية “سوق علي محسن” للروائية نادية للوكباني، ورواية “سم الأتراك” للكاتب عبدالله عباس الإرياني، ورواية “جدائل صعدة” للروائي مروان غفوري وغيرها، ولا يمكن الجزم بالقول إنها رواية تاريخية بامتياز على عكس السمة البارزة بتوظيف التاريخ كمدخلٍ لكتابة الرواية في اليمن.
أعمال عديدة تشتغل في هذه المساحات، لا تزال محل اعتراض السلطة والمجتمع المحافظ، في عملية تعارض مستمرة ومتجددة بشكلٍ أو بآخر، فكاتب الرواية وهو يأخذ هذه السمة مسرحًا لإبداعه، يُقدم رأيًا بشكل غير مباشر عن شخصية تاريخية أو فترة محددة، لها أهميتها في المجتمع، تقابله السلطة الحاكمة الملتزمة والمجتمع التابع في غالبيته إلى محدداتها بالاعتراض، بل وتعتبره تجاوزًا وإخلالًا وتشويهًا للتاريخ، وينعتونه بأدب المنظمات العالمية الساعية لتشويه صورة اليمن، فلم نزل نذكر كيف تم توجيه تهمة تشويه صورة “أروى الصليحي” في رواية مملكة الجواري للروائي الغربي عمران، التي يقول عنها الكاتب:
“أروى في روايتي «مملكة الجواري» ليست أرواهم، بل هي أرواي، وما أنسجه هو نتاج خيال محض، فأنا لا أقترب من كتب التاريخ التي تؤله وتصنِّم الفرد. أرواي ملكة داهية سيطرت عليها شهوة السلطة، فحكمت بجواريها مستغنية عن الذكور، فلم يكن لها جيش إلا من النساء، هذه روايتي التي أنتجها خيالي، ولم تنتجها بطون الكتب”.
تتقاطع شخصيات روائية لها ارتباطاتها التاريخية ضمن عناوين روائية كصانعة حدثٍ مهم، تقاطعًا يُعاد توظيفه، بقالبٍ جديد يذهب إلى الاختلاف مع مرويات الواقعة التاريخية، في عملية كأنها إعادة إصلاح سيارة معطوبة من جديد.
صوتٌ في المجتمع اعترض على ما كتبه الروائي علي المقري في السياق التاريخي، خصوصًا في روايته “اليهودي الحالي”، ورواية “حرمة” بحمولاتها الإيروتيكية، حيث برزت السلطة القامعة حين تقرأ المنتج الأدبي بوصفه انشغالات تاريخية محكمة وليس خيالًا، وهذا هو الخطأ بعينه.
تتقاطع شخصيات روائية لها ارتباطاتهاضمن عناوين روائية كصانعة حدثٍ مهم، تقاطعًا يُعاد توظيفه، بقالبٍ جديد يذهب إلى الاختلاف مع مرويات الواقعة التاريخية، في عملية وكأنها إعادة إصلاح سيارة معطوبة من جديد، وتشير إلى ذلك بعض روايات الغربي عمران.
رواية “الحقل المحترق” للروائي ريان الشيباني، اشتغالٌ على زمن تاريخي محدد، وهو السنوات الأخيرة من الاحتلال التركي لليمن مطلع القرن العشرين، ورواية “نبوءة الشيوخ” للكاتب بسام شمس الدين التي تستلهم التاريخي وتعيد توظيفه سرديًّا، إلى جانب العديد من المؤلفات الروائية المشبعة بالمادة التاريخية، ويعاد تفكيكها لصالح النص الجديد.
فما يُكتب من روايات في هذا الجانب وإن أمسك المؤلف بصنائع التاريخ، تتحول في النص المكتوب إلى تمرد على التاريخ نفسه، وكأنها تعيد تصحيح الوضع بحسب رؤية المؤلف، الذي عادة ما يرافق المؤرخ في حبكاته، لكنه يتركه في منتصف المسافة، ليعيد هو كتابة التاريخ بخيال بديل.
(*) “الرواية وتأويل التاريخ – نظرية الرواية والرواية العربية”، للدكتور فيصل دراج، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، 2004.