فيما يشبه التحية والوفاء للأستاذة فتحية
قاسم المحبشي
الإنسان مع الناس والشيطان وحده! تلك الحكمة
الشعبية البليغة التي سُطرت في الذاكرة من زمن الطفولة لا ادري من صاحبها؟ ومتى سمعتها على وجه التحديد؟ ولكنها خطرت على بالي وأنا أتصفح مقالا في أثر الجماعة بالفرد المتعين. وهذا ما جعل ذاكرتي تنفتح على لحظة زاخرة بالحيوية والإيجابية في حياتي الجامعية، إذ تذكرت أيامي في سنة ثانية بكالوريوس. كان ذلك عام 1984م إذا لم تخني الذاكرة. في ذلك العام الجامعي درست مادة علم آلنفس الاجتماعي على يد الاستاذة الفاضلة فتحية منقوش أم عفراء ووضاح الحريري اطال الله عمرها ومتعها بالصحة والعافية. ربما كانت السيدة المدنية العدنية الوحيدة التي تعبر عن روح المدنية وقيمها الثقافية الراقية. لم تكن تعرف احد من طلابها معرفة شخصية إذ كانت تعامل الجميع بروح أكاديمية عالية الجودة والنزاهة. بالنسبة لي تعد الاستاذة فتحية منقوش من الاساتذة الذين اثروا في حياتي تأثيرا طويل المدى. أكاديمية
مثقفة بدون مزايدة. كانت حازمة بحنية وصارمة بلطف وعادلة بثقة إذ لم نشعر معها باي ظلم أو أو تحيز أو مجاملة أو تجني في الاختبارات والدرجات. لم تسألنا عن اصولنا ولا انتماءاتنا ولا مواقفنا ولا اتجاهاتنا كما يفعل معظم معلمين هذه الأيام؟!. كانت تعاملنا بوصفنا طلابها على درجة واحدة من الاحترام والتقدير والتقييم والقياس. منحتني اعلى درجة في الدفعة 92 بتقدير ممتاز ولم اراجعها أبدا. كانت درجتها بالنسبة لي هي المعيار الحقيقي لمدى تمكني من الفهم والاستيعاب للدرس الأكاديمي ولا زلت اتذكر مشاعر الفرح وانا اقرأ نتيجة الامتحان النهائي في علم النفس الاجتماعي وهي بالمناسبة أقل درجة من الدرجات التي أحرزتها في بقية المواد ولكنها أهمّها قيمة وأهمية واعتبار بالنسبة لي. حقا ثمة معلمين واساتذة يبقى أثرهم في القلب والذاكرة مهما بعدت السنين وأنا هنا اعترف لأول مرة بالأثر الايجابي العميق الذي بقي في نفسي من أستاذة علم النفس الاجتماعي آلعزيز فتحية منقوش. إذ تعلمت منها إن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يستحيل عليه العيش بمفرده ومع ذلك يظل يتمنى إن يكتفي بذاته ويستغني عن الآخرين؛ فالاكتفاء بالذات والاستغناء عن الآخرين، أغلى الأمنيات الإنسانية المستحيلة.
تعلمت من الاستاذة فتحية منقوش النظر إلى الأفراد في سياق علاقاتهم الاجتماعية فسلوكهم وموقفهم حتى وأن بدت فردية فهي محكومة بالاكرهات الاجتماعية إذ تقوم حياة الناس الاجتماعية وتتشكل الجماعات والمجتمعات البشرية وتنمو وتستمر وتستقر وتزدهر في سياق اجتماعي تاريخي ثقافي علائقي تفاعلي يتكون من أربعة انساق أساسية( فاعل، فعل، علاقة ، بنية) وما ينجم عنها من مظاهر وظواهر وأشكال ورموز وقيم وتمثلات يعاد صياغتها وبناؤها باستمرار في خضم عملية ممارسة الفاعلون الاجتماعيون لحياتهم المتعينة ماديا ومعنويا واقعيا وافتراضيا بمختلف صيغ وصور وأنماط تمظهراتها العلائقية ؛ بين أنا _ أنت ، ذات _ أخر _ نحن _ هم وغير ذلك من اشكال العلاقات الاجتماعية المتغيرة باستمرار والتي لا تدوم على حال من الأحوال وتجلياتها المختلفة والتي بدونها يصعب الحديث عن الظاهرة الاجتماعية بوصفها ظاهرة قابلة للرؤية والدراسة والفهم. والإنسان يشترك مع غيره من الناس في كثير من الأفعال. ويشترك معهم بكل شيء ويختلف عنه بكثير من الأشياء. الحالة الأولى هي موضوع العلوم الاجتماعية والثقافية والحالة الثانية هي موضوع علم الأحياء والعلوم المتاخمة والحالة الثالثة هو موضوع علم النفس والعلوم النفسية وكل فعل يتضمن فاعلين اجتماعية، ويسمى الفعل اجتماعيًا حينما يحدث بين فاعلين أو أكثر هي: ميكروسوسيولوجية وماكروسوسيولوجية صغيرة وكبيرة. وكل فعل اجتماعي يتضمن علاقة اجتماعية، وحينما تتكرر تلك العلاقة تتشكل في بنية أو أطار أو مؤسسية. وحينما تزاوج آدام وحواء لأول مرة تكونت الأسرة النووية وبتكرار التزاوج بين الفاعلين الاجتماعيين عبر الألف السنين واستمرارها تكونت البنى الاجتماعية؛ بنية الأسرة والقرابة والعشيرة والقبيلة والقومية والأمة والإنسانية الأممية اليوم. وبنية المؤسسة التعليمية إذ تحول فعل الدراسة والتدريس إلى علاقة ببن الطالب والمعلم وبتكرار تلك العلاقة تحولت إلى مؤسسة؛ الروضة والمدرسة والجامعة وكل مؤسسات التعليم والتربية التي لا يمكن لها أن تستمر وتدوم إلا باستمرار الفاعلين والعلاقة. والدين مؤسسة تكونت عبر فعل العبادة بين العابد والمعبود بكل اشكالها وأنماطها وبتكرر ذلك الفعل كل يوم وعبر الأجيال منذ الألف السنين بقيت واستمرت المؤسسات الدينية حول العالم . خذ أي ظاهرة أجتماعية وانظر اليه من زاوية نظر منهجية تكاملية ستجدها لا تخرج عن ذلك السياق العام. وبما أن المجتمع حالة متغيرة ومتحولة من حال إلى حال ولا تدوم في نقطة متجمدة فقد ميز علماء الاجتماع وأولهم أوغست كونت بين حالتين للظاهرة الاجتماعية؛ الحالة الديناميكية الحركية والحالة الاستاتيكية الثابتة نسبيًا. وتؤكد نظرية الثقافة على أهمية التعددية الثقافية كمعطى جوهري وحيوي للحياة الإنسانية، اذ أن الفرد في المجتمع يتفق مع بعض الناس في كل النواحي كما يتفق مع بعض الناس في نواح أخرى، ولا يتفق مع أي من الناس في نواح ثالثة.وتهتم علوم البيولوجيا والفسيولوجيا بدراسة الجانب الأول، كما تهتم علوم النفس بدراسة الجانب الثالث، اما الجانب الثاني فيشكل مجال اهتمام ودراسة علوم الاجتماع والانتروبولوجيا والجغرافي والدراسات الثقافية والفلسفة.
ولما كان الإنسان هو الموضوع المحوري لتلك العلوم بوصفها مجموعة متواشجة من العلاقات الاجتماعية فمن المهم أن تتكامل جميع العلوم في دراسته إذ لا يمكن لدراسة الفلسفة أن يفهم الكائن بدون فهم علم النفس ولا يمكن لعالم النفس أن يفهم الإنسان صحيح وهذا هو ما يفسر الارتباط العضوي بين الفلسفة وعلم النفس فمعظم الفلاسفة الكبار منذ الفكر الشرقي القديم مرورا باليونان وحتى الآن لم يقفلوا النظر إلى النفس البشرية ومدراتها الميتافيزيقية وكثير من عالما النفس يعدوا فلاسفة ومنهم فرويد وجان بياجية ولانج واريك فروم ولاكان وإبراهام
ماسو وغيرهم.