بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي ، الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (6-6)
بلال الطيب
أثناء سيطرتهم على المناطق الشمالية عمل الأيوبيون ومن بعدهم الرسوليون على تنصيب ولاة من قبلهم على تلك المناطق، كان أغلبهم من الأكراد، وحين ضعفت الدولة الرسولية، استقر غالبية هؤلاء الأمراء ومماليكهم في ذمار، استغلوا الصراع الزيدي – الزيدي، وصاروا صُناع أحداث داخل دولة الإمامة نفسها، في سابقة لافتة لم تشهدها تلك الدولة الثيوقراطية من قبل.
لم يسيطر المهدي علي بن محمد على مُعظم المناطق الشمالية إلا بمساعدة هؤلاء الأمراء، ومماليكهم، زوج ولده الناصر صلاح الدين من فاطمة بنت الأسد بن إبراهيم الكردي، واستطاع بمساعدة والدها الأمير تثبيت أركان دولته، بعد أن جعله واليًا على ذمار، وكانت نتيجة تلك المصاهرة حفيده علي، الذي تولى الإمامة يوم دفن والده الناصر في صنعاء ذي الحجة 793هـ / نوفمبر 1391م، وعمره آنذاك 18 عامًا.
مُبايعة المفضول!
تلقب الإمام الصغير بـ (المنصور)، وبويع بصنعاء في نفس اليوم لقريبه الأكبر منه بعشر سنوات أحمد بن يحيى بن المرتضى، تلقب الأخير بـ (المهدي)، وهو جد أسرة شرف الدين، مال كثير من العلماء حينها لصف مُعارضه، وذلك بعد أخذ ورد فيما بينهم حول من يستحق الإمامة، تخلى بعضهم عن شرط الاجتهاد، وقالوا صراحة بجواز مُبايعة المفضول مع وجود الفاضل.
رغم أنَّ المهدي أحمد كان الأكثر علمًا ودراية، وتمت مبايعته وفق شروط المذهب الزيدي المُتعارف عليها، مال غالبية علماء الزّيدِيّة عنه، ليتهمهم ابنه الحسن كاتب سيرته بأخذ رشوة من منافسه، وكان أشهر المتهمين القاضي عبدالله بن حسن الدواري، والعلامة محمد بن إبراهيم الوزير.
استغل عدد من أمراء وأعيان المناطق الشمالية ذلك الصراع، ورفعوا من خارج صنعاء راية العصيان، عددهم صاحب (غاية الأماني) بقوله: «فإن أول من أظهر الخلاف الأمير إدريس بن عبدالله بن داؤود، والداعي ابن الأنف صاحب ذي مرمر، وقبائل همدان كالهبريين، وبني مكرم، وبني حاشد، وجشم، وغيرهم من أهل خولان، ونهم، وذيبان، وبني شهاب، وسنحان».
أما المهدي أحمد فإنَّه وبعد أن رأى ميلان غالبية علماء الزّيدِيّة لمنافسه القوي؛ خرج إلى بيت بوس مُتمردًا، وهناك حاصره المنصور علي لـ 13 يومـًا، ليذعن بعد أن تدخل القاضي الدواري للصلح، على أن يتم مُناقشة أمر الإمامة من جديد، واختيار من هو أهل لها.
عاد الجميع إلى صنعاء، وبدأ الإمامان في تحشيد أنصارهما، وعلى غفلة من منافسه الذي تقوى بوالدته، وبأخواله الأكراد، ومماليكهم، خرج المهدي أحمد إلى القبائل الشمالية، حظي بمساندتها، ومساندة الحمزات، استولى الأخيرون على صعدة، وحاصروا صنعاء لثلاثة أشهر، وكانت بالفعل على وشك السقوط.
دارت حروب وخطوب بين الجانبين، وفي أكثر من جهة، انتهت مُنتصف عام 794هـ بأسر المهدي أحمد في معبر، وقتل 80 رجلًا من أصحابه، اقتيد بصورة مُخزية إلى صنعاء، وفيها تم حبسه مُكبلًا، وإلى المنصور علي كتب الهادي بن إبراهيم الوزير مُستعطفًا في فك قيود الإمام الأسير، وقال:
فقلــت له فـــداك أبـي وأمي
تلطف بالقــرابة والـرحـامـــة
فــإن الســـيد المـهـدي منكم
بمنـــزلــة تحـق لـه الفخامـة
ومن هجرة قطابر أعلن علي بن المُؤيد بن جبريل ذو الـ 40 عامًا نفسه إمامًا محرم 796هـ / نوفمبر 1393م، مُتلقبًا بـ (الهادي)، وقيل قبل ذلك، مُؤسسًا دولة زيدية في شمال الشمال، وهو أيضًا من نسل الهادي يحيى، وجد آل المُؤيدي، وممن بايعوا المنصور علي عام قيامه، حاول الاستيلاء على مدينة صعدة، وبويع له في خولان الشام، والأهنوم، وبلاد الشرف.
بعد سبع سنوات وأحد عشر يومـًا من الحبس نجح المهدي أحمد بالهرب، تنقل بين عدة مناطق، ثم توجه إلى فللة في صعدة، حيث الهادي علي، تحالف مع الأخير، وقيل أنَّه تنازل له عن الإمامة، ليقضي المنصور علي – فيما بعد – على تلك الدولة الضعيفة، أخذ صعدة بعد حصار دام سنين، فيما استمر المُؤيدي في ضواحيها، مُحأولًا استعادتها حتى وفاته محرم 836هـ / سبتمبر 1432م.
أما المهدي أحمد فقد ظل مُتنقلًا من منطقة إلى أخرى، مُنكبًا على الاطلاع والكتابة، كانت ظفير حجة محطته الأخيرة، وسبق له أن ألف أثناء فترة حبسه كتاب (متن الأزهار) المرجع الأشهر في الفقه الزيدي، وفيه ظهر تعصبه المذهبي وبقوة، بدليل قوله الدعائي في ذات الكتاب:
إذا شئـت أن تختر لنفسك مذهبًــــا
ينجيـك يــوم الحشر من لـهب النار
فــدع عنــك قـول الشـافعي ومالك
وحنبل والـمروي عــن كعب الأحبار
وخـــذ من الناس قولـهـم ورواتـهم
روى جـدي عن جبرائيل عن الباري
وفي المقابل لم يكن المنصور علي مُتعصبًا لمذهبه؛ بل كان على وفاق مع علماء السنة، عكس والده وجده، استناب الفقيه أبو الحسن علي بن يحيى العمراني على صنعاء قاضيًا وحاكمـًا، رغم أنَّ الأخير شافعي المذهب، ولم يأبه باعتراض مُتعصبي الزّيدِيّة على ذلك، وإليه قدم بعض علماء تعز وإب راجين عطائه.
كان عهد المنصور علي أقرب إلى الملك؛ لأسباب عدة، أبرزها أنَّه لم يكن مستوفٍ لشروط الإمامة، كما كان لأمه الكردية، ولمماليك جده ووالده دور بارز في ذلك التحول، كانت والدته قوية مُهابة، أدارت الحكم أثناء غيابه عن صنعاء باقتدار، وكانت تباشر بنفسها تجهيز الحملات العسكرية إلى المناطق المضطربة القريبة والبعيدة عن ذات المدينة، ومنعتها من السقوط أكثر من مرة.
كانت علاقة المنصور علي بالرسوليين في أغلب فترة حكمه التي تجاوزت الـ 46 عامًا هادئة إلى حدٍ ما، أرسل بداية عهده بهدايا الصداقة للسلطان الأشرف الثاني إسماعيل جمادى الآخر 799هـ / مارس 1397م، آخر سلاطين بني رسول الأقوياء، كان الأخير بشهادة كثير من المُؤرخين كريمًا مُهابًا، أعلنت معظم القبائل الزّيدِيّة خاصة تلك القريبة من حدود دولته ولاءها له، وكذلك فعل بعض الحمزات، أرسل جميعهم وفودهم إليه، ونالهم من عطائه الكثير.
استغل السلطان الرسولي الصراع الزيدي – الزيدي، وحاول أكثر من مرة السيطرة على ذمار، وحين فشل؛ اكتفى بالسيطرة على رداع بواسطة نائبه في تلك الجهة الشيخ طاهر بن عامر (جد الطاهريين)، وما أن شاع خبر وفاة ذات السلطان 18 ربيع أول 803هـ / 5 نوفمبر 1400م، حتى استعاد المنصور علي زمام المبادرة، وقام بعدة محاولات لاستعادة السيطرة على تلك المدينة، انتهت بعد ثلاثة أعوام بالصلح، وبأنْ تنازل له الطاهريون – حكام الدولة الرسولية في تلك الجهة – عن إحدى القلاع الحصينة.
كان عهد السلطان الرسولي الثامن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل مُستقرًا نوعًا ما، وذكر بعض المُؤرخين أنَّه وجه نشاطه بداية عهده إلى المناطق الجبلية، حيث استولى على حصن إرياب، والحقل، وأخرب مدينة يريم شوال 805هـ / أبريل 1404م.
كما وجه قواته بعد أربع سنوات لإصلاح جهات رداع 10 شوال 809هـ / 19 مارس 1407م؛ وذلك بعد أنْ أعلن الشيخ معوضة بن طاهر عصيانه، ثم عرج – أي السلطان الرسولي – بنفسه إلى تلك الجهة، فرجع الشيخ الطاهري إلى الطاعة، وتم الاتفاق بين الطرفين على الصلح، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك العام.
كما قام السلطان الرسولي بدعم مُعارضي المنصور علي من الحمزات والإسماعيليين على السواء، وقد استقبل وفودهم كوالده أكثر من مرة، وأغدق عليهم بأعطياته السخية؛ وهو الأمر الذي أغضب الإمام الزيدي، ليبدأ الأخير بشن غاراته على حدود الدولة الرسولية، أخذًا من الطاهريين حصني بلق، والقلة، فما كان من الأخيرين إلا أن استنجدوا بالناصر أحمد، فأنجدهم الأخير بحملة عسكرية إلا أنَّها – أي الحملة – تعرضت لهزيمة كبيرة، وقتل قائدها، وذلك أواخر عام 821هـ / 1419م.
توجه الناصر أحمد بداية العام التالي إلى رداع بقوات جرارة قادها بنفسه، أوقع بعساكر المنصور علي شرَّ هزيمة، وفتك بالكثير منهم، واستعاد الحصنين، وبلغ عدد الأسرى الإماميين أكثر من 1,600 ما بين فارس وراجل، عفى السلطان عن مُعظمهم، ولم يستبق إلا الأمراء وكبار القادة، أخذهم معه إلى مدينة تعز حاضرة دولته، وأقام هناك احتفالًا كبيرًا بتلك المناسبة 28 محرم 822هـ / 23 فبراير 1419م.
واصل المنصور علي تكرار غاراته، مُحاولًا طمس تلك الهزيمة، إلا أنَّه كان في كل مرة يتلقى هزيمة مُشابهة للتي قبلها، حتى إذا ما يئس من تحقيق النصر جنح إلى طلب الصلح، وهو ما حصل بعد عامين.
أما الطاهريون فقد أخذوا بعد ذلك في تقوية أنفسهم، في الوقت الذي أخذ فيه الرسوليون يزدادون ضعفًا، خاصة بعد وفاة السلطان الناصر أحمد 16 جمادى الأولى 827هـ / 15 أبريل 1424م، وتولي زمام الدولة الرسولية سلاطين ضعاف.
كما كانت للمنصور علي – كأبيه وجده – حروب كثيرة مع الإسماعيليين، اجتاح ثلا، ثم توجه صوب معقلهم الحصين في ذي مرمر، الذي عاد خلال العقود الفائتة لسيطرتهم، حاصره لسنة وثلاثة أشهر، وأخرج دعاتهم من بني الأنف منه شعبان 829هـ / يونيو 1426م.
كانت لآل محمد!
توفي المنصور علي في صنعاء محرم 840هـ / يوليو 1437م، وهو العام الذي حلَّ فيه وباء الطاعون، ومات بسببه الآلاف من اليمنيين، منهم مُنافسه المهدي أحمد، الذي لحق به في الشهر التالي، وولده الناصر محمد، الذي حكم لـ 40 يومـًا فقط، وقيل أقل من ذلك، لتتحكم زوجة الأخير الأميرة فاطمة بنت الحسن بن صلاح – وهي من تبقى من ذرية المنصور علي – ومملوك زوجها قاسم بن عبدالله بن سنقر بالأمر.
حين رأت الأميرة فاطمة عدم رضا العامة عنها، أجمعت ومساندوها على اختيار صلاح بن علي – من نفس الأسرة – إمامًا وزوجًا، تلقب الأخير بـ (المهدي)، وعزم بعد عدة أيام على التخلص من المملوك قاسم سنقر، إلا أنَّ الأخير أحبط محاولته، وزج به في السجن، لتنجح زوجته الأميرة فاطمة بإخراجه، أخذته معها إلى صعدة، وهناك كان لها الأمر والنهي دون منازع.
نَصَّب المملوك قاسم سنقر في صنعاء الناصر بن محمد إمامًا، ودعى الناس إلى بيعته، وصك العملة باسمه، وهذا الإمام من نسلِ المظلل بالغمامة، كان صغير السن، قليل العلم، تلقب بـ (المنصور)، تيمنًا بالمنصور علي جده لأمه مريم، لتنجح الأخيرة بتهريبه؛ وذلك حين وقع الخلاف بينه وبين ذلك المملوك المُتسلط، طلت وجهه باللون الأسود، وألبسته لبس الجواري، فتوجه من فوره مع سبع إماء إلى حصن هران في ذمار، واتخذه مقرًا له، وانضم إليه غالبية مماليك وعبيد جده.
الحمزات من جهتهم استغلوا ذلك الصراع، وأعلن المُطهَّر بن محمد بن سليمان الحمزي من الأهجر نفسه إمامًا، مُتلقبًا بـ (المُتوكل)، وهو أحد رجالات الدين، وأحد تلاميذ المهدي أحمد بن يحيى المرتضى البارزين؛ بل تزوج للأخير على التوالي بابنتين، استدعاه المملوك سنقر إلى صنعاء، وأعلن تأييده له، كما أيده عدد من العلماء، ليخرجا – أي الإمام الحمزي، والمملوك سنقر – معًا وقبل أن ينتهي ذلك العام لمحاربة المنصور الناصر، وفي قرية قريس بجهران كانت المواجهة.
استعان الإمام الناصر بالطاهريين، وبهم انتصر، أسر مُعارضه الإمام المُطهَّر، وأمر بحبسه، كما أمر بخنق قاسم سنقر كي يبدو موته طبيعيًا، وقيل أنَّه أراد بذلك تلافي غضب حلفائه الأكراد، ليدخل بداية العام التالي صنعاء دخول الفاتحين، وذلك بعد أن انتصر بالخديعة على زيد ابن المملوك الصريع (سنقر)، وذلك بالتزامن مع هروب المُتوكل المُطهَّر من سجنه في حصن الربعة بذمار.
تقوى بعد ذلك أمر الإمام المُطهَّر، توجه شمالًا، وحظي بمساندة بني عمومته الحمزات، وكانت أغلب حروبه مع المهدي صلاح، أخذ عليه صعدة، بعد أن ناصره سكانها، وإلى الإمامين أرسل الشاعر أحمد بن قاسم الشامي بقصيدة طويلة مُنتقدًا ومُحرضًا إياهما على التوجه جنوبًا، نقتطف منها:
هـلا سألت مطــهـــرًا وصـلاحا
هـلا حصل للمسلــميـن صلاحا
أم جهــزا جيشًا لبـلـدة طـــاهر
يـروي التـراب بـهـا دمًا سفاحا
ويذيق ساكنها الحِمام وتمتلئ
تلك النواحي والحصون نواحا
أو ليس أمـلاك الـمتوج طـاهر
ملـكـوا رداع وهيوة وصـبـاحا
تلك التــي كـانـــت لآل محمد
صدقًا وهم فيها مسًا وصباحا
فسـطا عليـهم شـافـعي سـالك
في مذهـب لكـنَّ فـيـه فسـاح
فـيـه الغنـاء مع البراعـة جائز
والطار والشطرنج صار مباحا
يا داعـيـان دعا العـنـاد وأديا
فرض الجهاد وقدما الأرواحا
بعد خمسة أعوام من الصراع، استعاد المهدي صلاح السيطرة على صعدة، ملأ سجونه بغالبية سكانها، ونهب منها أموالًا كثيرة، وخرج قاصدًا صنعاء 846هـ / 1442م، التقاه المنصور الناصر بسفح جبل نقم، هزمه شرَّ هزيمة، وغنم أمواله، وزج به في السجن، توجه الأخير بقواته المُنتشية بالنصر صوب صعدة، سيطر عليها، ولم يترك للأميرة فاطمة سوى بعض الحصون، ليصطلحا بعد عامين، وذلك بعد أن زوجته بـبدرة ابنتها من زوجها المتوفى المهدي محمد.
وبالعودة إلى أخبار زوجها الثاني المهدي صلاح بن علي، فقد توفي هو الآخر بسجنه في صنعاء مسمومًا ربيع الأول 849هـ / يونيو 1445م، وذلك بالتزامن مع استعادة المُتوكل المُطهَّر لنفوذه، سيطر الأخير على بلاد الشرف، وعدد من حصون تلك الجهة، ثم توجه صوب صعدة بطلب من الأميرة فاطمة، وهناك تزوج بابنتها بدرة، بعد أن فسخ نكاحها من المنصور الناصر، آسره وآسر زوجها من قبل؛ بذريعة أنهما أخوة من الرضاعة، وقيل غير ذلك.
سبق أنْ أشرنا إلى استعانة المنصور الناصر بداية عهده بالطاهريين، إلا أنَّ المودة لم تدم بينهم طويلًا، توجه لمحاربتهم، وعن ذلك قال صاحب (روضة الأخبار): «خرج الناصر إلى ذمار، فجمع أحزابه، وعب كالسيل عبابه، وخرج على غفلة إلى بني طاهر، فدخل مدينة دمت عنوة، ولم يكن لمن فيها وقعة قوة، ونهب وأخرب، والتجأ أهلها إلى الحصن.. وعاد فقصد حصن هيوة، فغشي من فيها الجبن، فسلموا إليه الحصن، وهو من الحصون الرفيعة، والمعاقل المنيعة».
كانت الحرب بينهما بعد ذلك سِجالًا، تخللتها بعضٌ من محطات الصلح المؤقت، كما كانت للمنصور الناصر حروب مع المُتوكل المُطهَّر، الذي تحالف هو الآخر مع الطاهريين، والإسماعيليين، وكانت هي الأخرى سِجالًا.
بعد عشر سنوات من الصراع المُنهك، نجح الإمام الناصر بالسيطرة على صعدة مرةً أخرى شوال 860هـ / سبتمبر 1456م، قبض على الأميرة فاطمة وأعوانها، واقتادهم مُقيدين إلى صنعاء، فيما نجحت ابنتها بدرة بالهروب إلى خولان الشام، ثم لحقت بأمها، استعاد المُتوكل المُطهَّر بعد ذلك زمام المبادرة، وتمكّن بعد ست سنوات من أسر المنصور الناصر، وكانت نهاية الأخير كما المهدي صلاح في السجن قتيلًا.
كانت صفحة الدولة الرسولية حينها قد طويت، وذلك بعد أنْ عصفت الصراعات الأسرية بها، ودب الضعف في أوصالها، وكان للمماليك (وهم أجناد من الرقيق دأب سلاطين بني رسول الأوائل على استقدامهم) دور بارز في صناعة ذلك التحول المُريع، عملوا على زعزعة الاستقرار، وبحثوا خلال العقد الأخير من عُمر تلك الدولة عن أمراء رسوليين – سبق ذكر أسمائهم – ضعاف، ونصبوهم من زبيد سلاطين، مُنافسين لسلطان تعز المظفر الثاني يوسف بن عمر بن إسماعيل، وعاثوا باسمهم في المناطق التهامية نهبًا وخرابًا.
كان المسعود صلاح الدين ذو الـ 13 ربيعًا أبرز أولئك السلاطين، نصبه المماليك سلطانًا بعد أنْ قاموا بعزل الناصر الثاني أحمد بن يوسف ربيع الأول 847هـ / يوليو 1443م، استعاد بمساعدتهم التهائم، ثم توجه صوب عدن، استعادها هي الأخرى، ثم توجه نحو تعز لمحاربة المُظفر الثاني، أجبر الأخير بعد حروب وخطوب على التخلي عن السلطة 852هـ / 1450م، إلا أنَّه – هو الآخر – لم ينعم بها طويلًا؛ تخلى عنه أنصاره، وسبق ذلك استفراد المماليك بأمر تهامة، وتنصيبهم للمُؤيد حسين بن الظاهر يحيى سلطانًا شعبان 855هـ / نوفمبر 1451م.
أمام تلك المُتغيرات المُتسارعة، وجد الطاهريون (ولاة الرسوليين على رداع) لفرصة مواتية لوارثة الدولة والحكم، دخلوا عدن 23 رجب 858هـ / 19 يوليو 1454م، وأسروا المُؤيد حسين آخر ملوك بني رسول، فابتدأت من هناك دولتهم، وفيها أيضًا كانت نهايتهم.
الرسوليون، ومن بعدهم الطاهريين، أتوا امتدادًا للدولة التي تتجدد وإن تغيرت مسمياتها، أما الفكرة فتمضي قُدُمًا دون تجديد، وإن تغيرت تفسيراتها، وتعددت أسماء من يتولون زمامها، وما دامت بنظر مُعتنقيها عقيدة، وجزءًا من الدين؛ فمن الصعب اجتثاثها، تنكمش إذا ما وجدت دولة وحاكم قوي يصدها، وتتمدد إذا حصل العكس! ومن هذا المنطلق، فإن التنافس والصراع بين فكرة الدولة، ودولة الفكرة سيظل حتى قيام الساعة.