ُسلوك شنيع.. وتصرف وضيع.. وابتكار إمامي أنهك اليمنيين…. الخِطاط.. عقاب جماعي
بلال الطيب
أول بلية، وأعظم رزية، عرفها اليمنيون، وأصيبوا بها، هكذا عرَّف الأستاذ أحمد محمد نعمان في رسالته الشهيرة (الأنة الأولى) الخِطاط، واصفًا إياه بأنَّه «قتل الحمية، وأمات الغيرة، وداس الفضيلة، وأذل الناس، وبغّض إليهم الحياة، وحبب لهم الموت، واضطرهم للخروج من بلادهم جماعات ووحدانا».
حرب العصيد
وهو – أي الخِطاط – كلمة مجهولة المصدر، ولا يوجد لها أصل في قواميس اللغة العربية، وإنَّما لها وجود في قواميس الأئمة السُلاليين، وعُمالهم، ويفهمها الرعية المساكين أكثر من غيرهم، كيف لا؟ ومضمونها الأشمل يتمثل في تدمير بُنيتهم الاقتصادية المُتواضعة، وإذلالهم جسديًا، ونفسيًا، ومعنويًا، ويؤكد ذلك تسمية الإمام يحيى بن محمد حميد الدين لها بـ (حرب العصيد)!
والراجح أنَّ كلمة الخِطاط مُشتقة من الفعل (حط)؛ خاصة إذا ما علمنا أنَّ عَساكر دولة الإمامة المُتوحشون كانوا يحطون رحالهم في مَنازل الرعية، ويتصرفون في الأموال والمُمتلكات وكأنَّها ملكهم، وهم في الأصل أرسلهم الإمام الحاكم لإخضاع إحدى القبائل المُتمردة، دون أنْ يمُدهم بالمؤن اللازمة لإنجاح مُهمتهم، التي غالبًا ما تكون من مهام القبائل المُجاورة، التي لا ذنب لها إلا أنَّ القدر وضعها في طريقهم.
وبالغ الدكتور عبدالرحمن البيضاني في تعريف الخِطاط، وقال أنَّ الإمام – أي إمام سُلالي – يقوم بتوجيه أوامره لقبيلة زيدية ما، ويكلفها بالتوجه بكامل هيئتها وأفرادها إلى قبيلة أخرى مُذنبة، ينامون في بيوت سكانها، ويأكلون طعامهم، ويفرضون عليهم حظر التجوال، لافتًا أنَّ القبيلة المُتضررة لا تستطيع المقاومة، وإلا أرسل لها الإمام قبيلة ثانية، وثالثة، أو جيشًا من عنده.
من جهته عَرَّف الباحث عبدالعزيز قائد المسعودي الخِطاط تعريفًا موضوعيًا، وقال بأنَّه يتمثل في ترتيب وتوزيع القوات الإمامية على القرى والمنازل، وبحسب أهمية الأشخاص والعشائر، هذا في حال تم إرسال قوة عسكرية كبيرة، ولكن في حال تم إرسال ثُلة من الجنود نحو العشرة، فكان يُسمى (بقاء)، ويدوم حتى يستجيب الفلاحون لطلبات الإدارة المركزية، وفي الغالب – كما أشار ذات الباحث، وقد تقارب هنا مع ما ذكره الدكتور البيضاني – كانت السُلطات الأمامية تُسلط قبيلة ما على أخرى، لا لتقضي على شوكتها فحسب؛ بل وتمعن في إذلالها وقهرها حتى تذعن لسلطة الدولة.
أما المُؤرخ التهامي الدكتور عبدالودود مقشر فقد شبه الخِطاط بالعقاب والإفقار الجماعي، وعده أقسى أنواع العقاب الذي ناله الرعية من السلطات الإمامية، والذي أدى حسب شهود عيان التقاهم إلى فظائع ومآسي لم تمُحى من الذاكرة، وقضى في حينه على أي تفكير بالثورة أو المُقاومة.
الدُبلوماسي العراقي إبراهيم علي حسين الولي، عَاصر تَداعيات انتقال اليمن من ظَلام الإمامة إلى نُور الجمهورية البهي، ونَقل في مُذكراته جانبًا من تلك الإرهاصات، وقال أثناء تعريفه للخِطاط بأنَّ لا فرق بين الأخير وبين الاحتلال، وأضاف: أنَّ «أفراد القبيلة المُهاجمة يحتلون بيوت القبيلة المنكوبة، يعيشون على أهلها، يسلبون قوتهم، ويجبرونهم على خدمتهم طيلة فترة الاحتلال»، وتساءل: «وليت شعري من أوجد نظام الاستعمار الذي يقوم على نفس الأسس، أهو الغرب أم الأئمة؟».
سُلطة مُطلقة
وما هو مُتداول ومُؤكد أنَّ عساكر الأئمة السلاليين عمدوا على إذلال الرعية المساكين، واستعبادهم، وإذا حصل أنْ عجز الرعوي وزوجته عن توفير أسباب الراحة لهم، ولم يُبالغوا في إكرامهم، والاهتمام بهم، نزلوا – كما أفاد الأستاذ أحمد محمد النعمان – بهما ضربًا ورفسًا، وأهانوا كل واحد منهما أمام الآخر؛ بل أمام الله والعالم، وإذا استغاث أحدهما أو بكي، اجتمع عليه بقية العساكر المُخططين في البيوت الأخرى، فينهالون عليه بالضرب، والسب، والشتم، وإذا تدخل أحد الجيران أو الأقارب أصابه ما أصاب ذلك الزوج وزوجته.
والأدهى والأمر من ذلك، أنَّ السلطة المُطلقة تكون في يد هؤلاء العساكر المُتوحشين، فهم لا يُسألون ممن هم أعلى منهم رُتبة عما يفعلون، ويجرون – كما أفاد أحمد عبدالرحمن المعلمي – من الأعمال والعجرفة، وسوء السلوك الأخلاقي، ما يقشعر له البدن، وتبكي له السماء، ويغضب له القرآن.
وهذا أحد ضحايا تلك المُعاناة، من أبناء سفوح تهامة، تحدث عن تلك الصورة المأساوية في رسالة بعثها لجريدة (الشورى) المصرية، في أواخر عشرينيات القرن الفائت، وقال بعد تعريفه لمُفردة الخِطاط، أو (التخطيط) – كما يسميها التهاميون، بأنَّ عَساكر الإمامة يسكنون في بيوت الرعية، ويفترشون فرشهم، ويكلفوهم في المأكل فوق طاقتهم، وأضاف مُتالمًا: «ويدخل الواحد منهم بلا استئذان على حرمك، ويفتخر بأنَّهم تنازلوا كرمًا عن مُشاركة الرعية في الزوجات.. وكم من مرة أرادوا انتهاك حرمات الناس في هذه الأحوال، فينتقم المرء لعرضه وشرفه، فيكون نصيبه ونصيب القرية السحق والمحق، والعدم من الوجود».
الطبيبة الالمُانية إيفا هويك أكدت – هي الأخرى – تلك الجزئية المأساوية والمُكررة في مُـذكراتها، وقالت في نقلها لأحداث عايشتها في لواء تعز، أنَّ عساكر الإمام أثناء انتظارهم لسداد الضرائب (الجبايات) من المواطنين، يُقيمون في أحسن الغرف التي وضعوا أيديهم عليها، ويأكلون أجود الأطعمة، وأكثرها، ويحاولون الاعتداء على الأعراض، مُستغلين مراكزهم كجنود.
في مُذكرته المُعنـونـة بـ (شــاهد على الـحركة الوطنية)، نَقل المُناضل يحيى مصلح مَهدي مشهدًا مُـــؤلـمًا عاشه في طفـــولته، أبطــاله ستــة عساكر أجلاف، وعمه الكبير (يوسف مهدي)، وما أنْ حل أولئك العسكر ضيـوفًا ثِـقالًا على منزل الأخير، الرابض في إحدى قرى جبال ريـمة المُعلقة، حتى انـهالوا بالضرب على ذلك العم المُسن، بدون سبــب، وبدون اكتراث لصرخات وتوسلات أصحاب ذلك المنزل العامر، الذين كان جُلهم من الأطفال والنساء.
وأضاف يحيى مُصلح: «شَاهدت هذا المنظر الأليم وأنا في السابعة والنصف من عُمري، ولم أكن أعرف سبب هذه الروح العدوانية التي يستخدمها الإمام ضد أبناء الرعية في المنطقة الشافعية بشكل خاص، وفي اليمن بشكل عام، مع أنَّهم كانوا يتقاسمون لقمة العيش معهم، أولئك بعرقهم وكدهم، وأولئك بظلمهم وجبروتهم، هكذا كانت الإمامة تمارس ظلمها، حيث كانت تستنفر جزءًا من أبناء الشعب، وخاصة من أبناء قبائل حاشد، ونهم، وخولان، وآنس على مناطق الرعية..».
وقد عَبر المصلح الاجتماعي الكبير محمد رشيد رضا في رسالة له بعثها لشكيب أرسلان عن امتعاضه الشديد من تلك التصرفات الإمامية المُقززة 8 أبريل 1926م، وهي التصرفات التي جعلته يُعيد النظر حول مُساندته طيلة السنوات السابقة للإمام يحيى حميد الدين؛ بل ويعبر عن ندمه على ذلك، ومن رسالته نقتطف: «وإنْ كانت أخبار ظلم الزيدية للشافعية لا يمكن المراء فيها، وأقبحها أنَّ جيش الإمام يحتل بيوت الأهالي في تهامة، ولا يكتفي بضيافة الأكل والشرب؛ بل…».
وسبق للمُؤرخ يحيى بن الحسين أنْ تحدث عن تلك المعاناة، وبمعنى أصح عن مُعاناة جغرافيا المناطق الوسطى بشكل عام، ونقل في كتابه (بهجة الزمن) مقولة لأحد أبناء إب من بيت الكاظمي ضمن حوادث سنة 1088هـ / 1677م، مضمونها: «وكذلك اليمن الأسفل الذي وقع فيه الحطمة والموت والرّحلة، أنه اجتمع عليهم الجور والفساد لعدم الغيرة منهم، والقدرة على الدفع عن حرمهم وبيوتهم من عساكر الدولة، فإنَّهم – أي العساكر – ينزلون بيوتهم، ويختلطون بحريمهم وأولادهم، ويقع ما يقع من الفساد، وعدم قدرتهم وضعفهم عن الدفع عن أهلهم».
تفضيل الأجنبي
يَبقى الخِطاط سُلوك شنيع، وتصرف وضيع، وابتكار إمامي بامتياز، ولم يسبق للأتراك (العثمانيين) أنْ مَارسوه أثناء تواجدهم الأول والثاني في اليمن، ولا حتى الإنجليز، فقد أنشأوا – أي الأتراك – ثكنات عسكرية لذات الغرض، لم يستغلها للأسف الشديد عَساكر دولة الإمامة الاستغلال الأمثل، وعن ذلك قال الأستاذ أحمد النعمان: «العُمال مدوا هذا الخِطاط تعمدًا، برغم استغنائهم عنه، وعدم الحاجة إليه، فالثكنات من عهد الدولة العثمانية موجودة في عموم المراكز».
وأضاف مُشيدًا بالأجنبي، الذي كان أفضل بكثير من الأئمة السلاليين وأنصارهم: «غير أنَّ رجال تلك الدولة الأعجمية الأجنبية لم يتخذوا الجند لمـُحاربة الرعية؛ بل للدفاع عنهم، والذود عن كيانهم، فكانوا ينشئون الثكنات في المراكز، ويُعلمون الجند المُحافظة على الكرامة، وعزة النفس، والترفع عن الدناءة، وعدم إظهار الفاقة والحاجة عند الفقراء، والمُعوزين، وكانوا يوسعون عليهم بالإنفاق، ويـخصصـــــــون لهم خــــــــــــدمًا ينتقلون معهم أينما ساروا، وحيثـــما أقاموا».