مسؤولية الكاتب وسلطة المثقف والسياسي
فهمي محمد
في كتابه السلطة الثقافة والسلطة السياسية، يتحدث المؤلف الكبير على امليل عن ما أسميه أنا بجدلية المثقف الناقد والسياسي الحاكم (أهل الفكر وأهل السياسة)، حيث يبدأ المؤلف فصول كتابه في الحديث عن التجربة التاريخية السياسية للمسلمين وكيف بدأت هذه الجدلية تتحول إلى معادلة صراع على قيادة المجتمع مع انفصال الفقهاء (أهل الفكر) عن الحكام (أهل السياسة) منذ أن تولى معاوية بن أبي سفيان سلطة الخلافة بعد أن كان الخلفاء من قبله يجمعون بين علوم الدين والسلطة السياسية، ويستمر في حديثه حتى ظهور الفلاسفة العرب الذين تحولوا بفكرهم الفلسفي إلى طرف في معادلة الصراع السياسي مع السلطات السياسية الحاكمة التي وظفت الجملة الدينية الأصولية ضد عقلانية الفلسفة.
ثم ينتقل فيما تبقى من كتابه القيم للحديث عن مسار التجربة الأوروبية مع ظهور سلطة المثقفين التي كان الكتّاب في صدارة مؤسسيها لا سيما مع نجاح هؤلاء في تثوير الوعي المجتمعي، الذي حول المجتمع يومها إلى طرف في معادلة الصراع السياسي مع النخب السياسية الحاكمة.
بمعنى آخر، أصبحت السلطة السياسية أمام رأي عام فعال، يعكس وجود شعوب متطلعة للتغيير نحو المستقبل الذي يجب أن يكون بحجم حاجة الأجيال المتعاقبة إليه، بعد أن أصبحت هذه الشعوب في تلك المرحلة التاريخية تنقاد لأهل الفكر على حساب أهل السياسة، ما يعني في المقابل أن هذه المرحلة التاريخية التي انتصرت فيها السلطة الثقافية على السلطة السياسية هي الحلقة المفقودة في تاريخنا العربي.
التجربة التاريخية للعرب المسلمين إذا كانت لا تقدم لنا شاهداً يتعلق بالحديث عن وجود تجربة أو مرحلة كان الوعي المجتمعي تجاه المسألة السياسية هو الذي يقف وراء سلطة أهل الفكر (المثقفين) من أجل مواجهة السلطة السياسية، فإنها على العكس من ذلك تقدم لنا تاريخا طويلا يتعلق بالسلطات السياسية القادرة على توظيف المجتمع أو عقائد العوام ضد أهل الفكر، الأمر الذي كان وما يزال يفسر اغتراب المثقف العربي داخل مجاله الاجتماعي وحتى السياسي على حد سواء.
جدلية المثقف الناقد والسياسي الحاكم، في سياق التجربة العربية والأوروبية، هي جدلية تدافع وصراع على قيادة المجتمع وفي نفس الوقت على توظيفه في معادلة الصراع بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية، لكن الرهان على نجاح فكرة التغيير والتقدم بالمفهوم السياسي والاجتماعي لصالح السلطة الثقافة، على حساب السلطة السياسية، يظل دائماً مرتبطاً بنجاعة الوعي المجتمعي ومدى تحوله إلى ثقافة سياسية مدنية تجاه مسألة السلطة والثروة والواقع السياسي والاجتماعي القائم.
وإذا كانت مسألة الانتصار لفكرة التغيير والتقدم، تتطلب في المقام الأول أن تكون قيم ومبادئ ومفاهيم الوطنية والمدنية والديمقراطية هي الجهاز المفاهيمي الذي ينفخ روح الثقافة السياسية لأفراد المجتمع، أو هي المحددات الوجدانية للوعي المجتمعي الذي يقف في مرحلة تاريخية وراء سلطة أهل الفكر، بحيث تصبح السلطة السياسية مع هكذا تحولات ثقافية فكرية هي المطاردة وطنياً من قبل سلطة المثقف وليس العكس.
فإن تحقيق هذه المطاردة الوطنية تطرح “ابتداءً” على المثقف أسئلة تتعلق بدوره النضالي وموقفه النقدي، ناهيك عن محتوى إنتاجه الثقافي والسياسي الذي يقدمه المثقف (كتابه أو خطابه أو ممارسة عضوية) في سبيل الحرية والعدالة والمساواة وكذلك في سبيل تأصيل قيم ومبادئ المدنية وتحويلها إلى نظام معرفي «مُحددات وموجهات ثقافية فاعلة» داخل المجال الاجتماعي.
بحيث يصبح الحكام أو السلطة السياسية ليست طرفاً في معادلة صراع سياسي مع نخب سياسية معارضة تتطلع لمصالحها الشخصية أو لمكوناتها السياسية، بل طرفاً في صراع مع العقل الجمعي -رأي عام- يعكس حضور «شعب سياسي» أصبح غير قابل للتفريط بحقوقه الكاملة ناهيك عن الفكرة الوطنية التي يجب أن تتأسس عليها سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية على حساب سلطة الأشخاص أو سلطة النخب السياسية.
الحديث عن جدلية المثقف والسياسي يقودنا للحديث عن دور الكُتاب الذين وإن كانوا يشتغلون في مجال الثقافة بمفهومها الشامل الذي يجعل من ممارسة الحرفة والمهنة ثقافة، غير أن تجربتهم مع الكتابة كمحتوى ومسؤولية وطنية تجاه تغيير الواقع، وتحديداً في سياق التجربة التاريخية للعرب المسلمين، لا تعني بالضرورة بأن الكاتب هو المثقف المنتج للمعرفة، أو هو الناقد للواقع السياسي والاجتماعي أو حتى هو القادر على ممارسة دور المثقف، فيما يتعلق بخلق الوعي المجتمعي الذي ينتصر لفكرة التغيير والتقدم.
فإذا كان الكاتب في ظل التجربة الأوروبية، قد وجد نفسه في صدارة المثقفين الذين أصبحوا معنيين بتغيير واقعهم عن طريق أفكارهم، الأمر الذي يعني أن الكاتب لم يكن ناقداً للواقع السياسي والاجتماعي فحسب، بل أكثر من ذلك كان نقيض السياسي الحاكم وطرفاً في معادلة الصراع معه.
فإن الكاتب في سياق التجربة العربية كان على العكس من ذلك، فقد وجد نفسه موظفاً في ديوان الحاكم، يأتمر بأمره فيما يتعلق بصياغة خطابه وتعاليمه وأوامره وحتى تبرير سياسته بلغة جميله واحترافية، الأمر الذي يعني أن الكاتب في سياق التجربة العربية لم يكن ناقداً للواقع السياسي والاجتماعي ولم يكن مثقفاً معنياً بتغيير واقعه بأفكاره، ولم يكن هو النقيض للسياسي الحاكم في معادلة صراعه مع السلطة الثقافية.
فالكتاب -بضم الكاف- كانوا خداماً للحكام، على حد وصف الجاحظ، الذي كان يحتقر الكتاب ومهنة الكتابة في عصره؛ لأن الكتابة كمحتوى سياسي وثقافي كانت معنية في تحسين صورة الحاكم، لهذا فإن خصوصية النشأة التاريخية لوظيفة الكاتب وحتى التوظيف السياسي للكتابة كمحتوى في خدمة السلطة السياسية، ما زالت حتى اليوم تمارس حضورها التاريخي ودورها الوظيفي في صورة الكاتب “المتملق” الذي يسخر قلمه في مدح الحاكم مقابل الحصول على المال لا سيما في ظل هذا الفضاء الإلكتروني الذي بقدر ما أتاح للغث والسمين أن يكتب ويدعي ذلك، بقدر ما حول الكتابة كمحتوى إلى مادة صحفية متداولة يومياً في الوسط الاجتماعي.
أخيراً إذا كان الكاتب في سياق التجربة التاريخية للعرب ليس هو المثقف المنتج للمعرفة وللوعي الذي يؤسس سلطة أهل الفكر في وجه السلطة السياسية، فإن معظم الكُتاب في العصر الحديث ليسوا هم المثقفين الذين يبلورون أفكارهم التنويرية والثورية، ويموضعونها في سلوك عملي يعبر عن مصالح الناس، وقضايا الإنسان في كل مكان وزمان، فالكتاب بدون شك كثيرين هم اليوم في مجتمعاتنا لكن الكتابة التي تخلق الوعي المجتمعي ليست كثيرة .
فالكاتب، على حد وصف الكاتب السوري أحمد عزيز الحسين، تنتفي عنه صفةُ المثقفِ حين يغدو طالبَ سلطةٍ، وتتماهى رؤيته معها، كما يفقد صفةُ (المثقفِ العضوي) حين يغدو جزءاً منها؛ لأن السلطةَ تنشدُ الثباتَ والاستمرارية، أما المثقفَ فينشد التحولَ والتغييرَ المستمر، وقد يحمل رايةَ الثورة ويشارك في النضال ضدها إذا اقتضى الأمر ذلك، فيكون قدوة لغيره في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة.