أمس خرجنا في مظاهرة عملاقة في مدينة دوسلدورف، عاصمة الغرب الألماني. انتهت المظاهرة إلى ميدان واسع قريب من مركز شرطة المدينة.
في المظاهرة خرج معنا حفنة بسيطة، لا تكاد ترى أو تحس، من الرجال والنساء البيض.
قالت لي زميلة تركية، ونحن نمشي تحت الراية الفلسطينية: اختطفتهم ثلاث قنوات تلفزيونية، لم ينجُ منهم سوى القليل.
حين يتعلق الأمر بفلسطين تصير ألمانيا إلى عسقلان الكبرى. وبالرغم من انتهاجها سلوكاً محايداً على المسرح الدولي، ترى العالم بوصفه سوقاً لمصانعها، إلا أنها في المسألة الفلسطينية تتوحش. يهدر الساسة الألمان بهراء يمكن أن يعد في أوقات الرخاء جريمة بحق السلم الأهلي.
بلا مقدمات تكشر ألمانيا عن أنيابها مستعيرة لغة “الرايخ الثالث”. لا يمكنك أن تخطئ التشابه وأنت تستمع إلى مشاريع القوانين التي انهالت على البرلمان للتصويت عليها. مثل إعطاء جهاز أمن الدولة الحق في التنصت على أعداء السامية، سؤال المؤجرين وأرباب العمل عن سلوكهم، فحص حساباتهم المالية، إلخ. دار جدل داخلي لأعوام حول المقصود بمعاداة السامية، وما إدا كان نقد تصرفات الدولة الإسرائيلية يعد معاداة للسامية. إلى أن أصدرت ألمانيا توسعة للتعريف، جاء فيها أن أي نقد لسياسة إسرائيل من شأنه أن يسيء إلى صورتها أمام العالم، أو يشكك في مشروعيتها الوجودية، يعتبر معاداة للسامية يعاقب عليها القانون.
اشتكى المثقف الألماني، الفرد والمؤسسة، من تدخل أجهزة الدولة في تحديد من يملك الحق في اعتلاء المنصة للحديث في ألمانيا. ضيوف كثيرون، من دول عدّة، منعوا من الحضور بتهمة معاداة السامية. مؤخراً قالت مسؤولة رفيعة في الخارجية الألمانية إنها رفضت حضور ندوة في برلين كان مقررا أن يشارك فيها بيرني ساندرز، السيناتور الأميركي المعروف. كتبت على صفحتها: استمعنا إلى تعليقات ساندرز الأخيرة بخصوص ما جرى في إسرائيل وكنا نأمل أن يتغير، أن يتخفف من معاداته للسامية، ولكنه لن يتغير قط. لن أحضر الندوة التي دعاني إليها.
ما يثير الدهشة والضحك والقلق في آن هو التعليق الذي أدلى بهم ساندرز حول ما جرى. قال إنه لم يدعها إلى أي ندوة، وأنه جاء لتوقيع كتابه. ساندرز، كما قال عن نفسه، يهودي خسر جزء من عائلته في الهولوكوست.
هذه النسخة المخنثة من الرايخ الثالث خطرة. وجه خطورتها أنها ليست جديرة بالقوة ولا بالحسم، وأنها تستخدم قوتها في جلد ذاتها وتقزيم كبريائها. فقد استدعى شلوتز ممثل السلطة الفلسطينية قبل عام من الآن وأبلغه احتجاج ألمانيا على تصريح رئيس السلطة. كان أبو مازن قد قال: ارتكبت إسرائيل في حق شعبنا ٥٠ هولوكوست منذ ١٩٤٧م. قال شولتز لممثل السلطة: نحن فقط من ارتكب الهولوكوست، نحن الألمان. لا يجدر بكم أن تحتقروا الهولوكوست ولا أن تشبهوا أحداً بنا.
رايخ مخنث، أم عسقلان كبيرة؟ أم لهو فارغين وجهلة بخصاهم، كما يقول التعبير الألماني؟
أمس تحت الراية الفلسطينية زخت السماء مطراً خريفياً هادئاً. وكان الإعلام الألماني يقول، بطريقة ملتوية، إن الحديث عن نفاد الوقود في مشافي غزة كذبة (يرددون الموال نفسه منذ أسابيع ولو كانوا صادقين لنفد الوقود).
الفتيات والفتيان في المظاهرة كانوا يتحدثون إلى بعضهم بلغة ألمانية أصيلة، كأهل البلاد. وألمانيا تقوم بشيطنة كل هذا الجيل الذي يتحدث لغتها ويلتحم بثقافتها. سبق لإمره كيرتس، الروائي الحاصل على نوبل، أن لاحظ أن ألمانيا النازية دمرت المجتمعات اليهودية في عديد دول أوروبية، وكانت تلك التجمعات في تلك البلدان هي فقط من يتحدث الألمانية. يستنتج أن النازية تهاجم، أول ما تهاجم، ثقافتها هي، ذاتها. كذلك فعل الصرب الفاشيون، إذ استهدفوا أول الأمر تماثيل مثقفيهم الذين نادوا بالسلم الأهلي والتعددية الثقافية.
على كل حال، تعرف ألمانيا أنها مأزومة، وتعرف أكثر أنها لا تعرف ماذا تريد.
م.غ.