ضع اعلانك هنا

تكرار الفشل لا يلغي وعد الحرية

اصيل ناجي

في الواقع، هذه المعاناة و الدماء هي الثمن الذي يجب أن ندفعه لنيل الحریة. هذا هو جوهر الصراع المستمر الذي يعطي معنى لـ “وجود أو لا وجود” النوع البشري. هذا هو السبب في أن “نشيد الحرية لبني نوع الإنسان” لم يسكته طغيان المستبدين، وأن الغضب المشتعل للمضطهدين سيقلّب أسس الظلم والقهر.

إلى جانب ما نعانيه من اضطهاد سياسي واجتماعي واقتصادي، يجب أن ندفع فاتورة “ذنبنا” كوننا يمنيين. وإذا كان فإن الاضطهاد السياسي والثقافة النابعة عنه يؤثر بشكل مباشر على نخبنا السياسية، أي الرجل السياسي يبقي أسيرا وملوثّا بالتبعية لقوى سياسية اجنبيه. ومن ثم، فإنا الحرية الحقيقية للفرد والمجتمع لا يمكن تحقيقها في نهاية المطاف إلا من خلال التحرر من تبعيتنا السياسية و التخلص من قيود التبعية لنخبنا السياسية وخلق مناخ سياسي توافقي دون وسيط. بعبارة أخرى، يجب خلق مناخ سياسي يتجاوز التمييز الطائفي والتقسيم الحزبي؛ ففشل النخب السياسية في اليمن بخلق مناخ سياسي توافقي دون وسيط دولي وإقليمي ليس وليد اللحظه فالتاريخ السياسي اليمني مليء بالتجارب الفاشلة. مثلا يسجل التاريخ أن الفشل الذي واجه الدولة الحميرية والصراع على السلطة، تسبب بانتهائها وتحويل اليمن الى مستعمرة نتيجة سعي القوى السياسية اليمنية المناوئة للملك ذو نواس الحميري بجلب  الأحباش والرومان، للانتقام منه نتيجة صراع ديني بين معتنقي اليهودية والمسيحية لينتهي الصراع بتسليم اليمن للأحباش والرومان تحت غطاء سياسي ساهمت القوى السياسية اليمنية بإنهيار حضارتهم انتقاما من الملك الذي أعلن الحرب على نصارى نجران بتهمة موالاتهم الاحباش وتقديم الأموال لملكها باعتبارها دولة تجمعهم روابط دينية وهو ما اعتباره الملك ذو نواس خيانة وطنية وقرر قتلهم.

وبدل من سعي الملك لايجاد وسيلة سياسية تنهي الانقسام بين مكونات الدولة الحميرية ومنع التدخل الاجنبي المتربص باليمن والطامح لضمها لمملكته مستفيدا من معتنقي المسيحية وخلافهم مع الملك، قدم لهم اليمن على طبق من ذهب باستخدامه ثقافة القوة والسعي لابادتهم دون احتوائهم واحترام معتقدهم وإن كان نهجهم يخالف عقيدة الملك الروحية لينهي بثقافة الانتقام والابادة ملكه على يد الأحباش المدعومين من الامبراطورية الرومانية مسنودين بخصومه اليمنيين.

ليقع الخصوم بدورهم بنفس الخطاء متجاهلين أن الاستنجاد بالاجنبي لمواجهة الأجنبي لن يحل المشكلة وإنما يوسع فجوتها. لم يتعلموا من الخطأ السابق الذي كان ثمنه تسهيل احتلال مملكتهم. لم يبحثوا عن توافق سياسي يمكنهم من استعادة الدولة وطرد المحتل وفق رؤية سياسية تحفظ لكل طرف حرية التعبير والمعتقد في ظل قانون يحفظ لهم كرامتهم ويعيد لبلادهم مكانتها وموقعها كدولة مستقلة.

لياتي عهد سيف بن ذي يزن ويجلب بدوره مستعمر جديد ليحل محل الاحباش وهم الفرس ليصبح اليمني مرة أخرى ضحية احتلال اخر يحكمه جلب بأيادي يمنية ايضا.

ورغم مرارة الماضي والثمن الباهظ الذي دفعه اليمنيون نتيجة أخطأ نخبهم السياسية بجلب الأحباش والفرس ذهبت قبائل صعدة لجلب الهادي الرسي ليحكم بينهم ولم يكتفون بذلك وإنما بويع إماما عليهم رافضين أن يتولى أحدا منهم أمرهم وفضلوا أن يسلموا رقابهم للهادي الرسي ليسومهم سوم العذاب ويأتيهم بجيش استقدمه من الديلم وطبرستان ليقمعهم به ويوطد سلطانه عليهم وهو ما يعرف في التاريخ اليمني بالغزو الفارسي الثاني والذي أستمر الف عام، حيث ظل الرسي مسيطرا على صعدة ويتمدد بين الحين والآخر بالرغم من المقاومة الكبيرة التي واجهته. فقد ظلت دعوته تتراجع في كل مرة الى صعدة، ويتحصن اتباعه بجبالها مع ظهور دويلات أخرى تمكنت من دحر الزيدية مثل الصليحية والطاهرية والرسولية وغيرهم ولم يحكم اليمن حاكما يمنيا منذ سقوط الدولة الحميرية على يد الاحباش مسنودين بالمسيحيين اليمنيين الا علي ابن الفضل اليافعي ولم تدوم سلطته لوقت طويل ليخلفه الصلحيين وبدلا من الاستقلال توجه الصلحيين لتقديم الولاء والطاعة للفاطميين بالقاهرة وتحت سلطتها تولوا الحكم باعتبارهم خاضعين للقاهرة لا دولة مستقلة.

و حتى بعد قيام الثورة في 26 من سبتمبر 1962م، بالإضافة إلى السلاح المنتشر في عموم اليمن الذي أوجد نوعًا من الاكتفاء الأمني لهذه القبائل بعيداً عن مؤسسات الدولة، فقد ظلت هذه القبائل تشارك بعض الاحزاب في ولائها للخارج مما أثر فى شكل المشهد السياسي باليمن.

ولذلك فإن الأزمات متلاحقة، ما أن تنتهي أزمة حتى تتبعها الأخرى، فـعلى مدى التاريخ لم تكن اليمن خالية من الصراع السياسي منذ الثورة ضد المملكة المتوكلية اليمنية شمال اليمن عام 1962، قامت خلالها حرب أهلية بين الموالين للمملكة المتوكلية والموالين للجمهورية العربية اليمنية، واستمرت الحرب ثماني سنوات (1962_ 1970)، وقد سيطرت الفصائل الجمهورية على الحكم في نهاية الحرب، وانتهت المملكة وقامت الجمهورية العربية، وكذلك بعد انتهاء الاحتلال الإنجليزي في الجنوب عام 1963م وتكوين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، كانت الاغتيالات للحكام في الشمال والجنوب والصراع السياسي المسلح في كل المناطق لسنوات طويلة في اليمن بأكملها.

ثم أتت الوحدة اليمنية عام 1990م بين الشمال والجنوب، وتم إعلان الوحدة رسميًا فى 22 مايو 1990م، وأصبح علي عبدالله صالح رئيساً للبلاد وعلي سالم البيض نائبًا لرئيس الجمهورية اليمنية، وقامت الوحدة السياسية قبل دمج المؤسسات العسكرية والاقتصادية، فضل كل طرف يسعى لفرض رؤيته على الأخر.

تفاقم التوتر والاحتقان بين مدرستين مختلفتين طيلة ثلاث سنوات انتهت بحرب صيف 1994م  لينتهي الامر بهزيمة المعسكر الجنوبي مع بقاء الوحدة اليمنية لعقدين كاملين تخللهما الكثير من الممارسات السياسية والدستورية على مستوى الوطن بأكمله لكن بأسلوب علي عبد الله صالح، الذي تعود على إدارة الدولة وعلاقاته مع كل القوى السياسية والاجتماعية بالخداع والمؤامرات .

و نعم؛ كما يخبرنا التاريخ أن التكتيكات السياسية الخبيثة تتحول إلى الدموية القذرة وهي من تقتلنا جميعا حكاما ومحكومين، مراحل زمنية وتاريخية طويلة مررنا بها ولم نرى سوى التصفيات الجسدية والقتل والسحل والتهجير, الشعب اليمني شمالا وجنوبا نال كفايته من هذا العبث الاجرامي المشين،انتهت بحكم علي عبدالله صالح اليمن لمدة 33 سنة، استأثر خلالها أقاربه وأبناء منطقته بمناصب مهمة وحساسة في الدولة، وخرج ما يقارب 16000 متظاهر فى 27 يناير2011م؛ تنديدًا بالأوضاع الاقتصادية والسياسية للبلاد، وأعلن صالح فى 2 فبراير أنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية جديدة، ولن يورث الحكم لابنه أحمد، لكن فى اليوم نفسه تظاهر أكثر من 20000 شخص في الميادين العامة بصنعاء وباقي المحافظات، مطالبين هذه المرة برحيل صالح.

وبعد إسقاط نظام صالح وخروج الشباب الى الشارع تساندهم النخب السياسية المناوئة للنظام معلنين أن خروجهم ثورة تهدف لإقامة دولة مدنية تقوم على أساس فدرالي تضمن الشراكة الوطنية وعدم هيمنة طرف معين على السلطة، فإن هذه الثورة انتهت بإنقسامات سياسية وتشتت بين الشمال والجنوب.

وفي ظل ما يعيشه اليمن في الوقت الراهن وسط الانقسام السياسي في الداخل وصراع النفوذ من الخارج، الى جانب الاضطراب الامني العميق، ما جعل منها بقايا دولة تحت سطوة النزاعات الداخلية والصراعات الاقليمية، لا زلنا نامل أن تفكر النخب اليمنية بعقلية رجال الدولة ويبحثون عن استقلال قرارهم السياسي وبما يضعهم امام حلفائهم باعتبارهم حليف قوي محكوم بالمصالح المشتركة والندية السياسية لا التبعية المطلقة وكانهم موظفين يؤدون مهام لا حكام يملكون قرار ولن يكون لهم ذلك إلا بتوافق يغلب مصلحة اليمن ويجعلهم يظهرون بمظهر قوي امام حلفائهم لينالو احترامه؛ فلا التاريخ ولا الشعب ولا الله سينسى كل هذه الفظائع.

لن يستمر صمت الشعب على ما يجري، صوت المقموعين، سيتفجر في يوما من كل صوب، صوت تقشعر له الأبدان، صوت تاريخ الإنسان، تاريخ نيل الحرية .

أنه صوت الإنسان الذي استطاع أن يحرير نفسه من قهر الطبيعة المطلق تدريجيا، لكن سرعان ما أصبح أسيرا لدى نوعه الآخر.

وبذلك بدأ تاريخ اضطهاد الإنسان بحق الإنسان. وفي المأساة العظيمة للعبودية التي تم تخريجها من قبل أمثال النيرون والفراعنة، اختفى صوت المقموعين في ظل ضرب صوت الأسياط. ما ظل مسلطا هو صوت السلاسل وحقبة العبودية الظلامية التي ترسخت حتى العظم.

نعم الصوت الذي لولاه لكانت البشرية ستبقى إلى الأبد تحت رحمة هذا المصير الأعمى؛ نعم أتى ذلك الصوت في ذاك اليوم المصيري بالقرب من الناصرة، عندما أعلن يسوع المسيح: “أرسلني لأشفي منكسري القلوب … ولتحرير المسحوقين”.

كانت رسالة يسوع بيانًا واضحًا عن مصير الإنسان: “يستطيع المرء ويجب عليه التمرد”.

و قد كان تمرد سبارتاكوس بلا شك متجذرًا في الاعتقاد بأن العبودية لم تكن إلى الأبد وأن الحرية يمكن أن تتحقق في النهاية. لكن سبارتاكوس ورفاقه كانوا يعرفون أن الحرية بالنسبة لهم، على الأقل، لا يمكن تصورها، إلا على الصليب.

وعشية المعركة الأخيرة، صرخ سبارتاكوس: “أصدقائي، لقد قطعنا شوطًا طويلاً معًا، وخضنا معارك عديدة معًا، ولكن الآن وبدلاً من العودة إلى أوطاننا فعلينا القتال مرة أخرى. ربما لا يوجد مكان لنا للسلام والهدوء في هذا العالم. لكنني أعلم بالتأكيد أننا أحرار”.

في اليوم التالي، “تم صلب 6000 عبد على طول الطريق من روما إلى كابوا.” كان هذا ثمن الحرية. ولكن أصبح بعد ذلك اليوم صوت المقموعين صرخة مدوية في كل مكان تبشّر بوضع حد لذلك العصر.حقًا، قد تزخر صفحات التاريخ بالقمع والألم والدم، ولكن على الجانب الآخر في كل مرارة إذلال هناك حلاوة التحرير وعظمته؛ كان هناك وقت يجوب فيه الأرض طغاة مثل أتيلا وجنكيز خان وهتلر، ولكن الآن، في عصر سلطة الوعي والمعرفة، أغلق الترابط بين الحضارات والعلاقات الجديدة بين الشعوب الطريق على مثل هؤلاء الطغاة الأشرار.

التاريخ لم يتوقف عن المضي قدما. من خلال تحدي كل عقبات الحرية بلا هوادة، حررت البشرية نفسها من قيود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البالية، واندفعت إلى الأمام. كونوا مطمئنين أنكم ستتلقون الضربة من نفس القوة التي قللتم من شأنها، القوة ذاتها التي لا تسمح لكم عقليتكم المتخلفة بأخذها بعين الاعتبار. وإن غدا لناظريه قريب.

ضع اعلانك هنا