علي المقري
في اليمن ضجّة بسبب أغنية دعا فيها مغنّ حبيبته إلى مقابلته في مقهى لشرب الشاي والمشي معه، قائلا إن هذا “مُشْ غلط”.
علا صوت رجل دين شهير في تعز قائلا “بلى، إنّ هذا غلط!” وقد عُرف عنه كثرة خُطبه المحذِّرة من الاختلاط بين الجنسين في المقاهي، لكن رأي هذا الشيخ لم يقتصر على عدم إعجابه بالأغنية بل ذهب إلى التحريض على الفنّان الشاب مروان شمسان معتبرا أن أغنيته خارجة عن الأخلاق والدين ممّا دفع الفنّان إلى نشر توضيح حاول فيه أن يبرّر أغنيته.
قال البعض إن الأغنية كانت ستُسمع بهدوء ومن دون زوابع لولا خطبة هذا الشيخ يوم الجمعة الماضية ومنشوراته في “فيسبوك” التي استخدم فيها لازمة “هل ترضاه لأختك؟”، وهو قول غير دقيق إذ تأتي الأغنية بعد سنوات من التحريض ضد تجمعات الشباب من الجنسين في المقاهي والحفلات الطالبية والاجتماعية وضد عدد من الفنّانين والفنّانات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام، ولهذا عدّت الأغنية التي سمعها الملايين بمثابة انتصار لمزاج هؤلاء الشباب المقبلين على الحب والحياة.
لا تبدو أغنية “مُشْ غلط نشرب سوا شاهي ونتمشى شويّة” مختلفة في فكرتها وبساطتها عن الأغنية السودانية الشهيرة “الليلة بالليل/ نمشي شارع النيل/ أنا وانت سوا/ قهوة بمزاج”، لكنّها في المقابل لا تصل إلى جرأة تاريخ الأغنية اليمنية، حيث هناك العشرات، إن لم نقل المئات، من الأغاني التي تذهب بعيدا في التغزل بالحبيب والحبيبة وتتولّه بالجسد ومفاتنه. واليمنيون يسمعون يوميا أغاني أحمد قاسم وأيّوب طارش والحارثي ومحمد سعد عبدالله وفيصل علوي وعبد الباسط عبسي وحسين محب وجميعها لا تخلو من الولع بكل ما هو حسّي ومثير.
مع هذا، فالأغنية التي كتب كلماتها منتصر منصور ولحنها سنان التبعي، وضعت بعض المنتمين إلى أحزاب إسلامية، والمعروفين بوسطيتهم، على المحك، فقبل أسابيع نشر شوقي القاضي وهو برلماني يمني إسلامي، يُصنّف أنّه من المعتدلين، دعوة إلى الإسلاميين ليراجعوا مواقفهم تجاه الأدباء والفنّانين قائلا في منشور له على “فيسبوك” إنّه سبق وخطب في مسجد ضد أيّوب طارش وإحدى أغانيه لأنّه، أي القاضي، كان يومها يتبع مشايخه ويظن أنّهم “يفهمون كلّ شيء، وكلامهم هو كلام الله”، لكنّه حين كبر فهم معنى الأغنية واستغفر الله ودعاه أن يمدّ بعمر الفنّان، كما قال.
لم يكتف القاضي بهذا، فزاد في القول: “كارثة أن تُحاكَم نصوص الشعراء والأدباء إلى أفهام العوام أو من ليس شاعرا ولا متذوقا للأدب أيَّا كان علمه وتخصّصه”، وأضاف “نحن منتسبي الجماعات الدينية (الإسلامية) في فترة من الزمن ارتكبنا (في هذا المجال) كوارث، يوم أن كنّا نحاكم شعر البردوني والمقالح ونزار قباني وغيرهم إلى أفهام مشايخنا وخطبائنا ووعاظنا وبعضهم ما أكمل دراسته ولا يفهم في الشعر ولا الأدب شيئا”. ثم عاد في منشور آخر ودعا الشباب إلى إطلاق إبداعاتهم في كل الفنون والعلوم وأن لا يبالوا بما سماه “محاكم التفتيش التي يقودها معقّدون أغبياء يجعلون من أنفسهم معيارا للالتزام والحق والصواب”.
لكن القاضي الذي يثير بآرائه الكثير من الجدال وأعتقد البعض أنّ كلامه خطوة مهمّة نحو مراجعة مواقف الجماعات الإسلامية في مسألة حرّية التعبير والفنّ، عاد ليلتحق بركب الحملة ضد أغنية “مُش غلط” معتبرا الفنّان الشاب “بلا مسؤولية ولا التزام”!، مما أثار تساؤلات حول جدّية الجماعات الإسلامية في السعي نحو الإصلاح الديني بعد سنوات من حملات التكفير ضد الأدباء والفنّانين خاصة تلك التي يرفع أعضاؤها شعار الوسطية والاعتدال.
في السابق، كانت الجماعات المتطرّفة قد تصدّت لعرض فيلم “عشرة أيّام قبل الزفة” للمخرج عمرو جمال، ووقفت ضد حفلة للفنّانة ماريا قحطان في الوقت الذي لم تتراجع فيه مجموعات شبابية، وأخرى مدعومة من مكتب الثقافة الحكومي في المدينة، عن مواصلة مقاومتها للمظاهر المتطرّفة من خلال إقامة مهرجانات فنّية أو حفلات عائلية في الفضاء العام. لكنّه نشاط مناسباتي عابر يأتي بعد تراجع النشاط الثقافي في تعز خلال العقدين الماضيين حيث أغلقت خمس صالات مخصّصة لعرض الأفلام كما أغلقت مراكز ثقافية ومكتبات عامة، في مدينة موصوفة بالعاصمة الثقافية لليمن.
الرأي
صراع أغان في اليمن
font change
img
علي المقري
آخر تحديث 14 سبتمبر 2023
في اليمن ضجّة بسبب أغنية دعا فيها مغنّ حبيبته إلى مقابلته في مقهى لشرب الشاي والمشي معه، قائلا إن هذا “مُشْ غلط”.
علا صوت رجل دين شهير في تعز قائلا “بلى، إنّ هذا غلط!” وقد عُرف عنه كثرة خُطبه المحذِّرة من الاختلاط بين الجنسين في المقاهي، لكن رأي هذا الشيخ لم يقتصر على عدم إعجابه بالأغنية بل ذهب إلى التحريض على الفنّان الشاب مروان شمسان معتبرا أن أغنيته خارجة عن الأخلاق والدين ممّا دفع الفنّان إلى نشر توضيح حاول فيه أن يبرّر أغنيته.
قال البعض إن الأغنية كانت ستُسمع بهدوء ومن دون زوابع لولا خطبة هذا الشيخ يوم الجمعة الماضية ومنشوراته في “فيسبوك” التي استخدم فيها لازمة “هل ترضاه لأختك؟”، وهو قول غير دقيق إذ تأتي الأغنية بعد سنوات من التحريض ضد تجمعات الشباب من الجنسين في المقاهي والحفلات الطالبية والاجتماعية وضد عدد من الفنّانين والفنّانات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام، ولهذا عدّت الأغنية التي سمعها الملايين بمثابة انتصار لمزاج هؤلاء الشباب المقبلين على الحب والحياة.
لا تبدو أغنية “مُشْ غلط نشرب سوا شاهي ونتمشى شويّة” مختلفة في فكرتها وبساطتها عن الأغنية السودانية الشهيرة “الليلة بالليل/ نمشي شارع النيل/ أنا وانت سوا/ قهوة بمزاج”، لكنّها في المقابل لا تصل إلى جرأة تاريخ الأغنية اليمنية، حيث هناك العشرات، إن لم نقل المئات، من الأغاني التي تذهب بعيدا في التغزل بالحبيب والحبيبة وتتولّه بالجسد ومفاتنه. واليمنيون يسمعون يوميا أغاني أحمد قاسم وأيّوب طارش والحارثي ومحمد سعد عبدالله وفيصل علوي وعبد الباسط عبسي وحسين محب وجميعها لا تخلو من الولع بكل ما هو حسّي ومثير.
مع هذا، فالأغنية التي كتب كلماتها منتصر منصور ولحنها سنان التبعي، وضعت بعض المنتمين إلى أحزاب إسلامية، والمعروفين بوسطيتهم، على المحك، فقبل أسابيع نشر شوقي القاضي وهو برلماني يمني إسلامي، يُصنّف أنّه من المعتدلين، دعوة إلى الإسلاميين ليراجعوا مواقفهم تجاه الأدباء والفنّانين قائلا في منشور له على “فيسبوك” إنّه سبق وخطب في مسجد ضد أيّوب طارش وإحدى أغانيه لأنّه، أي القاضي، كان يومها يتبع مشايخه ويظن أنّهم “يفهمون كلّ شيء، وكلامهم هو كلام الله”، لكنّه حين كبر فهم معنى الأغنية واستغفر الله ودعاه أن يمدّ بعمر الفنّان، كما قال.
تأتي الأغنية بعد سنوات من التحريض ضد تجمعات الشباب من الجنسين في المقاهي والحفلات الطالبية والاجتماعية وضد عدد من الفنّانين والفنّانات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام
لم يكتف القاضي بهذا، فزاد في القول: “كارثة أن تُحاكَم نصوص الشعراء والأدباء إلى أفهام العوام أو من ليس شاعرا ولا متذوقا للأدب أيَّا كان علمه وتخصّصه”، وأضاف “نحن منتسبي الجماعات الدينية (الإسلامية) في فترة من الزمن ارتكبنا (في هذا المجال) كوارث، يوم أن كنّا نحاكم شعر البردوني والمقالح ونزار قباني وغيرهم إلى أفهام مشايخنا وخطبائنا ووعاظنا وبعضهم ما أكمل دراسته ولا يفهم في الشعر ولا الأدب شيئا”. ثم عاد في منشور آخر ودعا الشباب إلى إطلاق إبداعاتهم في كل الفنون والعلوم وأن لا يبالوا بما سماه “محاكم التفتيش التي يقودها معقّدون أغبياء يجعلون من أنفسهم معيارا للالتزام والحق والصواب”.
لكن القاضي الذي يثير بآرائه الكثير من الجدال وأعتقد البعض أنّ كلامه خطوة مهمّة نحو مراجعة مواقف الجماعات الإسلامية في مسألة حرّية التعبير والفنّ، عاد ليلتحق بركب الحملة ضد أغنية “مُش غلط” معتبرا الفنّان الشاب “بلا مسؤولية ولا التزام”!، مما أثار تساؤلات حول جدّية الجماعات الإسلامية في السعي نحو الإصلاح الديني بعد سنوات من حملات التكفير ضد الأدباء والفنّانين خاصة تلك التي يرفع أعضاؤها شعار الوسطية والاعتدال.
في السابق، كانت الجماعات المتطرّفة قد تصدّت لعرض فيلم “عشرة أيّام قبل الزفة” للمخرج عمرو جمال، ووقفت ضد حفلة للفنّانة ماريا قحطان في الوقت الذي لم تتراجع فيه مجموعات شبابية، وأخرى مدعومة من مكتب الثقافة الحكومي في المدينة، عن مواصلة مقاومتها للمظاهر المتطرّفة من خلال إقامة مهرجانات فنّية أو حفلات عائلية في الفضاء العام. لكنّه نشاط مناسباتي عابر يأتي بعد تراجع النشاط الثقافي في تعز خلال العقدين الماضيين حيث أغلقت خمس صالات مخصّصة لعرض الأفلام كما أغلقت مراكز ثقافية ومكتبات عامة، في مدينة موصوفة بالعاصمة الثقافية لليمن.
عُرف اليمن بأنّه أحد منابع الموسيقى في التاريخ القديم ولهذا شهد الكثير من النقاشات حول موقف الدين من الفن لعلّ أشهرها ما جاء في رسالة بعنوان “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع” للإمام محمد بن علي الشوكاني
عُرف اليمن بأنّه أحد منابع الموسيقى في التاريخ القديم ولهذا شهد الكثير من النقاشات حول موقف الدين من الفن لعلّ أشهرها ما جاء في رسالة بعنوان “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع” للإمام محمد بن علي الشوكاني (1759- 1839) الذي يعدّ أحد أعلام الاجتهاد في الفقه الإسلامي، حيث ذكر في رسالته التي حقّقها مجيب الحميدي أن موجبه لتحريرها هو “ما وقع من بعض المقصّرين من الافتراء البحت، بأن السماع محرّم بالإجماع” وأنّ “هذه المقالة مع كونها من الكذب الظاهر تستلزم القدح في جماعة من الصحابة والتابعين وسائر علماء الدين” الذين أجازوا الغناء واستمعوا إليه.
ووضع الشوكاني كغيره من السلفيين الإسلاميين شروطا للغناء والاشتغال به، ويبدو أن بعض المحرّضين ضد الأغنية الجديدة استجابوا لمؤلف “فقه الغناء والمعازف” مجيب الحميدي حين قال “إنّ محاربة الغناء الحرام لا تكون إلا بتشجيع الغناء الحلال”، فنقلوا الصراع إلى أصوات المغنين وقاموا سريعا بإنتاج أغنية مضادة لأغنية “مُشْ غلط” وباللحن نفسه تدعو إلى عدم “خدش الحياء” و”الحب بشرف” وترى أنّ “الحب مُش شاهي ولا قهوة ولا جلسة خفيّة” وأن “الأدب أسمى الفنون والعفاف أجمل سجيّة”.
نقلاً عن موقع المجلة