بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي
الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (1-6)
بلال الطيب
بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة علاقة عكسية من الصعب اختزالها، والتنافس الذي حصل خلال القرنين السابع والثامن الهجري – بين الرسوليين كدولة، والإماميين كنظرية وفكرة – ما هو إلا صورة مُصغرة لصراع لا ولن ينتهي، يتكرر في حاضرنا كعناوين، أما التفاصيل فهي مُختلفة تمامـًا.
ثالث العُمرين
أسس المنصور نور الدين عمر بن علي رسول الدولة الرسولية أواخر عام 628هـ / 1231م، وهي في الأصل امتداد للدولة الأيوبية التي استمرت قرابة الـ 59 عامًا، ضرب السكة باسمه، وأعلن ولاءه للدولة العباسية، وإليه أرسل المُستنصر أبي جعفر المنصور بمرسوم توليته.
ذكر المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي أنَّ أصول بني رسول ترجع إلى الغساسنة، وأنَّ جدهم محمد بن هارون بن أبي الفتح بن يوحي بن رستم من ذرية جبلة بن الأيهم الذي تنصر وانتقل إلى الروم، وأقام بينهم، ثم انتقل ولده ومن انضم إليهم من قومهم إلى بلاد التركمان، ثم خرجوا إلى العراق.. ورغم الخلاف والجدل بين المُؤرخين في تحديد نسب بني رسول، إلا أنَّ مُعظم مؤرخي اليمن خلال تلك الحقبة أو القريبة منها يكادون يجمعون على صحة ما ذكره الخزرجي في عقوده اللؤلوية، وعسجده المسبوك.
كان محمد بن هارون – كما أفاد ذات المُؤرخ – من المُقربين من الخليفة العباسي المستنجد، اختصه برسائله إلى الشام ومصـر، وأطلق عليه لقب (رسول)، وفي المقابل هناك من المُؤرخين من يرى بأنَّه – أي ابن هارون – كان مُقربًا من الأيوبيين، وأنَّ الأخيرين أطلقوا عليه ذلك اللقب لأمانته ودقته في تنفيذ المهام الدبلوماسية التي كانت توكل إليه، ويبدو أن هذا القول هو الأقرب للواقع لا سيما وإذا عرفنا أنَّهم جميعًا قدموا من بلاد التركمان.
أقام السلطان عمر ومن تبعه من سلاطين دولة قوية، وبنوا حضارة عظيمة، وأسسوا جهازًا إداريًا ناجحًا، بعد أنْ جعلوا في أيديهم جميع الوظائف السياسية، وأسندوا الوظائف الإدارية إلى العلماء والمُختصين، اختاروا الأخيرين بعناية فائقة، واستقدموا بعضهم من مناطق بعيدة، وأغدقوا عليهم، واستفادوا منهم – إلى جانب الوظائف السابق ذكرها – أيما استفادة، وذلك في تعليم وتثقيف أبنائهم، وتنشئتهم على حب العلم والمعرفة، وإكسابهم القيم الإنسانية النبيلة.
ونتيجة لذلك شهدت اليمن في عهد بعض أولئك السلاطين استقرارًا سياسيًا وأمنيًا كبيرًا لم تشهده من قبل، وحظيت باحترام وتقدير الدول الأخرى، وتوافدت عليها السفارات تخطب ودها، وتمتعت برخاء اقتصادي غير مسبوق، واخضرت مزارعها وحدائقها الغناء بمختلف الفواكه والحبوب والخضروات، والنباتات الطبية التي تم استجلاب معظمها من مصر والهند، وازدانت حواضرها بالمآثر العمرانية البديعة من مساجد ومدارس وقصور، التي ما تزال بعض معالمها رابضة ببهاء إلى اليوم.
بالعلم تبنى الأمم، وتزدهر الحضارات، وهذا ما أدركه سلاطين بني رسول جيدًا، وكامتداد لأسلافهم (الأيوبيين)، عمل معظمهم على إنشاء المدارس في المدن والقرى الخاضعة لحكمهم، وخصصوا لها وقفيات تقوم بسد الاحتياجات المادية لها واحتياجات المرتبين فيها، وصار التعليم بذلك للخاص والعام، ونبغ بفعل ذلك كثير من الأعلام، واكتظت المكتبات بمئات المُصنفات.
وبسبب هذه الانجازات الحضارية وغيرها؛ عُدت الدولة الرسولية – كما أفاد المُؤرخ إسماعيل الأكوع – من أبرز دول اليمن، وأخلدها ذكرًا، وأبعدهًا صيتًا، وأغزرها ثراءً، وأوسعها كرمًا وإنفاقًا. شهدت في عهدها معظم مناطق اليمن تطورًا لافتًا في مختلف المجالات، وكان عصرها بحق أزهى فترات الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، تعاقب على حكمها 16 سلطانًا، وكان معظمهم على درجة عالية من العلم والثقافة، ولولا ذلك ما سادوا وسادت دولتهم الفتية لأكثر من قرنين وربع القرن من الزمن.
كان والد مُؤسس الدولة الرسولية (السلطان عُمر) قد قدم مع حملة القائد الأيوبي طُغكتين رمضان 579هـ / ديسمبر 1183م، أظهر – أي الأب – وأولاده الأربعة إمكانيات إدارية وعسكرية، فأسند الأيوبيون لهم العديد من المناصب الإدارية؛ الأمر الذي أدى إلى بروزهم تدريجيًا في الساحة اليمنية، وكانوا بالفعل دعامة حكم تلك الدولة، وكان عُمر اليد اليمنى للمسعود يوسف آخر ملوكها.
اتخذ السلطان عُمر من مدينة تعز عاصمة لدولته، وفيها خاطبه الشيخ أحمد بن علوان ناصحًا:
يـــا ثــالث العُمرين افعـــل كفعلهما
وليستـــــوي منك فيه السـر والعلنُ
واستـــبـق عدلًا يقول القـــائلون به
نعـــم الـمليــك ونعــــم البلـدة اليمن
إنَّ الـروافض هـــدَّ الله ركـنــهــم
هم الــذين لـهذا الغـرس قــد وثنوا
كانت حينها الإمامة الزّيدِيّة مُنكمشة بفعل الضربات الموجعة التي تلقتها من الأيوبيين، وكان لها إمام – وقيل مُحتسب – يُدعى شمس الدين أحمد بن عبد الله بن حمزة، تَولاها نهاية عام 623هـ / 1226م، وذلك بعد وفاة الناصر عز الدين محمد، كان كأخيه في غاية الضعف، وتلقب بــ (المُتوكل)، ولم تتجاوز صفته كزعيم للحمزات.
صالح المُتوكل أحمد هو وعمه عماد الدين يحيى بن حمزة الرسوليين عام قيامهم، والتقوا السلطان عُمر في حصن ذي مرمر، وخاطبوه في حضرة الوسطاء من سلاطين بني حاتم قائلين: «يا مولانا نور الدين تسلطن في اليمن، ونحن نخدمك ونبايعك، على أنَّ بني أيوب لا يدخلون..»، وظلا وبعض أقربائهم حكامـًا باسمه على عدد من المناطق الشمالية.
نقض يحيى بن حمزة وأولاده ذلك الصلح 634هـ، واستحدث حصنًا في المحالب بتهامة، واستولى على حصن كوكبان بدون رضا ابن أخيه. توجه السلطان عُمر إليه بـ 60,000 مُقاتل، وأخذ جميعَ ما كان تحت يديه، وجعل على تلك المناطق نُوابًا من قبله، ولم يكد ينتهي ذلك العام حتى اعتذر الأمير الحمزي عن فعلته، فأعاده السلطان الرسولي وأولاده لما كانوا عليه، وبعد عامين كانت وفاته.
وفي عام 642هـ / 1245م تحققت للسلطان عُمر السيطرة التامة على أغلب المناطق الشمالية، وحصونها، باستثناء حصون ذي مرمر، وبيت ردم، وتلمص، والطويلة، وثلا، جعل على صنعاء ابن أخيه أسد الدين محمد بن الحسن، وقد كان الأخير كثير التمرد عليه وعلى ولده المُظفر يوسف من بعده.
كانت الحصون السابق ذكرها – وغيرها الكثير في المناطق الشمالية – محط تنافس كثير من الأمراء النافذين، وكم دارت عليها من صراعات عسكرية، وتسويات سياسية، وكان التنافس الأكبر بين الأمراء العلويين بشقيهم الهادوي، والحمزي، وكثيرًا ما جاءت صفة (العترة الأكابر) أو (الأمير الشريف) و(الأمير الكبير) لصيقة بأسماء هؤلاء، وهي الأسماء التي ستتكرر في الأحداث الآتية، وإلى جانبها عدد محدود من الدعاة الإسماعيليين، والأمراء الأكراد، وغيرهم، وهذا وإنْ دل فإنما يدل على أنَّ الإمامة الزيدية عاشت خلال تلك الحقبة أسوأ مراحلها؛ وذلك بفعل التواجد الأيوبي، ثم الرسولي، ثم العثماني.
بإعلان الشاب الثلاثيني أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إمامًا، عاودت الإمامة الزّيدِيّة الظهور – لبعض الوقت – وبقوة 13 صفر 646هـ / 6 يونيو 1248م، وأحمد هذا من نسل الإمام القاسم بن إبراهيم طباطبا، هو أحمد بن الحسين بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن إبراهيم طباطبا، ولد في هجرة كومة (بني صريم) في شهر ذي القعدة 612هـ / مارس 1216م، وتلقى تعليمه في المدرسة المنصورية بحوث، ولشرف الدين يحيى بن القاسم الحمزي كتاب في سيرته، ومن مؤلفاته: (حليفة القرآن في نكتٍ من أحكام أهل الزمان)، و(الرسالة الزاجرة لصالحي الأمة، عن إساءة الظن بالأئمة)، و(المفيد الجامع، لمنظومات غرايب الشرايع).
تلقب أحمد بن الحسين بـ (المهدي)، وعُرف بـ (أبي طير)، وأجمع غالبية علماء الزّيدِيّة وأنصارها عليه، وقيل أنَّ اختياره كان كحل وسط لإنهاء الصراع الدائر بين الحمزات، وآل الهادي، وهو الصراع الذي أودى في النهاية بحياته. كان كريـمًا فقيهًا أديبًا، عالـمـًا بِمذهبه، مُتعصبًا له، مُكفرًا لـمُخالفيه، قويًا حازمًا، لا يسكن قلعةً، ولا يأوي إلا البراري والجبال، استولى بمساعدة أنصاره المُـتحمسين على 20 حصنًا حصينًا، وعزز تواجده بسرعة خاطفة في أغلب المناطق الشمالية.
حاول السلطان عُمر استعادة تلك المناطق، لتدور بينه وبين ابن الحسين عدة معارك، كانت حد وصف صاحب (السمط الغالي): «سِجالًا على قلة عسكره، وإقبال الناس على الإمام». معركة العقاب في القرب من حصن ثلا كانت الأشهر جمادى الآخر 646هـ / أكتوبر 1248م، خسر فيها الإمام 70 مُقاتلًا، إلا أنَّه لم يخسر الحصن.
وفي مُنتصف العام التالي خسر أكثر من 300 مُقاتل؛ وذلك بعد محاولة فاشلة لصد إحدى الزحوفات الرسولية، ليُقتل السلطان عُمر في قصره بالجند – قبل أنْ ينتهي ذلك العام – على يد ثلة من غلمانه 9 ذو القعدة 647هـ / 15 فبراير 1250م، وقال المُؤرخ الخزرجي أنَّ قتله تم بمؤامرة دبرها ابن أخيه أسد الدين محمد السابق والآتي ذكره.
العصر الذهبي
لم يَنعم اليمن السعيد مَجازًا بالاستقرار السياسي طيلة القرون الفائتة، تَعاقبت عليه كثير من الدول، وفشلت مُعظمها في تحقيق ذلك الاستقرار؛ إما لبروز دول أخرى مُنافسة (كانت دولة الإمامة الزيدية أبرزها)، أو لتفاقم الخلافات الأسرية بين أمراء الدولة الواحدة، أو لوجود تمردات قبلية صادمة، بالإضافة إلى أسباب أخرى كثيرة يطول الغوص في تفاصيلها.
صحيح أنَّ عددًا محدودًا من حكام تلك الدول كان لهم توجه للإصلاح، وخلق ذلك الاستقرار، إلا أنَّ أسبابًا خارجة عن إراداتهم أدت لفشلهم، باستثناء السلطان الرسولي الثاني المظفر يوسف بن عُمر، تغلب الأخير على تلك الأسباب القاهرة التي سبق أنْ ذكرنا أبرزها، وأوجد دولة قوية جاب صيتها الآفاق، وعلى ذات النهج – وإلى حدٍ ما – مضى بعض من أتى بعده من سلاطين.
يُعد عصر السلطان المظفر يوسف العصر الذهبي للدولة الرسولية، اتسم عهده – الذي دام 46 عامًا – بالاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي، وبلغت الدولة في عهده أوج قوتها، وأقصى اتساع لها، وكان عصره بشهادة كثير من المُؤرخين أسمى عصور اليمن ثقافة، وأكثرها ازدهارًا بالعلم، وأرحبها وأوسعها عطاءً وإغداقًا على النتاج العلمي.
ولد المظفر يوسف بمكة المكرمة عام 619هـ / 1223م، وأبوه أمير بها من قبل المسعود الأيوبي، وإلى جانب تمرسه في إدارة الدولة، وحسن تدبيره، كان طبيبًا وفقيهًا وخطيبًا وجوادًا بذالًا للأموال، خاصة في الحروب، محبًا للرعية، ومحسنًا لهم، يهاب العلماء، ويجزل لهم العطاء، ويجيب دعوتهم، وأعطي من حسن السياسة والتدبير ما لم يعطه أحد من الملوك، ومن مآثره مدرسة بتعز، وجامع عدينة، ودار الضيف، والخانقة بحيس، وجامع المهجم، وجامع واسط المحالب، ومدرسة بمدينة ظفار الحبوظي، وأوقف على ذلك كله ما يقوم به، وابتنى خادمه تاج الدين بدر المظفري بزبيد مدرسةً للشافعية، ومدرسةً للقراء بالقراءات السبع، ومدرسةً للحديث النبوي، ودار ضيافة، وبنى خادمه مختص نظام الدين أيضا مدرسةً بزبيد تعرف بـ (النظامية)، ومسجدًا بزبيد، وذكر الـمُؤرخون أنَّه كان له في مصر 500 فارس يُقاتلون الإفرنج مع إخوانهم المصريين، وأنَّه كان يحمل نفقاتهم، وعتادهم من اليمن، غير ما كان يحمله لسلاطين القاهرة من أصناف الهدايا والتحف.
بدأ المُظفر يوسف عهده كأبيه من الصفر، تولى الحكم بعد مقتل الأخير، وبعد أنْ دارت بينه وبين بعض أقربائه حروب وخطوب. احتوى خطرهم، وأقره الخليفة العباسي المستعصم عبدالله نائبًا له عن اليمن، لتشهد الأخيرة في عهده ازدهارًا في شتى مناحي الحياة، وكان بالفعل تُبع زمانه.
حقد مُتوارث
توارث الإماميون الحقد والعداء ضد دول اليمن المُتعاقبة، وضد الدولة الرسولية على وجه الخصوص، وقد تقوى خلال الأربع السنوات الأولى من حكم المُظفر يوسف الإمام المهدي أحمد بن الحسين، سيطر على صنعاء ثلاث مرات، وحارب الرسوليين وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مَرة، رغم اعترافهم به حاكمـًا على المناطق الشمالية.
كان لانضمام الأمير الرسولي المُتمرد أسد الدين محمد إلى صف ابن الحسين أثره البالغ في ترجيح كفة ذات الإمام، امتدت سيطرة الأخير إلى ذمار وبيحان، وغزا مأرب بـ 1,400 مُقاتل، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم السني لبعض الوقت، والأذان بــ (حي على خير العمل).
تحالف الحمزات – وقيل بعضهم – منذ البداية مع ابن الحسين، إلا أنَّ المودة لم تدم بينهم طويلًا، اختلفوا، ودارت بينهم عدة حروب، كانت معركة قارن في البون الأعلى أشهرها 14 شوال 647هـ / 19 يناير 1250م، خسروا فيها أكثر من 380 من أقربائهم، وأنصارهم، غير الأسرى، وسقطت مناطقهم الواحدة تلو الأخرى حتى صعدة.
في كتابه (حليفة القرآن)، قال ابن الحسين عنهم: «وهم ينتقصون الإمام والإمامة، ومرة يقولون: نحن أولى بالزعامة» وخاطبهم: «فلما قام الإمام قلتم نحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال».
وفي صعدة رفع شمس الدين أحمد بن عبدالله بن حمزة راية الاستسلام، وذلك بعد مقتل صديقه السلطان عمر، صالح ابن الحسين بشروط إذلالية، وزوجه بـدنيا ابنة أخيه عز الدين محمد، ومدحه بقصيدة عصماء جاء فيها:
أضاء على الإسـلام نـورك وانجلى
بـــوجهـك ليل الهم وابتـــسم الدهرُ
وقــــد علم الأعــــلام من آل أحمد
بأنك أنت الفُلك لما طغــــى البحرُ
ألصق مؤرخو الزّيدِيّة بأحمد بن الحسين مُعجزات خارقة، وكأنَّه المسيح عيسى عليه السلام، وقالوا أنَّه – وأثناء مُكوثه بمدينة صعدة – مسح بيده على رجل مُقعد يدعى (التنين)، وأنَّ الأخير استوى من فوره قائمًا!
وقد صور الشاعر القاسم بن علي بن هُتيْملٍ ذلك المشهد الأسطوري بأسلوب دعائي رخيص، وخاطب مُعارضي سيده قائلًا:
أبعـــــد شهـادة التـنيـــــن يعـصي
مــــن الثـــقـــليــــن مأمـوم إمامه
أتاك كضفــــدع الغمــرات جهرًا
فقــــــام كســمــــهري الخط قامة
ومــــا عـــرف المسيح بغير هذا
أمــعــجــــزة النبـــوة في الإمامة
وما انفــــــرد ابن مريم عنك إلا
بعــازر فـهــو قـــد أحيـا رمامه
وذكر كاتب سيرته أنّهَ – وأثناء وقوف الإمام بمدينة ثلا – قدِم إليه رجل أعمى، وأنَّه – أي ابن الحسين – مسح علـى وجـهه ورأسه، وقرأ عليه، ودعا له، وأضاف ذات المُؤرخ: «فخرج الأعمى من بين يديه، وقد شفاه الله وعافاه، وأبصر الأشياء صغيرها وكبيرها، فكبر الناس لذلك»! وعن تلك المُعجزات الخارقة والمُلفقة قال القاضي مسعود بن عمر العنسي:
وكيف يـد كمثل يمين عيسى
إذا مَسَحَـتْ أزيــل بها السقام
أأنسى أنعــم المهــدي عندي
فـأنكـــرها؛ إذا بئـس الـذمام
وتحدث بعضهم أنَّه – أي ابن الحسين – دعا ذات معركة على صخرة كان بها نفع عظيم لأعدائه، وأنَّ الحاضرين سمعوا لها من فورهم هدة كالزلزلة، فصارت كالرماد، وقال أحدهم:
أومى إلى هضب الكَميم بطرفـه
فتـــبــددت أحـــجـاره تبـــديــدًا
الأريحيَّ المُظفرا
كان أحمد بن الحسين بلا خبرة سياسية، لم يعمل على احتواء منافسيه الطامحين، ورغم خضوع الحمزات له، عمل على تهميشهم، وإذلالهم، وتهميش حُلفائهم (بني حاتم)؛ الأمر الذي دفعهم إلى رفع راية العصيان، والتحصن في حصني ذي مرمر والعروس – هربًا من بطشه. حاربهم الإمام المستبد، ونكل بهم، فـ «خربت البساتين، وغُورت الآبار، ودُمرت البلاد» – حد توصيف كاتب سيرته – وقد صور الشاعر الحاتمي ذلك المشهد بقوله:
فلـما استـــقــلت فـي آزال ركـابــه
أنــاخ على الإسـلام حتى تدعثــرا
أبـاح دمـاء الـمســلمـيــن ومـالـها
وكان رجاها أن يــقُــوم وينـصُرا
فيا معشر الإسلام لم يبق مُنصف
ولا مُنكرٌ يـــدعــو إلى الله مُنكرا
فإن تثأروا أو تنكروا كان عاجلًا
وإلا قصــدنــا الأريحيَّ المُظفرا
وبالفعل ارتمى الحمزات وبنو حاتم في أحضان المُظفر يوسف، أصلحوا بينه وبين ابن عمه الأمير أسد الدين محمد، فتقوى بذلك أمر الرسوليين، استعادوا صنعاء للمرة الثالثة رجب 651هـ / سبتمبر 1254م، وسيطروا نهاية ذات العام لبعض الوقت على صعدة، وأجبروا ابن الحسين على الهروب إلى عُلاف غرب ذات المدينة، وأسروا قائد جيشه الحسن بن وهاس، وأعلنوا بدء العد التنازلي لزوال دولته.
وفي شعبان من العام التالي / سبتمبر 1254م حصلت موقعة الحصبات، وهي معركة شهيرة قتل فيها حميد الدين المحلي (صاحب كتاب “الحدائق الوردية”)، ركن دعوة ابن الحسين، فيما نجا منها الأخير بأعجوبة، وكتب لشمس الدين أحمد رسالة طويلة مُعاتبًا، جاء فيها: «لو بُعث أبوك وجدك رسول الله ، أكانا مع حميد أم عليه؟! أو سعيا إليك أو إليه؟!»، وأضاف: «رادفت الغمة، وراكمت سحايب الظلمة، وقتلت رباني هذه الأمة».
بعد تلك المعركة بشهرين توجه الحمزات بوفد كبير لمقابلة السلطان الرسولي المُتواجد حينها في زبيد، برئاسة كبيرهم شمس الدين أحمد الذي لم يكترث لتقريعات ابن الحسين النارية، قدم للمـُظفر جزيل الشكر، وجدد له الطاعة، وقال فيه:
ولمـا قصــدت الملك ذا التاج يــُـوسفًـا
علـــمـت بـأنَّ الــــهــم ليـس يــعــــود
دعــوت فلـــبـــانـي فـتى لا مــــزنـــدٌ
ملـولٌ ولا واهــي اليــديــــن بـلــيــــد
أعـاد إليـــه مـلك غــمدان وابـــتـــنى
مـــفـاخر فـي الـدنـــيا لـهن خـــلـــود
صــبـرت على الــعـظـائـم فـانتـــهى
إليـــك العــلى إنَّ الصــبــور ســعيـد
استقبل المُظفر يوسف الحمزات استقبالًا كَبيرًا، واستضافهم لأكثر من شهر، وأغدق عليهم الأموال (قدرت بـ 200,000 دينار)، وحفزهم على القضاء على غريمهم وغريمه، وتبارى شعراؤهم في مدحه، وسبق أنْ قال فيه الأمير علوان بن بشر بن حاتم اليامي:
فـيا أيـــها الـملــــك المُظــفــر والـذي
حمــى قصـاب الـملــــك أن تـتـهــدَّما
ملكت فلــــــم تفـخر ونلت فـــلم تظل
وجدت فلم تترك على الأرض معـدمًا
فــــلـم يبــق في الأقـوام إلا حُــثــالة
تـهـبُّ بــها ريــح الصـبــا أن تبـسما
نهــضـنا بـجيش منك يطمـوا عبابه
يضيـــق به رحب الفضا حيث يـمما
صعـدت بنــا أَعمـــال صعـدة شبحًا
تبارى كـأمــثــال الشمــــوس تـهتما
ولاحت على الأقطار أعلام يوسف
كــأن شعــاع الشـمـس منــها تسنما
كان خليفة بغداد المستعصم عبدالله قد كتب قبل ذلك بثلاث سنوات إلى المُظفر يوسف طالبًا منه القضاء على ابن الحسين، واعدًا إياه بإقطاعه مصر إنْ هو نجح في مهمته، وبالفعل استطاع الحمزات وبدعم رسولي كبير أنْ يقضوا على ذلك الإمام، قتلوه – أثناء رجوعه من الجوف – بـشُوابة ذيبين 28 صفر 656هـ / 5 مارس 1258م، وعمره 44 عامًا، ومثلوا بجثته، وحزوا رأسه، والمفارقة العجيبة أنَّ الخليفة العباسي قتل في ذلك اليوم!
كان لخذلان علماء الزّيدِيّة لابن الحسين أمثال أحمد بن محمد الرصاص، والحسن بن وهاس، وإصدارهم فتوى ببطلان إمامته؛ الأثر الأكبر في سهولة القضاء عليه، تخلوا وأنصاره عنه، وقيل أنَّه صمد في معركته الأخيرة لوحده، وفيهم قال أحد الشعراء:
الــويـــــل كـــل الــويـــل للـــرصــاص
ولـحـــــزبــه الــدانــي معًا والـــقـاصي
يــا ويـــلهـــم يــــوم القيــــامة في لظى
مــن شــدِّ أغــــلالٍ وســـفــع نــواصي
حــرصــــوا على قــــتــــل الإمـام وهم
على الكفـــار والفساق غـيــــر حراص
أرسل شمس الدين أحمد للمـُظفر يوسف برأس الإمام الصريع، وقيل غير ذلك، وأنَّه اكتفى بإرسال كتاب صغير «حدد به الخدمة، وشكر النعمة لله تعالى، ثم للمقام السلطاني خلد الله ملكه»، وقال فيه: «وكان من سعادة مولانا السلطان ويمن طيره، أن قتل عدوه على يد غيره»، وأنهاه ببيتين من الشعر:
وأبـــلـج ذي تاج أشــــــاطت رماحـنا
بـمـعــــتـرك بيـــن الفـوارس أقــتــما
هــــوى بين أيـدي الخيل إذ فتكت به
صدور العوالي تنضح المسك والـدما
لم تطل مدة بقاء شمس الدين أحمد بعد مقتل ابن الحسين كثيرًا، لحق بعد شهرين وعشرة أيام به، ولمؤرخي الإمامة غمز ولمز في سيرته؛ بل لم يعده البعض إمامًا، والسبب تخليه عن دعوته، ومبايعته للرسوليين، ومناصرته لهم.
خلفه أخوه نجم الدين موسى، إلا أنَّه – هو الآخر – مات بعده بشهرين، فخلفهما أخوهما الحسن، فلحق بهما قبل أنْ ينتهي ذلك العام، ثم آل الأمر لصارم الدين داؤود، وكان الأخير – كما سيأتي – مُتسلطًا، ناكثًا للعهود، والأعجب أنَّ تلك النهايات المُتجانسة حدثت بالتزامن مع السقوط المُريع للخلافة العباسية في بغداد على يد التتار!
.. يتبع